رائد شرف *من موقع الحرص على المعارضة، يجب الاعتراف بأن فعلتها لم تكن موفّقة. وذلك منذ البدء بالعمليات العسكريّة وكذلك طريقة تبريرها. فقد برهنت مجريات المعركة، من حيث هي خطابات (فاعلة وقائلة) وتحرّكات عسكرية وسواها من الأعمال المُسخّرة في خدمة هدف سياسي، أنّ المعارضة قد وقعت في طريق مسدود. ويتمثّل ذلك في قيام المعارضة بخطوات متعدّدة لم تفلح إلا في عودة الأمور إلى ما هي عليه، مع إعطاء حجّة الحكم الطائفي دليلاً تطبيقياً على صوابيّتها عند من خدعهم هذا الحكم بحجّته: «الحقد الشيعي الموجّه إلى الداخل».
فالمعارضة غير متخوّفة «ممّا يسمّى الفتنة». وهذه الحقيقة دليل بساطة تحليل المعارضة للجوانب الاجتماعية للصراع السياسي في لبنان. فهذه المعارضة هي جزء لا يتجزأ من المجتمع اللبناني ذي الخطاب الأيديولوجي المبسّط.
والواقع أنّ «المستقبل» دأب منذ ثلاث سنوات، ومن خلال الإعلام أوّلاً، على شنّ عمليات «تأديب» وتطويع لعقول وأجساد من هم مهيّأون اجتماعياً لذلك من طبقات مدنية سنّية (يسمّونها) ومثقّفين ذوي ماضٍ يساري (من جميع الطوائف) لـ«تقمّص» الفكرة «الطائفيّة» القائلة بابتلاع بيروت (أي محيط هؤلاء الناس الاجتماعي) من جانب «جماعة حزب الله».
وسخرية الحال تكمن في أن غالبية «الحضاريين الحداثيين» وأصحاب الماضي اليساري وغيرهم من خبراء الكلمة والإعلام كانوا شركاء في صنع ــ وهي صناعة ــ المأساة التي وقعت عليهم مع إقفال مورد رزقهم، جريدة وتلفزيون المستقبل. وهم بحق، ضحايا. وبحكم وضعهم، سذّج، إذ فيجب ألّا ننسى واقع مهرجان وطني كالذي حصل بين ١٤ شباط و١٤ آذار سنة ٢٠٠٥ على أذهان طبقة «ثقافيّة»، وبالتالي على نظرة هذه الطبقة إلى العالم. طبقة ثقافية كان واقعها منذ عام ١٩٧٦ منكوباً، وفي صراع دائم مع فلتان الرمزيّة الاجتماعية من يدها لمصلحة أمراء الحرب (الذين اختارت هذه الطبقة العفو عنهم، «بإلهام» حريريّ) والأحزاب الشعبويّة الشعبية (مثل حزب الله والتيار الوطني الحر). لقد صدّق هؤلاء، مع تزايد الاستعانة بهم في ظروف الأزمة الراهنة، أن عالم الرموز ــ ثقافة الحياة؟ ــ عاد حكراً عليهم، فأحبّوا الحياة على هذه الحال. التصديق المشار إليه هنا هو تصديق لا واعٍ طبعاً.
وهنا بالتحديد، تكمن سخافة المعارضة، أي في سوء تقدير تأثير عمل اجتماعي جماعي (أياً كان) على أفراد مهيّئين لامتصاصه بوجهة معيّنة. لسنا ندعو إلى عدم قيام المعارضة بأي عمل، حتماً لا. اللاعمل والمماطلة ليسا إلا استنزافاً، فكيف بعمل دفاعي وضروري كالذي حصل. نقول بوجوب الأخذ بعين الاعتبار استعدادات النفوس، على مستوى المنطق، وأسباب هذه الاستعدادات.
إنّ حركة عنفية للمعارضة في بيروت، مهما كانت «نوعيّة» بنظر منفّذيها ومبرّرة بحجج منطق الماضي اللامنطقي، إذ طالبت بتراجع الحكومة «اللاشرعية» (وكيف بحكومة لا شرعية أن تتراجع عن قرار هو غير شرعي؟ نبّه سليم الحص بحق!) عن قرارين، ما هما سوى قشور بالنسبة إلى جمهور الموالاة، وحتى بالنسبة إلى جمهور المعارضة، مهما زادت أهميّتهما بالنسبة إلى القيادات. هكذا حركة لم يكن بالوارد أن تُحدث إلا ترسيخاً للمنظومة الرمزية التي صنعتها في السنوات الثلاث الماضية الدعاية الحريرية في نفوس جمهورها (والطائفية جزء من هذه المنظومة).
هذه المنظومة الرمزية التي باتت الآن شبه «أيديولوجيا»، استحدثت أجوبة عن كل أفعال المعارضة، تقدّمها إلى جمهورها بطرح الحجج والتعبيرات العنصرية الملائمة كرد على كل شكل وفعل، هذه المنظومة ما كانت بمنطقها سوى أن «تفرح» (لو كانت كائناً حيّاً، وهي ليست كذلك) بفعلة المعارضة المبرّرة كالمعتاد بحجج سبق استيعابها، وما كانت إلا لتجعل من هذه الفعلة حجّة لها ورمزاً لحجّتها، بل تطويباً حسّياً لحجّتها: الشيعة الحربيّون والحاقدون على نمط عيش بيروت المُحبّة للحياة، بيروت «غير الشيعيّة» إذاً، كما قالوا (وقالت المعارضة معهم!) وبالتالي «السنّية». لقد انقضّوا على بيروت، وها هي أصوات مدافعهم دليل على حقدهم.
لم تستوعب قيادة المعارضة بتبرير فعلتها هذه المنظومة. وهي قد أتت بتطمين مستورد: «الفتنة السنّية الشيعية لن تحصل»، واعتقدت بأن هذه الحجة كفيلة بأن تُسمع من جمهور عملت الموالاة على تغطية جميع صعد حياته اليومية، أي أحاسيسه الحياتية، بالحجج المعاكسة، فإذا بهذا الجمهور يسمع أصوات البنادق على عتبة منزله ويضطر إلى الاختباء في الحمّام أو الكوريدور.
كان الأحرى بالمعارضة أن تأتي بحجج أكثر ملامسة للحياة اليومية للجمهور الآخر، حجج أكثر «شمولية». فالحقيقة أن الموالاة أكثر شمولية من المعارضة. بل ربما كانت المعارضة لا تتّسم بأيّ صفة شموليّة جامعة لكل جماهيرها سوى صفة التقاء المصالح، التي ليست بالضرورة مصالح «طائفيّة» كما يقترح بعض التطرّف النقدي. فالطائفية لا تكون معزولة عن العامل الطبقي وغيره من العوامل، وهذا ينطبق أيضاً على جمهور الموالاة، كما يفسّره المثال الذي سردناه عن التاريخ الاجتماعي لمن كانوا من اليساريين من المثقّفين المرابطين اليوم مع الحريرية.
الآن، وعلى عتبة ما يرى البعض أنّه مرحلة جديدة، تقوم المعارضة بإذاعة التبسيط نفسه المنتَج من منطق تحليل تجريدي «يفكر على مستوى المنطقة»، لتقول، مصدّقة، إن «القاعدة» ستستبدل بين ليلة وأخرى الحريرية عند سكان الطريق الجديدة وبرج أبو حيدر والظريف وفردان وقريطم! بعدما أخذتهم الحريرية إلى حبّ الحياة والأرز وسمير جعجع والحضارة على مدى ثلاث سنوات من الإعلام المركّز.
لا تحتقروا جمهور الموالاة، عن قصد أو عن غير قصد، عبر اعتبارهم «سنّة» وحرمانهم خطابكم!
* باحث لبناني