يوسف أحمد *كما ركّزت كتب التاريخ الإسرائيلية على إنكار وجود الشعب العربي الفلسطيني، سواء في فلسطين أو حتى في العالم، ولم تأتِ هذه الكتب على ذكر عبارة «الشعب الفلسطيني» على الإطلاق، بل تذكر «العرب في أرض إسرائيل». وركزت على مقولة المشروع الكولونيالي ــــ الصهيوني الذي بنى معادلته على ادّعاء أن «فلسطين أرض بلا شعب... لشعب بلا أرض». وتناسى واضعو هذه الكتب مع زعمهم هذا، أن فلسطين أرض فيها شعب، ولسنا في معرض إثبات ذلك، فحقيقة وجود الشعب الفلسطيني على أرض فلسطين لا يستطيع أحد أن ينكرها، إلا إذا استطاع أن ينكر معها حقيقة وجود الإنسان والأرض والشمس والهواء... هذا الشعب له تاريخه وحضارته، وله ثقافته وعاداته وتقاليده وتراثه التي عمّقت جذورها في أرض الوطن ووجدان الشعب.
نلاحظ في هذا السياق، أنّ كل كتب التدريس العبرية تحرص على عدم ذكر حقيقة النكبة الفلسطينية، بل وأكثر من ذلك، فإن مصطلح كلمة «نكبة» أو «قضية اللاجئين» لا يمكن أن تجده في أي كتاب من الكتب الإسرائيلية، وذلك مطبّق أيضاً على المدارس العربية الممنوع عليها أن تعلّم تاريخ القضية الفلسطينية في المناهج الرسمية، وهذا صراع يعاني منه فلسطينيّو 48، حيث الرواية الفلسطينية معدومة في المنهاج التعليمي للطلاب العرب. وقد جرت محاولات عدة على مدى سنوات طويلة لتغيير المنهاج التعليمي، إلا أنها باءت بالفشل وظلّ الطالب العربي الفلسطيني يدرس الرواية الإسرائيلية ويقدم الامتحانات بها مرغماً.
سيطرة الاحتلال الإسرائيلي على جهاز التعليم في المدارس العربية ومحاولة فرض الفكر الصهيوني لبناء أجيال موالية للدولة العبرية لم تنجحا رغم مرور ستين عاماً، فقد نجح الفلسطينيون في مناطق الـ48 في إيجاد أجواء بديلة، للتمسّك بالهوية الفلسطينية ومعالمها، من خلال التحايل على المناهج، سواء بالمواجهة والاعتراض المباشر، أو عن طريق مناهج بديلة تهدف إلى تأكيد الهوية الوطنية، وخصوصاً في المدارس الأهلية المحرَّرة نوعاً ما من قبضة وسيطرة السلطة المباشرة.
يوماً إثر آخر تتعمق خشية الاحتلال الإسرائيلي من حقائق التاريخ والجغرافيا، وهذا ما تؤكّده الضجة الكبيرة التي أثيرت العام الماضي ضد وزيرة التعليم الإسرائيلية، يولي تامير، بسبب تصديقها نشر كتاب جغرافيا للصف الثالت الابتدائي في المدارس العربية يحمل عنوان «أن نعيش معاً في إسرائيل».
ولعلّ أكثر ما أثار زوبعة اليمين الإسرائيلي هو الفقرة الآتية: «مع نهاية الحرب عام 1948، انتصر اليهود على العرب، ووقّعت اتفاقيات لوقف إطلاق النار بين دولة إسرائيل وجاراتها. العرب يطلقون على تلك الحرب نكبة، أي مصيبة كبيرة. بينما يطلق عليها اليهود حرب الاستقلال».
وعاى الرغم من أن الكتاب يعرض لحوادث النكبة وفقاً للرواية الإسرائيلية المشوّهة، ولم يتجاوز السقف الصهيوني، فقد أثار نشره وتضمينه كلمة «نكبة» ردود فعل صاخبة من مختلف الأحزاب اليمينية الإسرائيلية، التي طالبت رئيس حكومة العدو بإقالة الوزيرة، ورأت أنّ تلك الخطوة تمثّل خطراً كبيراً على «الدولة الإسرائيلية» ومناهضة للصهيونية، وتعطي الشرعية للعرب بعدم الاعتراف بدولة إسرائيل على أنّها دولة الشعب اليهودي». ورأوا أنّ «يوم اتخاذ مثل هذا القرار (المصادقة على الكتاب) هو بمثابة يوم النكبة لجهاز التعليم الإسرائيلي».
هذه الحادثة تعيد إلى أذهاننا، مثيلاً لها، الضجة التي أثيرت ضد وزير التعليم الإسرائيلي الأسبق يوسي ساريد بسبب اقتراحه تضمين المنهج الدراسي الخاص بالنصوص الأدبية بضعة أبيات من قصائد الشاعر الفلسطيني محمود درويش.
وقد اضطرّ ذلك الحكومة الإسرائيلية آنذاك لأن تواجه تصويتاً بالثقة عليها في الكنيست الإسرائيلي بسبب هذا الاقتراح، حيث رأى اليمين الإسرائيلي أن أعمال الشاعر الفلسطيني محمود درويش تعادي إسرائيل لأنها تتحدث عن آلام الفلسطينيين وتشتتهم في المنافي بسبب العدوان والاحتلال الاسرائيليين للأراضي الفلسطينية.
وقد علّق درويش على هذا الأمر مستغرباً أن تسبّب أشعاره مثل هذا الجدل داخل إسرائيل قائلاً: «إنه من الصعوبة التصديق أن أكبر قوة عسكرية في الشرق الأوسط تهددها بعض الأبيات الشعرية».
إنّ كتب ومناهج التعليم الإسرائيلية تُعدّ من أهم ركائز الكيان الإسرائيلي، وأحد ركائز نشر الفكر الصهيوني، الذي يسعى إلى محو الذاكرة وتزوير الحقائق والتاريخ، وهذ ما يمكن تلمّسه من خلال سياسات التهويد التي تظهر في جميع مواد ومناهج التعليم الإسرائيلية التي تحاول طمس الحقيقة وتغيير المعالم بعدة طرق، منها على سبيل المثال لا الحصر: استبدال جميع أسماء القرى والأماكن والأنهار بأسماء عبرية، مثل «صفات» بدلاً من صفد، و«بيت شان» بدلاً من «بيسان»، و«جبال يهوذا» بدلاً من «جبال القدس والخليل»...
ولعلّ أهمّ ما يميّز التربية والتعليم في دولة الاحتلال الإسرائيلي هو «عسكرتها» لدرجة تجعل الطالب في مختلف مراحل التعليم جندياً، يعيش حالة صراع وحرب مستمرّة مع الشعب الفلسطيني وضدّ عودة اللاجئين الفلسطينيين، واعتبار عودتهم إلى داخل مناطق 48 خطراً استراتيجياً سيقضي على الهوية اليهودية لدولة إسرائيل ووجودها، وسيكون بمثابة انتحار جماعي للإسرائيليّين.
من هنا السؤال: كيف يمكن لنا، نحن الفلسطينيين، أن نواجه هذا التزوير للحقائق والتاريخ؟ الذي لم يقتصر على الطلاب والمدارس في مناطق عام 48، بل امتد الضغط الإسرائيلي والأميركي على السلطة الفلسطينية في مناطق الضفة والقطاع من أجل تغيير برامج التعليم باتجاه يرضي إسرائيل، ويمنح ممارساتها وإيديولوجيتها شرعية في كتب التعليم الفلسطينية!
ونسأل أيضاً: أين هي الجهود العربية لفضح مناهج التعليم الإسرائيلية العنصرية التي تسعى إلى تشويه التاريخ لتبرر حرمان الفلسطينيين من حقوقهم الوطنية التاريخية؟
إنّه صراع طويل. ولكن من المؤكّد أنّ شعبنا الفلسطيني الذي صاغ بدمه كل أشكال النضال ليفشل المؤامرة تلو الأخرى، سوف ينتصر في نهاية الطريق لأنه صاحب الحق وصاحب الأرض، ومهما حاولت إسرائيل أن تزوّر التاريخ فإن ذلك لن يغيّر من الحقّ شيئاً، ومهما طال الشتات سوف يبزغ فجر العودة وتسطع شمس الحرية فوق الأرض الفلسطينية التي روتها دماء الشهداء منذ أكثر من ستين عاماً، ومصير الاحتلال حتماً إلى
الزوال.
* كاتب فلسطيني