عبد الأمير الركابيكانت سوريا بعد لحظة ارتباك أفقدها التوازن، تتهيّأ فعلياً لإعادة إنتاج نظامها نفسه، وهو ما حصل بمجرّد أن استعادت أنفاسها. أمّا المقاومة اللبنانية، فهي متعوّدة الغرق في «الصوفية» السياسية، فنحن نشهد هنا حالة مقاومة لا تتدخّل في قضايا الدولة: كيف؟
دعونا من شؤون سوريا ولنركّز على لبنان الذي أضاعت مقاومته فرصة لا تستطيع أبداً التغاضي عنها. حتى العدوان الإسرائيلي عام 2006 لم يساعدها على ذلك، والجرعة التي ظنّت أنّها تلقتها من ذلك العدوان، على أمل أن يعزّز «صوفيّتها»، لم تكن في الحقيقة معينة على دفع شبح المواجهة الكئيبة مع ما هو واقعي، إلى أن جاء القرار الذي اتخذ مؤخراً، وأصبح النقص الفادح أكثر من مجرّد تناقض. فالمقاومة هي أفق نظام، وليس هناك في التاريخ صوفية مقاومة، وإلا فإن على السيد حسن نصر الله ومن معه أن يغادروا غداً مكاتبهم ويتركوا أسلحتهم.
عدا ذلك، وإذا اكتشفوا أنّ مشروعهم أقلّ «صوفية» ممّا يتصوّرون، فإنّ الواجب يقتضي منهم الاعتراف بأنّ ما يفعلونه ويقولونه على هذا الصعيد هو قصور فادح، لا أكثر ولا أقل. بوضوح أكبر: المسألة التي يعالجونها وتشغلهم لا تتمثّل في رفض أو الاستنكاف عن التدخل في شؤون الدولة والنظام، بل هي بوضوح معضلة عجز عن أن يكون لدى المقاومة اللبنانية، وبالأساس حزب الله، تصوّر لما ينبغي أن يكون عليه النظام المطابق لمفهوم ولجهد ولحصيلة وجود المقاومة.
هذه هي المشكلة. لا يمكن أبداً تصوّر كيف يمكن أن تتعايش «مقاومة» وبقايا نظام مضاد للمقاومة. ثمة عالمان نشآ خلال ربع قرن من التاريخ، وتحوّرا وأعيد تشكيلهما، وهما صيغتان متناقضتان كلياً. فمعسكر الموالاة هو معسكر جذره موجود في نظام ومفهوم متكامل ومضاد لفكرة وأسس العمل المقاوم. والدليل أنّ هؤلاء يقولون اليوم أن لا أحد يستطيع تغيير أسس النظام اللبناني. هذا هو جوهر خطاب الرابع عشر من آذار بعد ما حدث مؤخراً في بيروت والجبل، وكأنما من غير الممكن الحفاظ على خاصيات وأسس النظام اللبناني نفسها وجوهره نفسه مع تغيير طابعه وتوجهاته.
بالأمس كانت الانعزالية هي التي تتغذّى منها شعارات الثبات، اليوم التعدّدية اللصوصية المرتكزة إلى أسس نظام انتهى تاريخياً، التعددية المزوَّرة، المعادية للدولة ومنطقها، الموغلة في الفساد، المورثة للشلل، والمانعة للتقدم... هذه هي الأيقونة التي يجب إزاحة النقاب عنها، وهذه حجّة تعيش وتتكرّر لأنّ معسكر المقاومة يقبل لعبة المعسكرين، معارضة وسلطة، فيما المطلوب على عكس ما فعل حزب الله عسكرياً، الانتقال تصورياً وعلى مستوى المشروع، من المعسكر الى المشروع الشامل، أي من المقاومة الى الثورة.
من دون مثل هذا التحوّل مع كلّ ما يقتضيه من جهد ليس أقلّ من خطورة جهد العمل العسكري، كل خطوة سيضطرّ، أو اضطرّ إليها حزب الله، ستكون خسارة في خانته وربحاً صافياً في الجهة الأخرى. علماً بأنه لن يستطيع أبداً بعد اليوم العودة إلى كهف «الذيل الطاهر». فالمقاومة هي مشروع نظام وسلطة، وهذا الجزء من المشروع هو أيضاً وبامتياز، مقاومة وليس أي شيء آخر. لكن المهمات التي تنتمي إلى عالم الجهاد الأكبر تكون في العادة أصعب من غيرها، ولو كان حزب الله يملك أن يؤسّس لرؤية نظام مضاد، متوافق مع خاصيات المقاومه وطبيعة قواها، لما تصرّف مقاتلوه بالطريقة النكائية الفجّة والاستعلائية التي أظهروها بحق الناس، خلال سيطرتهم العسكرية على بيروت.
قد يكون المطلب الوارد هنا أبسط بكثير ممّا يُظن، حتى مع غيابه رغم مرور ثلاثة عقود من الزمن. اليوم يريد معسكر «الحكم» أن يصوّر الأمر كأنه احتلال وتحرير مقابل احتلال وتحرير. لقد خرج السوريون بثورة شعبية لبنانية، ولبنان لم يعرف «حرباً أهلية» ضدّ نظام بائد، شيء من هذا بالمناسبة يحدث في العراق. فالبعثيون خرّبوا المقاومة العراقية بطورها الجزئي، عن طريق تصوير الأمور من هذا المنظار: ليس الأمر سوى شرعية يمثلها نظام صدام، يقابلها غزو. إذن الأمور في الحالتين ينبغي أن تعود إلى نصابها، وخطاب الموالاة يقوم على ما يلي: بعد خروج السوريين، ليس أمام اللبنانيين غير العودة الى ما كانوا عليه قبل عام 1975. لم يبقَ ما يعترضنا غير عقبة وحيدة، فالشوكة التي يجب اقتلاعها الآن هي المقاومة، تلك العشبة البرية التي نبتت خلال ربع القرن الأخير، لتكون ليس أقلّ من شبح مشروع دولة مقاومة مضادة، تذكّر بأسباب الحرب الأهلية ومبرّراتها الداخلية الصارخة. فكيف يريد حزب الله بعد هذا أن يوفّق بين عالمين؟ هذا مستحيل، والحلول مهما تكرّرت سوف يعقبها انفجار، لأن الطرف الحاكم يريد إعادة إنتاج الماضي، وهذا شرطه أن يقتلع الحاضر، والعكس بالعكس.
في مثل هذه الحالة، يصبح ما لا يمكن تجنّبه، أن يكون لدى المقاومة لا مشروع إعادة بناء، بل تصور «بناء»، هو أصلاً حاجة للخروج من الطوق الطائفي. ألا يلاحظ المعارضون أنهم في حالة مأزق يترجمونه إلى «طهرانية». مثلاً ألا ينتبهون إلى القيود التي تحاصر العماد ميشال عون، والتي يُقال إنّها قلّلت من دائرة نفوذه منذ أعلن تحالفة مع حزب الله، من دون أن يقرن خطوته تلك بالإفصاح للجمهور المسيحي عن أفقه المضاد ومشروعه البديل على مستوى الدولة والنظام. الآخرون بما فيهم، لا بل أولهم السنة، الذين هم في العمق وتاريخياً مقاومون ووطنيون، وسواهم من القطاعات، وغالبية قوى المجتمع أيضاً، كل هؤلاء أو قسم كبير منهم على الأقلّ، تُركوا ليصبحوا من حصّة المعسكر الآخر مجاناً، بعدما عُزلوا وراء جدار السلاح الصارم وحده، هذا خلافاً للبداهة التي تقول إنّ عالم المقاومين سياسياً ووجدانياً هو دائماً أوسع بأضعاف المرات من عالم المقاومين بالسلاح.
وهنا يتجلّى رهان ينهض كخصوصية تميز «المقاومات» في اللحظة الراهنة من تاريخ حركة التحرّر الوطني، به يتقرّر إذا كان السلاح المقاوم وطنياً أم هو جزئي وطائفي، وأنّه قادر على تجاوز هذا الشرط الصعب كي يتحوّل إلى ثورة. فللسلاح براعته، وللسياسة والأفكار والتصورات براعتها التي قد لا يملكها الجنرالات، مع أن بعض الجنرالات يحملون رتباً سياسية أعلى من رتبهم العسكرية.
والسؤال الذي يبقى للمعالجة هو: هل يمكن تعميم شعار «المؤتمر التأسيسي الوطني العام»، وكيف؟

* كاتب عراقي