ساري مقدسي *أدرك أنّ هذا الوضع قد يفاجئ الكثير من الأميركيّين. بعد سنوات من السعي وراء حل الدولتين، والشعور ربما بأنّ النزاع اقترب من حلّ تقريباً، من الصعب التسليم بأن الفكرة غير قابلة للتطبيق.
لكنها حقّاً فاشلة. وجد تقرير عن مكتب تنسيق الشؤون الإنسانيّة في الأمم المتحدة نشر الصيف الماضي أنّ البنى التحتية الإسرائيلية (طرقات، مستعمرات، قواعد عسكرية وما الى ذلك)، تسيطر على 40 في المئة من الضفة الغربية الواقعة خارج سيطرة الفلسطينيين. فإسرائيل قسّمت بشكل منهجي الأراضي إلى عشرات الجيوب، التي تفصل بينها وبين العالم الخارجي، مناطق تتحكّم فيها وحدها (بما في ذلك، حسب آخر إحصاء، 612 نقطة تفتيش وحاجز).
إضافةً إلى ذلك، ووفقاً للتقرير، المستوطنون اليهود في الأراضي المحتلة، الذين قارب عددهم نصف مليون، ليسوا في حالة نمو مستمرّ فحسب بل ينمون بمعدل ثلاث مرات أكثر من معدّلات نموّ المجتمع الإسرائيلي. وإذا استمرت النسبة الحالية، فسيتضاعف عدد المستوطنين إلى مليون نسمة تقريباً خلال 12 سنة. والكثير منهم مسلّح بالكامل ومندفع عقائدياً ومن غير المحتمل أن يتخلّى طوعاً عن أرض أعلنها «ممنوحة من الله».
هذه الوقائع وحدها تضع عملية السلام في منزلة أكاديمية (نظريّة).
منذ بدء المفاوضات في أوائل التسعينيات، لم تعلّق إسرائيل، في أي وقت، عملية الاستيطان في الأراضي الفلسطينية المحتلة بشكل ملحوظ، في انتهاك واضح للقانون الدولي. واستبقت مؤتمر أنابوليس في تشرين الثاني الماضي بإعلانها نزعاً جديداً لملكية فلسطينية في الضفة الغربية؛ وألحقت المؤتمر بإعلانها توسيع مستوطنة هار حوما (جبل أبو غنيم) بإضافة 307 وحدات استيطانية إليها؛ وأعدّت منذ ذلك الحين خططاً لمئات المستوطنات الأخرى.
لا يستوطن الإسرائيليون الأراضي المحتلة بسبب ضيق المساحة في إسرائيل ذاتها. إنهم يستوطنون الأراضي بسبب إيمان قديم بأن اليهود مؤهلون لذلك لمجرد تميّزهم كيهود. «أرض إسرائيل هي ملك لأمّة إسرائيل وحدها»، هكذا يقول حزب «موليديت» أحد أحزاب ائتلاف الاتحاد الوطني، الذي يتمتّع بوجود بارز في البرلمان الإسرائيلي.
موقف حزب «موليديت» لا يختلف كثيراً عن موقف رئيس الحكومة ايهود أولمرت كما يدعي بعض الإسرائيليين. رغم قول أولمرت إنه يؤمن بالمبدأ بنظرية تخلّي إسرائيل عن تلك الأجزاء من الضفة الغربية وغزة ذات الكثافة السكانية الفلسطينية، إلا أنّه أعلن في 2006 أنّ «كل تلّة في السامره وكل وادٍ في يهودا جزء من أرضنا التاريخية وأننا نلتزم بحق الشعب الإسرائيلي التاريخي في كامل أرض إسرائيل».
يهودا والسامرة: هذان المصطلحان الإنجيليّان لا يزالان مستخدمَين من جانب المسؤولين الإسرائيليين للإشارة إلى الضفة الغربية. بعد أكثر من عشر سنوات على إطلاق عملية أوسلو السلمية، التي كان متوقعاً أن تؤدّي إلى حلّ الدولتين، لا تزال الخرائط في الكتب الإسرائيلية تشير إلى يهودا والسامرة لا إلى الضفة الغربية، ليس باعتبارها أراضٍ محتلة بل أجزاء أصيلة من إسرائيل.
ما هو مكان الفلسطينيين في رؤية اليهود لحقّهم في امتلاكهم الأرض؟ غير موجود. فهم يُعدّون في أحسن الأحوال «مشكلة» ديموغرافية.
فكرة أنّ الفلسطينيين «مشكلة» ليست جديدة كليّاً. أُنشئت إسرائيل كدولة يهودية عام 1948 فقط بالإزالة القصرية لأكبر عدد ممكن من الفلسطينيين الأصليّين، في ما يسمّيه الفلسطينيون «النكبة» التي أحيوا ذكراها الأسبوع الماضي.
يقول المؤرخ الإسرائيلي بيني موريس إن الدولة اليهودية «لم يمكن أن تنشأ من دون اقتلاع 700،000 فلسطيني. لم يكن هناك خيار سوى طرد ذلك الشعب». بالنسبة إلى موريس، هذا أحد «الظروف التاريخية التي تبرّر التطهير العرقي».
اعتبار الفلسطينيين «مشكلة» يجب التخلص منها، فكرة تعود إلى ما قبل 1948. الفكرة كانت موجودة منذ أن بدأت الحركة الصهيونية مشروع إنشاء دولة يهودية على أرض كان يقطنها عام 1917، حين صدّقت الإمبراطورية البريطانية رسمياً على الصهيونية، مجتمعاً غير يهودي بشكل كبير.
وقد عارض ادوين مونتاغو، العضو اليهودي الوحيد في الحكومة البريطانية وقتئذ، بشكل عنيف المشروع الصهيوني باعتباره غير عادل. هنري كينغ وشارل كرين، اللذان أرسلهما الرئيس ويلسون في مهمة لتقصي الحقائق في فلسطين اتفقا على التحذير من أنّ مشروعاً كهذا يتطلب عنفاً هائلاًَ: «القرارات التي تتطلب جيوشاً لتنفيذها ضرورية أحياناً لكنها بالتأكيد لا تأخذ المصالح التي تخدم العدالة بجديّة».
إنّه نزاع اقتيد من جذوره بالشعور الصهيوني الحصري لملكية الأرض. هل كان هناك عنف فلسطيني أيضاً؟ أجل. هل هو دائماً مبرّر؟ لا. لكن ما أنت بفاعل إذا قال لك أحد أن لا مكان لك على أرضك، وأنّ وجودك بحدّ ذاته «مشكلة»؟ لم يرحّل أي شعب في التاريخ لمجرّد أنّ شعباً آخر أراده أن يرحل، ومشاعر «الحصان المجنون» و«الثور الجالس» لا تزال تختلج في صدور الفلسطينيين إلى يومنا هذا.
سينتهي العنف وسيأتي السلام العادل فقط عندما يدرك كل طرف أن الطرف الآخر سيبقى. العديد من الفلسطينيين قبِل بهذه المسلّمة، وعدد متزايد مستعد للتخلي عن فكرة الدولة الفلسطينية المستقلة وإبدالها بمفهوم دولة واحدة ديموقراطية، علمانية، متعددة الثقافات يتقاسمها بالتساوي مع الإسرائيليين اليهود.
غالبية الإسرائيليين ليست بعد متصالحة مع هذه الوضعية. البعض، بلا شك، متردد في التخلي عن فكرة «الدولة اليهودية»، ليقرّ بحقيقة أن إسرائيل لم تكن أبداً يهودية حصراً، وأن فكرة امتياز مجموعة واحدة على باقي المواطنيين، هي منذ البداية، غير ديموقراطية وغير عادلة.
إلا أنّ هذا بالتحديد ما تفعله إسرائيل. حتى بين مواطنيها يمنح القانون الإسرائيلي اليهود حقوقاً ينكرها على غير اليهود. إسرائيل ليست على أبعد تقدير ديموقراطية أصيلة: هي دولة اثنية ـــ دينية حصراً حاولت تحدّي التاريخ المتعدّد الثقافات للأرض التي أُنشئت عليها.
ولحلّ النزاع مع الفلسطينيين، يجب على اليهود الإسرائيليين أن يتخلّوا عن امتيازهم الحصري ويقرّوا بحق عودة الفلسطينيين المطرودين من منازلهم مقابل إمكان العيش بأمان وازدهار مع الفلسطينيين بدل الاستمرار في العراك معهم.
قد لا يملكون الخيار. وكما حذر أولمرت نفسه أخيراً، يكثر الفلسطينيون الذين نقلوا صراعهم من المطالبة بدولة مستقلة إلى صراع ذي طابع جنوب أفريقي يطالب بحقوق متساوية لكل المواطنين في الدولة الواحدة، بغض النظر عن الدين. ولاحظ أنّ «هذا بالطبع صراع أنظف بكثير وأكثر شعبية، وهو في النهاية أقوى بكثير».
* أستاذ اللغة الإنكليزية والأدب المقارن في جامعة كاليفورنيا
(عن «لوس أنجلس تايمز» ــ ترجمة سلام السباعي)