أسعد أبو خليل *في أيام العنف الطقوسية في لبنان، عليك أن تتحمّل الكثير. يكفي ما عليك أن تعانيه من حلقات يوميّة لـ«كلام (بعض) الناس» وترى تلك الشهادات العاطفيّة من مارسيل غانم لـ«خادم الحرمين»، ودفاعه عن (وهم) الدور السعودي «المحايد» في لبنان، في الوقت الذي تؤكد فيه المملكة انحيازها لفريق الدحلان ـــ السنيورة ـــ المالكي ـــ قرضاي. في لبنان (ترى الكاميرا تقترب من وجه مارسيل كلما ذكر «صديقه» رفيق الحريري، لتطفر الدمعة الثمينة من عينيه).
مسؤولة صفحة ثقافيّة في جريدة يمينيّة تدافع عمّا تسمّيه إبعاد قسمها عن السياسة. أما تحيّاتها للسنيورة فهي فوق السياسة، هي الحداثة بعينها. وأن تشاهد سمير جعجع محاطاً بثلّة (بضمّ الثاء طبعاً، لا بكسرها) من اليساريّين السابقين، يلقي فرماناً من مربّعه الأمني في معراب (الكل يتمتّع بمربع أمني في لبنان، إلا العلمانيّون. فلنحوّل محيط البيت العلماني في بيروت إلى مربع أمني لتكتمل الصورة) يحيّي فيه بيروت لصمودها في وجه عدوان إسرائيل. وهؤلاء اليساريّون السابقون الذين تحلّقوا حوله تسابقوا للقاء صولانج الجميّل لتخبرهم عن الأطباق التي كانت تعدّها لأرييل شارون. كان سمير جعجع ومقاتلوه في 1982 يفرضون الحصار الخانق على بيروت، ويدوسون بأقدامهم أكياس الخبز والخضار، إمعاناً في تشديد الحصار، حتى لا نتحدث عن خدمات قوّاته في قصف بيروت العشوائي إعانةً للعدوان.
...أو أن ترى طارق متري (يساري سابق انضم لحاشية الحريري) آتياً من القاهرة على عجل ليتهدّج صوته وهو يثني على الأمير سعود الفيصل في مداخلاته في مجلس الجامعة. أو أن ترى فؤاد السنيورة يحشر الآيات القرآنية والأحاديث النبوية (والتعاويذ) بعد إصابته بـ«نوبة» الدين، كما كان يقول جمال عبد الناصر عندما كان يسخر من خطب لملك الأردن في الستينيات. ثم ترى من يصف حزب الله بالإرهاب، ليعود ليصفه بالمقاومة، ثم يعود في غضون أيّام لوصفه بالإرهاب، ثم يصفه بـ«الغوغاء» في مقابلة مع جريدة الأمير خالد بن سلطان، وهلمّ جرّا.
وترى الذي فجّر الأزمة يتحدّث عن «سوء تفاهم». حرب الجبل كانت سوء تفاهم في مقياسه أيضاً، والقتل بالفؤوس كان بمثابة ضرب الحبيب بزبيب قاس. ومشاهد الميليشيات في شوارع العاصمة ليس جميلاً، وخصوصاً أن لبعضها باعاً طويلاً في الترهيب و«التشبيح» (شَرَح أحمد بيضون في واحدة من كتبه أصل كلمة «تشبيح») والطائفية والمذهبيّة. حروب لبنان، باستثناء تلك التي توجّه مدافعَها وحممَها ضد إسرائيل، تزداد صغراً وضيقاً. والزميل رضوان السيّد (وهو محلّل موضوعي ومستقلّ) يلوم التحريض المذهبي للمعارضة، وينوّه بالدور الخيّر للسعودية. لم يعثر السيّد على أية دلائل على تحريض مذهبي في إعلام 14 آذار، إذ إنهم غارقون (وغارقات حتى لا ننسى صولانج الجميل ونايلة معوض) في العلمانيّة المحضة. ثم تلاحظ الغياب الكامل لفريق الحريري «الشيعي» (أينهم، اختفوا مثل فصّ الملح؟)، مع أن صبحي الطفيلي (هذا الذي قاد حزب الله في حقبته المخيفة والمروّعة في الثمانينيات) أطلّ وتصنّع الحكمة، وهو اليوم حليف مثقّفي العلمانية في 14 آذار، وقدوة لليساريّين السابقين في عين بورضاي.
ثم تتذكر مشاهد حيّة لفصول مختلفة من الحروب الأهلية اللبنانية. تتذكر فصل التدخل الأميركي في لبنان الثمانينيات، وكلام ريغان عن دعم أمين الجميل والديموقراطية ـــ اقتبس بوش الكلام نفسه في دعمه للسنيورة، وزاد أن نظام 14 آذار مفيد لإسرائيل ـــ إنها الصدفة. ما علينا. تتذكّر أيضاً توكيد الساسة في لبنان، قبل أسابيع فقط، أنهم في منأى عن الحروب، وأن الحروب لن تقع في لبنان، بينما كانوا كلّهم (في المعارضة وفي الموالاة) ينشئون الميليشيات المدجّجة. ثم تتكاثر التحليلات من كل حدب وصوب. وأخيراً تعلم لماذا قصفت إسرائيل مواقع في كسروان وفي شمال لبنان أثناء العدوان الإسرائيلي على لبنان في 2006. إذ إن مي شدياق فاجأت جمهورَها قبل أكثر من أسبوعين بـ«معلومات» مفادها أن إسرائيل قصفت مواقع متعددة في لبنان، فقط، لأن حزب الله نصب هوائيّات فيها. أرادت شدياق أن تقول إن إسرائيل دولة مسالمة ووديعة، وإن حزب الله الشرير يتحرّش بها. هي أرادت أيضاً أن تحذّر الجمهور في كسروان من مغبة نصب حزب الله هوائيّات في عقر دارهم. والياس المرّ، المُنصّب من رستم غزالة، سرّب معلومات خطيرة للنهار ولجنبلاط ولـ«المجتمع الدولي» الذي يضم شرفياً الدولة الصهيونية، عن شبكة اتصالات لحزب الله. لكن جنبلاط كان أكثر عوناً (لمن؟). فهو وزّع مجاناً خرائط بالمواقع، ولكنه لم يعد بأن يمدّ العدوان المُقبل بأدلّاء من الموثوق بهم من أمثال «أبو هيثم» الذي أمعن قَبْلاً في حبّ الحياة. والياس المرّ، ذو الباع الطويل في الأمن في لبنان، كان خبيراً في سنواته الأولى في الوزارة في أمور عبدة الشيطان و«شهود يهوه». لماذا توقّف المرّ هذا عن الحديث عن خطر عبدة الشيطان؟ ولماذا لم يتحدّث تقرير لارسن الأخير عن عبدة الشيطان؟
كيف تصف ما حدث في لبنان. لا يمكن وصفه بالثورة، إذ إن كلا الفريقين لا يستحق وصف الثورة. كلا الطرفين لا علاقة له بالعدل الاجتماعي (أو بالتغيير الجذري)، والمعارضة تستعمل الموضوع بانتقائيّة سياسية لا تمت بصلة لمصالح الطبقة العاملة. طبعاً كان مضحكاً أن يتنطّح معارضو إضراب الاتحاد العمالي من فريق تيار المستقبل بالقول إن الإضراب ليس في «صالح الطبقة العاملة». ربما سيطلع علينا يساري سابق لينظّر لمقولة أن سعد الحريري يمثل وعي الطبقة العاملة في ذاتها. لمَ لا؟ لكن في معمعة ما حدث ويحدث في لبنان، يجب القول إن غسان غصن يمثّل ضرراً على مصالح الطبقة العاملة في لبنان، ويستحق أن يُنفى إلى جزيرة أرواد. هو جاء من أجل تقويض الحركة العمالية في لبنان. هو يُضرب بأمر، ويتراجع بأمر. الحركة العمالية في لبنان بديل للحركات الطائفية من الطرفين في الصراع، ولكنها ضاعت في غمرة المعارك.

شرارة الانقلاب

لنبدأ من الشرارة. والشرارة تمثّلت في تصريح مفاجئ لجنبلاط. هو قال أثناء حصاره في كليمنصو إن معلوماته جاءت من «الدولة اللبنانية». ويحدثونك عن الدولة وكأن هناك دولة بالفعل في لبنان. ولم يلحظ الإعلام، ولا حتى في المعارضة، ورود عبارة عن شيء «يلمع» (في محيط المطار) في تقرير جنبلاط الاوّلي. ولمعان الشيء أو توهّجه لا يأتي من عين مجردة، أو من رصد لجهاز للمعلومات بريء، بل من رصد قمر صناعي. وليس من المعلوم أن ميليشيا الحريري (سلاح الحريري: إلى أين؟ وسلاح جنبلاط: إلى أين، علينا أن نسأل اليوم) تمتلك أقماراً اصطناعية، إلا إذا كان مصدر التقرير الأولي مصدراً أجنبياً صديقاً لجنبلاط. وليس هنا مجال للإفاضة في موضوع شبكة الاتصالات، وإن كان جنبلاط أوضح في مؤتمر صحافي لاحق أن دافعه ما كان إلا من باب الحرص على المال العام. ووليد جنبلاط ومروان حمادة معروفان بحرصهما الذي يقارب الهوس بالمال العام. لكن حزب الله دفع ثمن سذاجة سياسية، أو أسوأ، في علاقاته وتحالفاته مع رفيق الحريري وجنبلاط في سنوات سبقت التحالف الرباعي الذي وقع الحزب ضحيّته، وقد يعود إليه (ما أحلى الرجوع إليه).
وإذا كانت حركة حماس (وهي حركة غير ناجحة في الميدان، أو في الخطاب المنفّر) وقعت ضحية تصديقها وعود أوسلو، مثلها مثل عرفات، فإنها أبدت حنكة ودهاءً عندما استبقت انقلاب محمد دحلان (نشرت مجلة «فانتي فير» وثائقه المسرّبة من وزارة الخارجية الأميركية) بانقلابها، فإن حزب الله أجّل انقلابه ضد انقلاب حكومة السنيورة المُنقلبة. وانقلاب فريق الحريري تم بإيعاز أميركي منذ اغتيال رفيق الحريري، وإن كان الأخير كان يعدّ العدّة لإنشاء نظام (وسياسة خارجية) جديد في لبنان. وتوافَقَ النظام في لبنان مع مصالح النظام في سوريا والسعودية، وحتى أميركا وإسرائيل. كان هذا زمن وعد السلام الذي سحر رفيق الحريري (وحفزه على إطلاق وعود «أدي الربيع» كما غنى فريد الأطرش)، والنظام السوري معاً. لم تقع الواقعة بين آل الحريري والنظام السوري إلا عندما وقع الشقاق بين سوريا والسعودية بعد 11 أيلول. وقع الحريري في حرج، وخصوصا أن فريقه في النظام السوري تعرّض للإبعاد والتهميش. ويعتقد الخبير في شؤون سوريا، جوشوا لاندس، أن الحريري كان يحضّر لانقلاب في سوريا. (لا يزال التحقيق في انتحار غازي كنعان مستمراً، كما يقول عنوان واحد من الأفلام المصرية، كما أن الحكومة السورية على وشك إعلان نتيجة التحقيق في اغتيال عماد مغنية. فانتظروا).
وأتى تيري رود لارسن على عجل إلى لبنان، وبدأ الإعداد للانقلاب. أصرّت الحكومة الأميركية على إجراء انتخابات نيابيّة لقطف ثمار الدموع. كما أن مقالات صحافية أميركية تحدثت عن إغداق أموال أميركية على فريق 14 آذار (ذكرت روبن رايت في الواشنطن بوست قبل أيام أن الإدارة الأميركية أنفقت 1,4 مليار دولار من أجل «تنصيب فؤاد السنيورة»)، حتى لا نتحدث عن الأموال الحريرية والسعودية (جهد سمير عطا الله في ظهور تلفزيوني على شاشة الجديد لإثبات أن السعودية ليست طرفاً في لبنان، إلا أنه أقرّ بأنها «منحازة»، وما لبث أن سحب كلامه على الهواء). كانت النيّات واضحة منذ إجراء أول مقابلة صحافية مع سعد الحريري في الواشنطن بوست. لاحظتُ يومها أن الترجمة الحريريّة الرسميّة للمقابلة (التي نُشرت في صحيفة المستقبل) ابتسرت جملة وعد فيها الشيخ سعد بـ«نزع سلاح حزب الله». لكن الحزب كان لا يزال واقعاً تحت وقع سحر التحالف الرباعي. وكما كان رفيق الحريري يعمل على صعيدين: صعيد ما يقول لحزب الله وصعيد متناقض لما يقول ويعد لأعداء حزب الله، فإن فريق الأكثرية امتهن خداع الحزب. والحزب ماهر في القتال، وغير ماهر أبداً في الرؤية السياسة أو التبصّر (أيظنّ أنه قادر على تنصيب طلال أرسلان أو عدنان عرقجي زعماء في طوائفهم؟). تجاهلَ ما يراه أمام عينيه. كان يكفي لو تابع أحدهم لقاءات الحريري في أميركا. لم يسأل أحد مثلاً عن ادّعاء التفجّع من قبل ديك تشيني، وعن سبب استدعائه للحريري إلى أميركا لتقديم واجب العزاء له. عندها تسلّم سعد زمام المؤامرة التي بدأها أبوه من قبله (كما يظهر بوضوح في كتاب جورج بكاسيني عنه في تآمره على سلاح المقاومة، بالتعاون مع ذاك الذي يريد أن تتطابق الدائرة الانتخابية مع الحيّ).
لكن وقعت الواقعة وبانت حقيقة التحالفات في حرب تموز. كان واضحاً أن السنيورة هو الرهان الأميركي ـــ الإسرائيلي ـــ السعودي المشترك. لم تخفِ السعودية نواياها في الأسبوع الأول، ربما لاعتماد المخطط على فرضية خاطئة: أن حزب الله لا بد أن يُهزم من آلة حرب العدو. والإدارة الأميركية وضعت خطّاً أحمر منذ البداية، أن سقوط حكومة السنيورة هو حدّ المسموح في العدوان الإسرائيلي. لم يلاحظ حزب الله ذلك، أو لم يرد أن يلاحظ. أصرّ الحزب، ولا يزال يصرّ (مثله مثل النظام في سوريا)، على تحييد السعودية، مع أن النظام هناك لم يعد يخفي حقيقة دوره في المخطط الإقليمي. لم يسعَ الحزب إلى الانقلاب على الحكومة آنذاك، لا بل منع تظاهرة شعبية في يوم مجزرة قانا (الثانية) وكانت متجهة (عفوياً) نحو السرايا الحكومية. ربما شعر الحزب آنذاك بأنه لا يزال مُلزماً بالتحالف الرباعي، وربما لأنه قدّر جهود سعد الحريري الدبلوماسية في قبرص، بمعيّة باسم السبع (ما أخباره، بالمناسبة؟). لم يكن الحزب ليصدّق يومها أن للعدوان على لبنان أعواناًُ، وأن كان يبث إشارات متناقضة، وإن كان يحرد على القضايا الخاطئة. لم يحرد مثلاً عندما طالبته الماما معوّض وبيار الجميل بنزع سلاحه في الوقت الذي كانت حرائق العدوان لا تزال مشتعلة. وفي المُقابل، تذاكى فريق 14 آذار: ظنّ أننا لم نلاحظ تفجّر «عقيدة بوش» في حروب أهلية في الصومال وفي أفغانستان وفي العراق وفي السودان وفي فلسطين (ثم لبنان). ظنّ أنّنا لن نلاحظ أنه في كلٍّ من تلك البلدان دعمت أميركا (بالمال والسلاح) ميليشيات طائفية مسلّحة (وقع مثقّفو الليبرالية في غرام ميليشيات قبائل الأنبار: يعترضون على أية فكرة للقومية بين العرب إذا تعدّت القبيلة أو الزقاق).
وانتظرَ حزب الله، وانتظرَ حلفاؤه، وتمتّع فريق الحريري بسنتيْن ذهبيّتيْن من التحريض المذهبي المتواصل، مستفيداً من تراث عريق للوهابيّة في هذا الشأن، بالإضافة إلى أدبيّات القاعدة التي تتوافق مع المخطط السعودي في المنطقة. وعانى الحزب، وإن لم يعترف، بتأثيرات التفاهم الإيراني ـــ السعودي الخبيث في العراق، وهذه التأثيرات منعت الحزب من إصدار، ولو صوتاً خافتاً ضد حكومة الاحتلال في العراق. وهناك جانب طائفي أيضاً. لا يستطيع الحزب الهروب من حقيقة أيديولوجيّته، وحقيقة تركيبته الطائفيّة، مثله مثل كل الأحزاب في لبنان (طبعاً، يعمد مثقّفو 14 آذار إلى النفاق المفضوح عبر الاعتراض على طائفية الحزب، في الوقت الذي يتحالفون فيه مع داعي الإسلام الشهّال ومحمد علي الجوزو، وهلّا يلاحظ أحد أن مثقفي 14 آذار من «الشيعة» لا يبدأون الحديث من دون إيراد اسم طائفتهم للدلالة على علمانيّتهم وحضاريّتهم ومدنيّتهم ربما؟). واستفاد الفريق الحاكم من العناصر الثلاثة التي رسّخت رفيق الحريري في الحكم: 1) الاعتماد على الدعم الخارجي المباشر، سورياً كان أو سعودياً أو أميركياً. 2) الاعتماد على الرشى (على مستوى عام وخاص). 3) الاعتماد على التحريض المذهبي لبناء زعامة سنيّة، لم يحظَ بها مدنيّاً أو ديموقراطياً. وحتى سعد الحريري الذي لا يتمتّع بمواهب توافرت في قيادة والده، استفاد من هذه العوامل التي تستطيع أن توصل إلى المجلس النيابي تلك العصا السحرية التي كان أحمد الأسعد (الجد) يتندّر بها للدلالة على قدرته على توصيل من يشاء إلى النيابة.

احتكار الإعلام مستحيل

والأغبياء، على الأقل، الذين فرضوا قمع إعلام المستقبل في حمأة معارك بيروت، أخطأوا على أكثر من صعيد. نسوا أن احتكار الإعلام مستحيل في عصر الإعلام التكنولوجي (كما أن الإعلام السعودي سرعان ما يقوم بالواجب نحو إعلام الحريري). والكتابة ـــ على من قام بقمع إعلام المستقبل أن يعلم ـــ مملّة للغاية من دون منافسين ومعارضين وخصوم وحتى أعداء. وعصر وحدانية الإعلام مضرّ بالمخيلة وبالقريحة وبالإبداع. هل هم يريدون للعمل الصحافي في لبنان أن يقلد التجربة الصحافية في سوريا أو في السعودية، حيث تُستعمل الصحف للف سندويشات الفلافل والشاورما؟ والكتابة لا تستقيم من دون جدليّة التعارض والتناقض، مهما كان حادّاً، إلا إذا كان هناك في المعارضة من يستمتع بجريدة تشرين وجريدة عكاظ ويريد نقل التجربة إلى لبنان. وعندما يُحرم خصمُك من وسائل تعبير، تشعر برغبة في تجميد الخصام حتى تتكافأ الفرص، وإن كانت الكفّة مختلّة أساساً بسبب طغيان الإعلام السعودي والحريري في لبنان وفي العالم العربي.
وفي الجانب الآخر، يجب أن يتوقف تصنّع الغلوّ في مناصرة حرية الرأي من قبل إعلاميّي الحريري وآل سعود. أراد عبده وازن أن يقنعنا بأن إعلام المستقبل كان شوكة في عين الصهيونية، في الوقت الذي كان مسانداً على طريقته للعدوان الإسرائيلي على لبنان في 2006. كما أن إعلام المستقبل لجأ على امتداد ثلاث سنوات إلى تحريض طائفي ومذهبي لم يسبق له مثيل إلا على مواقع القاعدة على الإنترنت. كما أننا لا نذكر أن عبده وازن كان يناصر الإعلام في لبنان عندما كان يتعرّض للقمع من قبل النظام السوري أو رفيق الحريري أو الاثنين معا (نذكر معارك الحريري ضد تلفزيون الجديد). طبعاً، هذا لا يغيّر من ضرورة استنكار الاعتداء على إعلام الحريري، وإن كنا لاحظنا أن مذيعة هناك اعترفت على الهواء بأنها استثيرت «طائفياً» (وأضافت كلاماً كريهاً عن خدماتها «لهؤلاء» أثناء مرورهم في بيروت)، كما أن زافين صرّح مزهوّاً أنه اليوم «طائفي». هي ثقافة الحريري، فليعد إعلام الحريري إلى اختصاصه في البث التحريضي الطائفي.

ذهبوا بعيداً

طبعاً، الكارثة الأخيرة في لبنان كانت من صنع فريق ارتضى (لأسباب ماليّة بحتة) أن يربط مصير وطن مختلّ بأهواء فتى ثري وتحالفاته لا يعرف عن لبنان أكثر مما يعرفه بوش. وكالعادة، انتظر حلفاء أميركا في المنطقة أثماناً لا قدرة ولا رغبة لواشنطن على دفعها. ذهبوا بعيداً. تحالفوا مع يمين اليمين: ظنوا أن تكريمهم لجون بولتون لا يمثّل استفزازاً من أي نوع لأحد (حتى في أميركا، يُعدّ بولتون في أقصى اليمين. وقد روى المعلّق اليميني روبرت نوفاك هذا الأسبوع أن المرشح جون مكين رفض كل عروض بولتون الملحاحة للانضمام إلى فريق مستشاريه). وظن وليد جنبلاط أن تقلّبه من أقصى مماشاة الحلف السوري ـــ الإيراني إلى أقصى مماشاة إليوت إبرامز في الحلف الأميركي ـــ الإسرائيلي سيُقابل بحروب «تحريرية» لتوطيد زعامته. لم يتعلّم هو بالتحديد أن أميركا نفسها اتعظت من حروبها في لبنان في الثمانينيات، وأن خصمه آنذاك، أمين الجميل، بدأ عهده بالتهديد بقصف دمشق وانتهى بالتسكّع على أعتاب قصر المهاجرين.
والمفارقات تطفو على سطح تعليقات فريق السلطة. ما معنى أن يقول كارلوس إده (الذي نجح في لجم جماهيره الغاضبة) أو نايلة معوض أن المقاومة فقدت شرعيتها أو قدسيتها، والاثنان لم يؤيدا المقاومة يوماً؟ ثمّ ما معنى هذا الكلام أن شعب لبنان يجب أن يستقبل جيش الاحتلال الإسرائيلي في اجتياحاته المستقبليّة بالورود والرياحين، لأن ميليشيا المستقبل تعرّضت للمهانة، ولأن سلاح المقاومة فقد شرعيته؟ هل هذا يعني أن شاكر البرجاوي أو قائد الميدان سليم دياب سيمنع أي لبناني من مقاومة إسرائيل مستقبلاً؟ أحياناً، يتساءل المرء لو ،ن «نقاط الحديث» تصلهم من شركات إعلان لا علم لديها بالوضع اللبناني أو بالعلاقات الدولية. يظن بعضهم أنه يستطيع أن يسيّر الإدارة الأميركية من عيتات لأنه حظي بلقاء رايس أو حتى بوش. ينسى هؤلاء أن قادة المجاهدين الأفغان كانوا يمرّون على المكتب البيضاوي في البيت الأبيض في عهد ريغان شهرياً (مثلما يمرّ ممثّلو الإدارة الأميركية على السنيورة أسبوعياً)، ومات بعض هؤلاء بقنابل أميركية بعد أن دارت الدوائر والتحق بعض هؤلاء بالطالبان. هم ينسون أن شاه إيران انتهى طريداً.

خطأ الوجهة

لكن حزب الله يخطئ إذا أخطأ الوجهة، أو أخطأ تسديد الطلقة. يبتعد حزب الله عن جمهوره (من خارج الحزب والطائفة، وحتى داخلها) بقدر ما يبتعد عن قتال إسرائيل. وعقدة فرساي يمكن أن تستحكم بطائفة مقهورة بحالها، إلا إذا وقع الحزب تحت تأثير أوهام تبالغ من أحجام حلفائه في الطائفة السنّية والدرزية. ومشاهد ميليشيات سيّارة في بيروت تثير مشاعر اشمئزاز دفينة حتى في نفوس من قدّر ويقدّر قتال الحزب البارع ضد العدو الإسرائيلي.
أما اليسار الجذري أو الثوري، فيجب ألا يشطّ. نتذكّر مواقف التهليل للثورة الإسلامية في إيران من قبل أنور عبد الملك وأدونيس وميشيل فوكو. نتذكر كيف انتهى زعيم حزب تودة الشيوعي مُعترِفاً، قبل أن يُعدَم. نرى أن الحزب الشيوعي اللبناني يكاد يتماهى مع موقف حزب الله، بينما يتماهى الياس زهرا (وزمرة اليساريّين السابقين) مع أنطوان زهرا. ونلاحظ أن إسرائيل والنظام في سوريا أصرّا على إبقاء اليسار في لبنان منزوعَ السلاح، وحده. الآن نعلم الكثير عن سلاح جنبلاط والحريري (نشرت «لوس أنجلوس تايمز مقالة مطوّلة عن ميليشيا الحريري. وكعادته في المقابلات الأجنبية، يأخذ أحمد فتفت ـــ ما غيره ـــ راحته في التحليل المذهبي)، ووهاب وأرسلان. وبدلاً من الحديث عن نزع سلاح المقاومة، يجب رفع شعار نشر سلاح المقاومة، ضد إسرائيل، بين اليساريّين المقاومين الذين بادروا إلى إنشاء جبهة المقاومة الوطنية في عام 1978 (بمبادرة من الماركسي العراقي هاشم علي محسن). وإن أيّدَ (ويؤيّدُ) اليسارُ الثوريُّ معركةَ حزب الله ضدّ إسرائيل (وأبعد من ذلك من أجل تحرير كل ملّم مربع من فلسطين العزيزة)، فإن اليسار معنيٌّ أيضاً بشعارات تحرير المرأة والعدل الاجتماعي والعلمانية والتنوّع، وهي أمور يختلف مع حزب الله فيها خلافاً جذريّاً. وراية اليسار هي راية حمراء قانية، لا صفراء ولا خضراء ولا سوداء ولا زرقاء. فلترتفع.

* أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة كاليفورنيا
(موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com)