نسيم ضاهر *وما جرى تعبير محايد مخصي يحاذر النطق باسمه والجهر بحقيقته، ساطع في صوره ووقائعه ومجرياته ولقطاته، المسجَّلة في مكان، والمحفورة في الضمائر، يأبى السِّجال حول تعريفه وتفرّعاته، ويُستخرَج من خوف الناس، ونظرات الأطفال، ومشاهدات العابرين في شوارع المدينة، عاصمة المعاصي والشبهات.
ماذا تعني مدينة مقطَّعة الأوصال؟ وبماذا نصف العوائق والسواتر الترابية في عالم الاجتماع وعلم الاجتماع؟ وكيف لمُعلّق سياسي أو محلِّل أو ناطق مخوّل، أن يُنبئنا صدق القول (ويعكس قناعته الشخصية) حين يروي ويُشدِّد على عودة الحياة الطبيعية مع استمرار العصيان المدني! استسهلنا الأذيّة والتشاطر والتكاذب، فلمَ العبث بالكلمات، وما الحاجة إلى هذه البهلوانيات في زمن العذاب والشك الهدَّام؟
يختلف أرباب السياسة في توصيف أسبوع المحنة، وربما سوف تتباين تقديراتهم لمحصّلته وموازينه. هذا شأنهم وشأن خاضع للاجتهاد. إنما ثمة قراءة سوسيولوجية وتاريخية مفصلية في أبعادها، تحمل على الاعتراف بالمردود السلبي الخالص جرّاء المسجل من اصطفافات وسلوكيات، وكيفية التعاطي مع الآخر بالدوس على أبسط حقوق المواطنة. لقد تمَّ سلخ الطابع المدني والمديني عن قاطني الحارات والأحياء، كما القرى والبلدات، في تنكّر كامل ومطلق لكلّ اعتبارات ميثاقية اجتماعية، حوَّل الناس إلى عديد أعداء، والمقابل إلى معسكر خصام. وأخضعت الأرض إلى مشتقات الترسيمات الميدانية وفق خرائط أعدّت في معزل عن أصحابها، قهراً لصحيح الجغرافيا وتطويقاً قسرياً للتاريخ. فمهما خرجت السياسة لاحقاً بتفاهمات وصيغ، من البادي أنّ نوراً ما قد انطفأت شعلته خلال أسبوع بحجم فاصل زمني بين حقبتين، أتى بغير المتصوِّر واللامعقول ورمى بقطعة من الذاكرة في الأوحال.
تجوب الشوارع حقولاً زُرعت بالحقد والريبة، فلا تلمس غبطة أو فرحاً على الوجوه الهائمة. وحده الرصاص أضحى تعبيراً للاستحسان والسماء متنفساً لحالة الاحتقان الجماعي، تستقبل وابل الطلقات كلما جاء خبر أو صدح زجّال. وكما استنفرت نوازع الغريزة والقوة العارية، استحضرت التعبئة مفردات عجيبة تواكب الانتشار المسلح وترفده بخصائص قيمية على غرار ما نسب للتحركات الممهدة من سلمي وحضاري، جلّه صادم للمنطق السليم، يتوسّل في الخفاء ما يحجم عن قوله في العراء.
هكذا فُهم أنّ فلول تعني الغالبيّة، والمخيم يؤشِّر إلى السرايا الحكومية، والإفلاس قد لحق بدارة المختارة، المعزولة. والمرذولة من بني معروف لدرجة العصيان. انتهى الكباش السياسي إلى حملة عملت على تأديب المواطنين وإنهاكهم في المسير إلى المشاغل اليومية، بعد حرمانهم من نعمة التطلّع إلى غد آمن.
الأوطان ملاذات ومواطن تشجب المسّ بصفائها وانتهاك حرماتها وأوصالها. هي ليست بمختبرات ولا بساحات فضّ اشتباك. هي شيءٌ آخر تنبض فيه الحياة، وتختمر الألفة في معاجنه، دار ومنزل ومضرب ومطرح تؤول جميعها إلى مكان ومكانة عنوانها حرية الفرد وحصانته وحرية كيانه وموصوف عزّته بين أمثاله الآخرين، الأقربين منهم والأبعدين.
غلب الديَّان على السموح، وتغلب القاسي على العلاقات الدهرية كأنما المواضع بلا سقوف، والأمور بلا جوهر. حضر الضابط في غياب الضوابط، فأمسى العيش محاججة عقيمة لئيمة على قاعدة العصبيات وخلفية الاتهامات.
حين ترسم الجادات فواصل، يتخلَّى المرء عن ذاته النبيلة ليذوب في الجماعة حيث النصرة واللاوعي المشترك والقناع، ويتمظهر راصداً، خفيراً، مُتربِّصاً، مُتوجِّساً، رافعاً راية القتال. عندئذٍ يفقد هويته الأصلية الجامعة، مُتحرّراً من التزاماتها وتعقيداتها، ويمضي إلى مرقص الهويات الثانوية العازلة وفرقة الروح والجسد.
تُقاس الأعمال بخواتيمها التي تستقرّ أبلغ من الروايات وأصدق من الديباجات. بترت الجراحة الموضعية شرياناً بقطر حبل المرساة المشدود إلى رصيف التلاقي والتآخي. بذلك لم يعد ما بعد السابع من أيّار شبيهاً بما قبله، على معنى مختلف عمّا أراده الجرّاح وحرّك مبضعه، مفاده خليط من فقدان الثقة والمرارة.
حطّت الحوادث، على افتراض قدري غاصِب أملى ضرورة التدخل العسكري السريع، بين مدينة وجبل، وانتقلت موجاتها الارتدادية إلى بقاع وشمال، فما قصّرت مسافة في الاجتماع، وما فتَّحتْ زهرة في البساتين. يتعيّن على أصحاب المشورة والقرار التمعّن في الظواهر المنجبة والصور المُختلسة، لا للتراشق الإعلامي بل للعِظة والاستدلال. فليس من مرحّب واحد على الطرقات، ولا من مصفِّق مبتهج يُعانق الإنجاز والانتصار، إلا في الوسط الواحد، والمعسكر الحصين. نقطة النهاية هي نقطة البداية في النصرة والخصومة، لا ينفع فيها امتلاك سلاح أو عدمه، وامتشاق بندقية أو قعود في خوف وانتظار.
أمّا البشاعة المطلقة، أو السوريالية الجبهوية، فموطنها ما بات يسمّى ملحقات أو توابع حزب الله ممن رفعوا بيارق تنظيماتهم المظفَّرة، واعتقدوا بأنّ المقطورة قادرة على السير والحركة بلا القاطرة، فكان لهم سبق الاستعراض السياسي (والعسكري المقيت)، يمارسون العفارة بعد قطاف الزيتون، ويملأون الدنيا ضجيجاً لجذب الانتباه، وهم على قطيعة مع الجمهور، وعداوة مع الحقيقة الشعبية.
تعمدت هذه المقالة واجتهدت لإقصاء ما يمتّ إلى الطوائف ويشير إليها صراحة، من متنها ومقاطعها. إنّ معيار الصدق والمصارحة يوجب نعت مسعاها بالسباحة عكس التيار، في بحث دؤُوب عن مفردات من فضاء المعطى الاجتماعي الموحّد، والنسق المدني، المفقودين عند أكثر من محطة ومُبتغى ومنهج «تغييري». لكن لبّ المسألة لا يزاح بإحجام إرادي عن تناوله، وتجاهل خواصه ومفاعيله الذهنية والتأطيرية في آن. كانت الجغرافيا ترسم سابقاً حدود الطوائف وتمدّدها وحضورها ومقدار نفوذها، فجاء حصادها مجتمعات مصغَّرة وتقليداً وبيئات جاهلة بأمر جيرانها إلى هذا الحدّ أو ذاك.
اليوم، أضحت زخّات الرصاص حوامل رؤى تتكفّل إيصال صوت الطائفة وفعلها إلى أبعد مدى، يخطّ مسارها سيْر الجماعة كيفما وجدت السبيل، ويعتبر مسقطها بيان حدود. ما هكذا تورد الإبل، نظرياً ومؤسّّسياً ووطنياً جامعاً فاعلاً، إنما هو فصل من تاريخ وواقع مرير يلف معظم البلاد والعباد.
مدينة الصبر هي بيروت اليوم، لا يشفع بها عزاء، ولا يقوى عليها جرح ومصاب.
* كاتب لبناني