معتصم حمادة *يلاحظ المراقب أنّ العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، بدأ منذ عمليّة «الشتاء الساخن» يتبع أسلوباً مختلفاً عن السابق، وأنه بات يعكس سياسة جديدة لحكومة أولمرت في التعامل مع القطاع.
ففي الفترة التي كان فيها القطاع تحت إدارة السلطة الفلسطينية (في عهدي ياسر عرفات ومحمود عباس)، كانت الضربات الإسرائيلية تستهدف، من ضمن ما تستهدفه، القيادات الأولى في «حماس». حتّى إنّها في بعض الفترات، لم تميّز بين العسكريّين والسياسيّين منهم، فامتدّت يد الاغتيال لتطال رموزاً تنتمي إلى «تيّار الاعتدال» في الحركة كإسماعيل هنية على سبيل المثال.
بعد فوز «حماس» في الانتخابات التشريعية، لم تتوانَ إسرائيل حتى عن التهديد باغتيال الرئيس هنية، وآخرين في قيادة الحركة، رغم أنهم باتوا من رموز السلطة الفلسطينية، وأعضاء في حكومة هنية الأولى والثانية، وهو ما أثار حفيظة محمود عباس، آنذاك، فعدّ التطاول الأمني على رئيس «حكومته» تطاولاً عليه هو شخصياً كرئيس للسلطة الفلسطينية.
الملاحظ في السياق أنّ عمليات الاغتيال هذه بقيت على جدول أعمال الجيش الإسرائيلي، حتى في المراحل التي لم تخفِ فيها الحركة الإسلامية استعدادها للتهدئة مع إسرائيل، بل حتى في المراحل التي لجأت فيها «حماس» إلى التهدئة من طرف واحد؛ وإلى محاولة إقناع الأذرع العسكرية في القطاع بالالتزام بالتهدئة هي الأخرى، لقناعة لدى قيادة «حماس» بأن مصلحتها كطرف سياسي ممسك بزمام الحكومة، كانت تتطلب مثل هذا الموقف. وكثيراً ما لجأت قيادتها في القطاع، وفي الوقت الذي كانت تتولى فيها مسؤوليات رسمية في السلطة، إلى النزول تحت الأرض، خوفاً من
الاغتيال.
بعد لجوء «حماس» إلى الحسم العسكري في القطاع، وفرض سيطرتها المنفردة عليه، أعلنت إسرائيل القطاع «كياناً معادياً». وهذا يفترض وفق رأي المراقب، أن تتصاعد العمليات ضدّ هذا «الكيان»، وأن تكون الجهة التي تدير هذا «الكيان» هي الأكثر استهدافاً من العمليات العسكرية الإسرائيلية.
لكن الملاحظ أنّ الأمور سارت باتجاه مغاير؛ صحيح أن العمليات العدوانية تواصلت ضد القطاع، لكن الصحيح أيضاً أن إسرائيل أخذت تتبع أسلوباً جديداً، من بعض ملامحه:
ـــ التوقف عن استهداف القيادات السياسية والعسكرية لحركة «حماس»، رغم تصاعد لهجة العداء ضدّ هذه الحركة.
ـــ الانتقال نحو استهداف قيادات ميدانية في أذرع عسكرية كـ«سرايا القدس» التابعة لحركة «الجهاد الإسلامي»، وكتائب المقاومة الوطنية الفلسطينية، التابعة للجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين.
ـــ توسيع العدوان العسكري ليطال المدنيين، من دون تمييز بين رجال ونساء وأطفال. ولاحظ المراقب أنّ استهداف الأحياء المدنية لم يكن بفعل أخطاء في الأداء العسكري الإسرائيلي، بل كان عملاً مقصوداً في حدّ ذاته. وقد حاولت إسرائيل أن تبرّر أعمالها هذه بتحميل المقاتلين الفلسطينيين المسؤولية بالادعاء أن هؤلاء يتموضعون بين المدنيين، ويتّخذون منهم دروعاً بشرية، ممّا يتسبّب في وقوع قتلى في صفوفهم.
ـــ تضييق الخناق على القطاع، وفرض حصار عليه يحرمه من المواد التموينية، والوقود المحروقات والأدوية ويحول الحياة فيه إلى ما يشبه الجحيم.
ـــ إبقاء الحالة السياسية في ذروة التوتير من خلال إبقاء سيف التهديد بعملية واسعة ضد القطاع مسلطاً فوق الرؤوس، والقول إنّ كلّ شيء بات جاهزاً لتنفيذ العملية، وأنّه لم يتبقَّ سوى اختيار التوقيت المناسب. جرى تحديد مواعيد مفترضة ثم اللجوء إلى التأجيل تحت حجج مختلفة، وفي حرب أعصاب لا تنتهي.
يعكس هذا الأسلوب سياسة إسرائيلية تعمل على الإفادة إلى أقصى حدّ من حالة الانقسام في الوضع الفلسطيني، ومن كون القطاع «حالة متمرّدة» على السلطة الشرعية ممثّلة برئيسها محمود عباس.
وخلافاً للتقديرات، فإنّ المراقب يرى أن إسرائيل لم تضع في حسابها، في ظلّ التطورات الفلسطينية هذه، أن تنوب عن محمود عباس في إعادة القطاع لسلطة رام الله و«إخضاعه» لها. فتورّط أولمرت في مثل هذه العملية من شأنه أن يقضي على ما تبقى له من شعبية في إسرائيل، خاصة إذا ما تكبّد جيشه خسائر فادحة.
كما من شأن ذلك أن يقضي على السمعة السياسية للرئيس عباس، الذي سيبدو مجرد دمية بيد الإسرائيليين، يحسمون عنه خلافاته مع خصومه الفلسطينيين. فالذين بشّروا بأن إسرائيل ستنوب عن عباس في حسم خلافاته في غزة، إنما كانوا يستهدفون في الأساس أبو مازن، لا التحذير من خطورة التدخل الإسرائيلي، لقناعتهم الكاملة بأن مثل هذا التدخل ليس وارداً في حسابات أولمرت على الإطلاق.
يلاحظ المراقب أنّ أولمرت يعمل لإدامة الانقسام الفلسطيني بين القطاع والضفة، ولتحويل هذا الانقسام إلى واقع سياسي جديد، تكون له تفاعلاته على المستويات المختلفة، كما يلاحظ المراقب أيضاً أن حكومة أولمرت تتبع في هذا السياق مجموعة من الخطوات تعتقد أنها تحقق أهدافها:
ـــ فهي تحرم على الرئيس عباس، كي تواصل تعاملها معه، من أن يعود إلى التعاون السياسي مع «حماس»، وقد عبّرت إسرائيل عن موقفها هذا بوضوح عند توقيع «فتح» و«حماس» على إعلان صنعاء.
ـــ في المقابل، تماطل إسرائيل في مفاوضاتها مع عباس، وتتهرب من استحقاقات العملية التفاوضية، متذرعة بالحالة القائمة في القطاع. ولقد عبرت وزيرة الخارجية الإسرائيلية تسيبي ليفني عن هذه السياسة المراوغة حين ادعت في مؤتمر التنمية والديموقراطية والتجارة الحرّة في الدوحة أن سيطرة «حماس» على القطاع هي التي تعيق قيام دولة فلسطينية.
ـــ في الوقت نفسه، لا تتردّد إسرائيل في التعامل مع القطاع (هذا الكيان المعادي) ولا تعارض، بين فترة وأخرى، تخفيف قبضة الحصار عليه، لكن عبر الوسيط المصري، وليس عبر العلاقة المباشرة مع «حماس»، أو عبر السلطة الفلسطينية.
فالحوار من أجل التهدئة (في القطاع بمعزل عن الضفة الفلسطينية) يجري عبر الوسيط المصري. وفي هذا السياق عقدت لقاءات بين قيادات «حماس» وممثلين عن مصر في العريش أكثر من مرة. اللافت هنا أنّ إسرائيل، التي تصرّ على إغلاق معبر رفح، لا تعارض مرور قيادات الحركة الإسلامية إلى العريش، عبر رفح، وتجري حركة هؤلاء على هذا المعبر، بالتنسيق بين الجانبين الإسرائيلي والمصري.
والحوار من أجل الوصول إلى صفقة لإطلاق سراح الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط مقابل دفعة من الأسرى الفلسطينيين، تجري أيضاً عبر الوسيط المصري.
والانفراجات في الحصار تجري أيضاً باتفاق مع الوسيط المصري. فهو الذي يتوسط لتزويد محطة كهرباء غزة بالوقود، وليس عباس. ويرى المراقب أن الوساطة المصرية هي التي باتت مقبولة عند الإسرائيليين، وليس وساطة الرئيس عباس، والأمر نفسه بشأن المواد التموينية والمحروقات وشحنات الأدوية، وعبور المرضى، والعائدين إلى القطاع من سفر بعيد.
ولعلّ أبرز مثال يؤكّد إصرار الإسرائيليّين على التعامل مع «حماس» عبر الوسيط المصري، لا عبر الرئيس عباس، رفضهم السماح للرئيس الأميركي السابق جيمي كارتر دخول القطاع من المعابر الإسرائيلية. لكنهم في الوقت نفسه لم يمانعوا في سفر وفد كبير من الحركة إلى القاهرة، عبر معبر رفح، ليلتقي كارتر، وأن يسافر بعض أفراد هذا الوفد إلى دمشق ومن ثم العودة إلى غزة عبر رفح أيضاً. في الوقت نفسه، اعترضت إسرائيل على خروج وفد من الجبهة الديموقراطية عبر معبر رفح ليلتقي كارتر في القاهرة.
هذه السياسة، كما يرى المراقب، من شأنها أن تخلق واقعاً سياسياً جديداً، تصبح فيه القاهرة هي المعنية بشؤون القطاع في العلاقة مع الجانب الإسرائيلي، وهي الضامن لأية اتفاقية يتم التوصل إليها بواسطة منها، بين إسرائيل وقيادة «حماس» في القطاع. وهو ما يعيد القطاع، عبر خطوات تراكمية، إلى المرجعية المصرية، في ما يشبه الحالة التي كانت قائمة ما قبل عام 1967، مع الأخذ بالاعتبار المتغيرات الفلسطينية، والمصرية والإسرائيلية.
ممّا لا شك فيه أن القاهرة تدرك هذه الحقيقة، لكنها تدرك في الوقت نفسه أنها لا تستطيع الوقوف مكتوفة الأيدي في مواجهة الأوضاع المتوترة في قطاع غزة، نظراً للترابط الشديد بين الوضع في سيناء، امتداداً إلى القاهرة، وبين الوضع في القطاع. في هذا المجال كتب الكثير عن الأمن القومي المصري، وعن موقع قطاع غزة في مترتبات هذا الأمن. لذلك، تبدو واضحة للمراقب، السياسة المصرية المزدوجة إزاء حركة «حماس» وإزاء قطاع
غزة.
فالقاهرة، بالتنسيق المسبق مع عباس، تتدخل لتخفيف وطأة الحصار والعدوان على القطاع، لكنها لا تكف في الوقت نفسه عن تأنيب حركة «حماس»، واتخاذ موقف واضح منها، هو أقرب إلى الخصومة منه إلى الموقف المحايد.
أما الحركة في القطاع، فلا يبدو أنها مستاءة من هذا الوضع، بل يمكن القول إنها تملك رؤية لكيفية التعامل معه. فهي من جهة تقبل بالوسيط المصري، في موقف يهدف إلى التشكيك بشرعية الرئيس عباس بالتحدث باسم الفلسطينيين ونيابة عن القطاع. وهي من جهة أخرى تضغط على الوسيط المصري ليتحمل مسؤولياته «الأخوية والقومية والإسلامية» نحو القطاع، وهدفها من ذلك فتح معبر رفح. فمشكلة «حماس» مع المعابر، ليست أنها تفرض حصاراً تموينياً على القطاع. إنّ ما تريده «حماس» بالتحديد هو أن يفتح معبر رفح لأنه ممرها ليعبر منه «كيان غزة» نحو علاقاته «الإخوانية» والإقليمية والدولية الإسلامية.
ويرى المراقب أن التحذيرات بخطورة هذه التطورات على المشروع الوطني الفلسطيني، لا تثير اهتمامات قيادة «حماس» في غزة. فالمشروع السياسي لهذه القيادة يفترق عن المشروع الوطني الفلسطيني لمشروع آخر، أفصح عنه محمود الزهار، حين رهن مصير القضية الفلسطينية بنهوض ثورة إسلامية عالمية يكون بمقدورها هي وحدها إزالة دولة إسرائيل.
هذه الرؤية تلتقي مع سياسات «الإخوان المسلمين» في القاهرة، وهو ما حذرت منه «الأهرام» أخيراً حين كشفت عما أسمته مخطط «حماس» لاجتياح الحدود الفلسطينية ـــ المصرية.
يبقى السؤال: هل باتت القضية الفلسطينية أمام مرحلة جديدة، يخرج فيها القرار من يد القيادات الفلسطينية، ومن يد منظمة التحرير الفلسطينية ليتحول تدريجياً إلى قبضة القوى الإقليمية. وأي مستقبل لفلسطين سيرسم عندها؟

* عضو المكتب السياسي للجبهة الديموقراطيّة لتحرير فلسطين