نسيم الخوري *أمس، انقضّ المسلحون على زملائنا الإعلاميين ومؤسساتهم في بيروت فأخرسوها، وأمس فتح وزراء الإعلام العرب في القاهرة، وبينهم وزير الإعلام اللبناني، في اجتماعهم الأخير «ألبوم» الشاشات الفضائية، ووضعوا وثيقة لضبطها، وقبضوا على شاشةٍ مصرية، ضاربين عرض الحائط مرور ألفيتين مدموغتين بسلطة المكتوب منها جاءت أساساً قوة الصحافة وديمومتها في نشر الحريّة والثقافة ورقي البشر.
ولربّما غفل السادة المسلحون والوزراء، ميلاد الحضارة الرقمية Digital والمجتمعات الرقمية والثقافة الرقمية والإنسان الرقمي المفتون بنقاوة الصور في الشاشات وسرعتها وزهوها، وهي في ذلك سلطة خفية مستجدة تحمل صفتين: المشاعية والصدفة وهما صفتان في الثقافة تنبعان من قلب الفكر المنظومي Systémique الذي تمكّن من تحقيق تلك المنجزات الإعلامية الهائلة.
وتبعاً لهاتين الصفتين، يتدافع البشر في الفضاء، على حجز المواقع والمساحات والنوافذ الإلكترونية، أو ما يعرف بـ Land claim. إذ يكفي أن يبتكر الإنسان المعاصر فكرةً أو مشروعاً ويحجز له موقعاً يمنحه اسماً، ومنه وبه يتّصل ويحيا في حقائق واقعية وخيالية وفي نيته سلطة لامتناهية يطوّع فيها الكرة الأرضية بمعناها الإنترنتي.
وبهذه الصورة، يستعيد العالم تاريخ هجوم البشر على القارة الأميركية بعدما اكتشفها كريستوف كولومبوس، حيث كان يكفي لأيّ كان أن يحتلّ قطعةً من الأرض وهو على ظهر حصان وبيده بندقية أو سكين لتصبح ملكاً له وميداناً منه ينطلق في تحقيق سلطاته ومراميه. نحن اليوم نعيش في الفضاء سادتي المسلحين والوزراء.
والأرجح أنّ وزراء الإعلام العرب والمسلحين أغفلوا الثقافات الجديدة أي ثقافات أبناء العرب وأحفادهم المحكومة بالشاشات، وهم عزّزوا بذلك تراكم القطيعة بين أجيال الآباء وأجيال الأبناء المحكومين بالأزمات والأمراض الجديدة والموت السريع، تماماً كما الأجيال من الوسائل الاتصالية والإعلامية التي نراها محكومة بالصفات عينها، وخصوصاً صفة الفساد والموت أو السقوط في الماضي والتناقض مع المعاصرة أو الخضوع للدُرجة أي الموضة تحقيقاً لـ«حضارة الاستهلاك».
لا يعيش الهاتف المحمول أو الشاشة لأكثر من عام على الأكثر بعدما كانت مشتقات الإعلام تعيش إلى أمدٍ طويل. بهذا يتمّ تبادل الأدوار بين الأجيال المذكورة فيذوي كلّ الفكر الأرسطي اليوناني القديم المبني على المعرفة لمصلحة الخبرة وحسن قيادة الشاشة أو الانقياد إليها ونروح نمسك برأس الفأرة مؤشّراً به ننفذ بالضوء إلى مخازن المعرفة العالمية المعروفة والمهجورة والتي قد نجدها وقد نخرها سوس النسيان أو نذريها مع الهواء عبر الشاشات إلى زوايا الدنيا. ومن لم يسمع أو يرَ نفتح له عينيه وأذنيه كي يرى ويسمع ويستنكر. القليل من المعرفة مع الكثير من الخبرة أفضل بكثير من الكثير من المعرفة مع القليل من الخبرة. وما حققه ماكنتوش مخترع أوّل حاسوب للاستعمال الشخصي هو أهم مما أنجزه فكر أرسطو في المعرفة والثقافة، ويتجاوز ما جاء قبله من مشتقات الكرونوس أي قوّة الزمان محيّر الفكر الفلسفي في استعباد الإنسان. ثم يرسّخ كلّ ما له ارتباط بالإيماغوس أي سلطات الصورة التي منها انطلقنا وها نحن نعود إليها مع الشاشة، ولنقل بأننا نحن أبناء أولادنا في العصر الأنترنتي الإعلامي. فعندما يقوم مسلّح بتفجير شاشة أو برمي قنبلة على سطحٍ من الحبر، يكون ولده قد سبقه إلى بثّ صورة أبيه في العالم.
ووفقاً لهذه المقولة الجديدة، إن تمّ التوافق عليها، نكون قد حققنا فلسفة الفساد ورسخناها. فبعدما أفرغنا الرؤوس من علوم الحساب نجهد إلى تفريغها من المعرفة التي يتمّ تجويفها وبيعها وبتنا عن طريق تحقيق الحلم الفرويدي الذي ربط ما بين الشخصية البشرية و«الهو» في بنائه للعمارة النفسية البشرية. و«الهو» أي Le Ça هي الطبقة السفلى من عمارة الشخصية الخاصة الحاوية لمجمل الغرائز البشرية المحكومة بالميل إلى تحقيق الفوضى وإشاعة الفساد خارج أي ضابط أو حدود.
ويأتي في طليعة هذه الغرائز العنف والجنس اللذين يشكلان حجر الرحى في «الفلسفات» المعاصرة والبرامج الإعلامية وخصوصاً الإعلانية منها وفي معظم وسائل الإعلام العالمية.
وإذ تتقدّم الغرائز بوتيرة متضاعفة لتراجع مثال الأنا والأنا الأعلى أو الطبقات العليا من الشخصية المعاصرة يصبح من السهل فهم هذا الخوف المتتفشي في الشعوب الطريّة ومسؤوليها، ونحن منها، لأفكار النهايات والانهيارات أو الاحتماء بالماضي الفجّ الذي ما عاد يليق لا بالحاضر ولا بالمستقبل، أو الانخراط في ما تقدّمه الشاشات المهشّمة إلى درجة من التماهيات التي تصل تخوم الفصامية.
كانت الشخصية البشرية، سادتي المسلحين والوزراء ومسؤولي العرب الإعلاميين، تابعة في تكوينها العام إلى دوائر أربع: دائرة التكوّن في الرحم، ودائرة التربية في المنزل، دائرة التعلّم في المدرسة والجامعة ثمّ دائرة المجتمع. وتتدرج هذه الدوائر في حجمها وتأثيرها وغالباً ما تكون كلّ دائرة من هذه الدوائر مشروطة بفطام خاص له نتائجه وتأثيراته الخاصة.
يكفي أن نتذكّر فطام قطع حبل الصرّة ومن بعده فطام الرضاعة ثمّ فطام ترك البيوت نحو المدارس أو ترك الجامعات نحو المجتمعات لتحقيق الذات والعمل.
ماذا حصل مع وسائل الإعلام؟ لقد تمكنت وسائل الإعلام من الإحاطة الشاملة بهذه الدوائر الأربع، والقبض الحقيقي على الأقسام الكبرى من مكوناتها وعناصرها، وضربت حولها جميعاً دائرة أكثر اتساعاً وتأثيراً، حتى بات البحث عن أثر الإعلام في سلوك الأفراد والجماعات من المسلمات ومواقفهم التي لا تقبل جدلاً ولا تستأهل بحثاً لأنّ الإعلام لا يؤثّر وحسب، بل يربّي ويثقف ويعيد تركيب وقولبة الأفكار والشخصيات بفعالية عالية ومن دون مظاهر ظاهرة للسلطة بمفهومها المتعارف عليه.
مَن الأقوى في ميادين التسلية؟ الأمهات والخدم في البيوت أم الشاشات التي ننقع أولادنا أمامها محكمي الربط بمقاعدهم ليباشروا حياتهم بالميكي ماوس، وصولاً إلى فأرة الإنترنت والحواسيب التي نقبض عليها وتقبض علينا؟
تخرج السلطة، إذاً، بفضل الإعلام من معناها في القوة، بعدما كانت الملاط المتين في الوجود الاجتماعي من سلطة الموروث الجيني الملازم للإنسان إلى سلطة الوعي، فسلطة اللاوعي ثمّ سلطات المجتمع.
من الأسرة إلى الدولة، ومن المقدّس إلى النزوات الفائرة التدميرية، وصولاً إلى سلطات العلم والتكنولوجيا ووسائلها المحكية والمسموعة أو المقروءة والتي تكاد تبدو بديلاً عن مجمل السلطات الأخرى حيث لا استمرارية لأيّ سلطة من دون رعاية الإعلام وحضوره ولو كان مجبولاً بالخديعة والفساد والتضليل وعصر الأسواق والأذواق، وخارجاً عن أيّ صفة رسولية أسبغها عليه المكتوب والمقال في قوّتهما وسلطاتهما المطلقة والتي غالباً ما كانت مستمدة من السماء.
* أستاذ جامعي