إسكندر منصور *فشِل الجميع. فشِل السياسيّون كلّ السياسيّين في الموالاة والمعارضة. فشلوا في ما قالوه ومارسوه. فشلوا في ما وعدوا به و«أقسموا اليمين» من أجله. فشلوا في أن يكونوا أوّلاً وأخيراً سياسيين. فشلت الحكومة أكانت شرعيّة وميثاقيّة أم لم تكن. فشل رجال الدين الذين كانت لهم حصة الأسد في التعبئة والتحريض. فشل الإعلام وخاصة المرئي منه ونجح في تشويه الحقائق وتشويه التصاريح وإبراز الخلاف الطائفي والمذهبي على أنه الأساس. غريب أمر أمراء الطوائف في لبنان. كانوا (موالاة ومعارضة) يحضّرون للحرب ويتكلمون عن «العيش المشترك.» كانوا (موالاة ومعارضة) يكدّسون السلاح ويتكلمون عن حصريّة السلاح بالدولة فقط. كان السلاح يصلهم من البحر ويرسلون الرسائل إلى الأمم المتحدة وتيري رود لارسن لإغلاق الحدود مع سوريا ومراقبتها نتيجة تدفق السلاح إلى حزب الله. كانوا (موالاة ومعارضة) يتكلمون عن السيادة وهم في طريقهم إلى اجتماع طارئ مع سفير أو مبعوث من دولة قريبة أو بعيدة يلقّنهم ما يجب أن يُقال وما يجب أن لا يُقال.
فشل سعد الحريري. فشل هذا الذي ورث رصيداً سياسياً وشعبياً قلّما يرثة شاب لبناني في عمره. لم يكن له منازع (أو حتى شريك فعلي) ليس فقط على زعامة الطائفة السنيّة بل تعداها إلى حضور في الوسط المسيحي أهداه إيّاه والده الشهيد رفيق الحريري.
السرايا كانت جاهزة لاستقباله رئيساً للوزراء متى شاء ومتى أراد. خاض غمار الانتخابات النيابيّة بكل «تواضع» ومن دون أن «يجرح» شعور أخصامه السياسيين. كان «متحضراً» (على عكس الذين «وسخّوا» بيروت في اعتصامهم على حدّ تعبير مروان حمادة) فقال في أخصامه وكل من لا ينتخبه بأنه قاتل لأبيه.
تتلمذ في فنّ تشكيل الميليشيات على يد خبراء مجربين من حلفائه: وليد جنبلاط وسمير جعجع وكان له ما أراد. بعدما اشتدّ ساعده وقالوا له إنّهم جاهزون فأطلق خطبته المشهورة «نحن لها». هي على وزن «بفتح بيّا» التي جاءت على لسان سمير جعجع بعد إغلاق طريق المطار. وهكذا جاء قرارا الحكومة (الحرب) على المقاومة لتعيد لبنان إلى زمن حسبناه ولّى. أخبرنا مكتبه الإعلامي بأنّه بقي «صامداً» في قريطم بعدما رأى بأم عينه انهيار مؤسّسته الأمنيّة في ساعات قليلة.
أمّا وليد جنبلاط، فقد فشل أيضاً. لم يكن يهدأ خلال الثلاث سنوات الأخيرة. حركة دائمة وللأسف (أقول للأسف لأنني نشأت على «الإيمان» بكمال جنبلاط ومشروعه السياسي ككل اليساريين، والذي سيكون ملهماً لأي برنامج تغييري في لبنان ومن أجل لبنان في المستقبل) في التعبئة والتحريض.
كان مصدر إعجاب الكثيرين (وإن لم يشاركوه كل قناعاته) من اللبنانيين لشجاعته في التصدي لحكم الوصاية السوري. وبعد ذلك (إلى أين؟ هو يحب هذا التعبير)... لم يدع للصلح مكاناً. لم يحسب خطّ الرجعة كما يُقال. تارة يتهم فريقاً من اللبنانيين بشراء الأراضي لفرسنة لبنان، وتارة يتهم الضاحيّة بأنها مصدر السيارات المفخخة التي أدت إلى كثير من الاغتيالات، وتارة يقولها وبكل صراحة بأنه «جزء من المشروع الأميركي في المنطقة»، وتارة وبعد أن عاد من زيارته الأخيرة للمملكة العربيّة السعودية يصرّح بأنه جاهز للفوضى والدمار ولحرق الأخضر واليابس وإن اضطرَّ فسيجلب الصواريخ من حزب الله. وإن كانت بعض أطراف المعارضة قد حمّلت لبنان ما لا يستطيع أن يتحمله ليكون رأس الحربة في التصدي للمشروع الأميركي؛ ففي المقابل حمّل وليد جنبلاط لبنان ما لا يستطيع أن يتحمله وخاصة شعار إسقاط النظام السوري.
وأخيراً بعد مؤتمره الصحافي (الشرارة)، الذي فتح الطريق لحكومة السنيورة لاتّخاذ القرارين الشهيرَين غير البريئين وإرسالهما إلى الأمم المتحدة كمقدمة لإظهار المقاومة كفريق خارجي (أي ليس لبنانياً) معتدٍ على الدولة اللبنانيّة، قال فيه حازم صاغيّة مادحاً ومعجباً: «وليد جنبلاط ساحر الحياة السياسية وفاتنها».
لم يكن فشل المعارضة أقلّ حجماً من فشل الموالاة. لم يكن احتلال بيروت مهد المقاومة من طرف لبناني يتمتع باحترام وتقدير قلّ نظيرهما بين الشعوب العربيّة نظراً لدوره في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي بداية الفشل، بل تتويجاً لفشل بدأت معالمه في الممارسة السياسيّة للمعارضة خلال السنتين الأخيرتين.
لم تدرك المعارضة مدى جذريّة نهج الموالاة في الارتهان لسياسة الإدارة الأميركيّة الحاليّة في أقصى تجلياتها، التي ليست سوى إدخال لبنان في حرب أهليّة جديدة لإنهاك المقاومة وتشويه صورتها كمقدمة للإجهاز عليها. اقتصر نضال المعارضة على عدد الوزراء والمطالبة بقانون انتخابي جديد على أساس القضاء يؤمّن في نظر أقطابها عودتها إلى السلطة من خلال مجلس نيابي جديد.
بعد تظاهرة المليون ونصف المليون فقدت المعارضة زمام المتابعة والمثابرة في الاتجاه الصحيح (العصيان المدني)، فكان الاعتصام رمزاً للركود والسكون والشيخوخة السياسية.
كان لتطيُّف المقاومة وحصرها في حزب الله (التي نجح فيها عسكرياً نجاحاً قلّ نظيره في تاريخ الصراع مع إسرائيل) من جانب حكم الوصاية السورية على رأس الأسباب في كشف المقاومة ونزع الغطاء الداخلي عنها، وخاصة بعد خروج السوريين من
لبنان.
هكذا بعد غزو العراق وإطلاق عنان الصراع السني ـــ الشيعي بدور أميركي واضح من جهة، وبداية ظهور الدور الإيراني البارز على خلفيّة الملف النووي وملء الفراغ العربي في ما يخصّ قضية فلسطين وإن كان في الخطب الناريّة لا أكثر و لا أقلّ من جهة أخرى، بدت المقاومة في لبنان كأنها جيش الشيعة ليس فقط في مواجهة إسرائيل بل أيضاً في مواجهة «القوى السنيّة»، وخاصة على خلفيّة التوتر في العلاقات السعوديّة الإيرانيّة.
أصبحت «شيعية» المقاومة مصدر قوتها من جهة، نتيجة التفاف الطائفة الشيعيّة حولها، إضافةً إلى دور إيراني فاعل في مدّها مادياً وعسكرياً وأيديولوجياً؛ كما أصبحت «شيعيّتها» مصدر ضعف وعبء على المقاومة كشفتها أمام أخصامها ورفعت عنها غطاء الالتفاف حولها من أبناء الوطن الواحد؛ كما أنّها حوّلت انتصار حرب تموز انتصاراً يُقال فيه الكثير ما عدا أنه عامل توحيد للوطن.
ما حصل في طرابلس يستدعي أسئلة كثيرة. هل هذه جماهير تيار «المستقبل» التي احتلت ونشرت الذعر والقتل والدمار في مدينة طرابس وحلبا أم جماهير شاكر العبسي؟ هل نشهد انهيار الحريرية حيث ترثها التيارات الأصوليّة في الشمال وربما في بيروت أم لا يزال عند الحريري متّسع من الوقت للإمساك بزمام الأمور؟ الوقت ثمين والتلكّؤ خطر والإدارة الأميركيّة الحاليّة في أفول ودخلت مرحلة اللا فعل.
ما على سعد الحريري إلا أن يحزم أمره ويذهب إلى الحوار ويعيد إلى إلى دائرته الصغيرة مستشارين أبعدتهم الإدارة الأميركيّة عنه كالفضل شلق على سبيل المثال قبل أن ترثه الشاكر عبسيّة ويذكره التاريخ بأنّه حوّل لبنان إلى موقع متقدّم لـ«القاعدة» (طبعاً بفضل الاحتكام إلى السلاح من جانب حزب الله).
سعد الحريري لا يستطيع أن يقوم بهذه المهمّة وحده. فالمعارضة وتحديداً حزب الله تقع عليه مسؤوليات جسام. على حزب الله أن ينسحب عسكرياً انسحاباً كلياً من بيروت لأنّ إطالة وجوده العسكري وإن يكن غير مباشر في بيروت بعد تسلُّم الجيش ستكون أرضاً خصبة للشاكر عبسيّة لتنمو وتحلّ تدريجياً مكان الحريريّة. ويل لأمّة تحوّلت فيها الكلمة إلى رصاصة.
* كاتب لبناني مقيم في الولايات المتّحدة الأميركيّة