سمير الطرابلسي *تحت عنوان «من يقدر على فتح كوّة بين حزب الله والمستقبل؟» كتب الصحافي إبراهيم الأمين مقالاً، في جريدة «الأخبار» بتاريخ 12 أيار 2008، دعا فيه حزب الله للعمل ليكون تيار المستقبل الشريك الثالث معه ومع العماد ميشال عون، مبرّراً ذلك بما ادّعاه من ضعف من أسماهم سنّة المعارضة. كثيرة هذه الملاحظات التي يجب تسجيلها على هذه الدعوة، بدءاً من التسليم بمنطق لا نقرّه يختصر العمل السياسي في لبنان بين كيانات طائفية أو مذهبية، وانتهاءً بالتساؤل عن ماهيّة التسوية التي يمكن أن تكون بين رافض للهيمنة الأميركية الصهيونية على لبنان وبين آخر راهن عليها.
لكن من بين كلّ هذه الملاحظات، أودّ أن أتوقّف أمام مسألة واحدة وهي مسألة معايير قوّة أو ضعف أي تيار سياسي، وبالذات التيار الوطني العروبي المستقل الذي لا ينحصر وجوده وتأثيره في طائفة واحدة أو منطقة بعينها، وإنما يمثّل نهجاً سياسياً وثقافياً عابراً للطوائف والمناطق. وهذا التيار إذ تجلّت وتتجلّى قوته في مدن الساحل الكبرى، فلأنّها كانت ولا تزال مسرح الحراك السياسي في لبنان منذ عهد الانتداب الفرنسي، فجسّد بذلك هوية هذه المدن التاريخية.
في مرحلة ما قبل انفجار الحرب اللبنانية التي اتّسمت بأجواءٍ ديموقراطية نسبية، استطاع هذا التيار الشعبي أن يأتي بنائب عن بيروت في مواجهة القوى التقليدية بانتخابات عام 1972، التي مثّلت ظاهرة متميّزة في الحياة السياسية اللبنانية. وخلال فترة الحرب اللبنانية دافع هذا التيار عن وحدة لبنان وعروبته، ولم يكن لحزب المستقبل ولكثيرين غيره وجود خلال هذه المرحلة، إلا أنّ هذا التيار تعرّض في حقبة الإدارة السورية للأوضاع في لبنان لحملة شرسة شنّها عليه القيّمون على هذه الإدارة واستهدفت إلغاء وجوده ودوره لحساب «المستقبل»، فتمّ نفي الأخ كمال شاتيلا وحوصِر التيار ولوحقت قياداته وكوادره، وتكاملت تلك الحملة مع دعم إقليمي ودولي لـ«المستقبل»، تجلّى بطمس دور رؤساء الوزراء والشخصيات ذات التوجّه العروبي، مما بدا معه في المشهد الإعلامي وليس الشعبي أنّ «المستقبل» بات يحتكر التمثيل البيروتي وبعض المناطق الأخرى.
ولقد كان الأمين واحداً من الذين أدركوا هذه الحقيقة، فكتب مقالاً بعد عودة الأخ كمال شاتيلا من المنفى عام 2000 علّق فيه على الاستقبال الشعبي الكبير الذي استقبل فيه المنفي العائد بالقول إن عشرات الآلاف الذين استقبلوا كمال شاتيلا يبيّن أنّ للمؤتمر الشعبي ورئيسه بنهجه العروبي الثابت عمقاً شعبياً لم تؤثر فيه حملات الاضطهاد ولا يمكن إغفاله.
بعد استشهاد الرئيس رفيق الحريري وما شهده البلد من تداعيات، حدثت إعادة تركيز سياسياً وإعلامياً على أنّ «المستقبل» يحتكر تمثيل الطائفة السنية، مستثمراً ما يملكه هذا الحزب من وسائل إعلامية وإمكانات مادّية، وكان هدف هذا التركيز القول إنّ الطائفة السنية غيّرت اتجاهها التاريخي المعروف عنها والذي أوجزه الدكتور جورج حجّار بقوله «السنّة طائفة العروبة»، وانساقت هذه الطائفة وراء «المستقبل» الذي تحالف مع القوات اللبنانية والقوى المنخرطة في نهج إخضاع لبنان للوصاية الأجنبية وبخاصة الأميركية.
عديدة هي الوقائع التي تثبت تهافت هذا الادعاء، فإذا كان معيار من يردّدون هذا القول وجود أغلبية نيابية لـ«المستقبل»، فعلينا جميعاً أن نذكر أن هذه الأغلبية تحقّقت في ظل مقاطعة قوى وشخصيات عروبية ووطنية عديدة لانتخابات عام 2005 اعتراضاً على قانون الانتخاب (قانون غازي كنعان) وعلى الفلتان المالي والإعلامي الذي رافقها، عطفاً على التحالف الرباعي المشؤوم الذي أتى بهذه الأغلبية. وحينما حدثت الانتخابات النيابية الفرعية أخيراً في بيروت فكلّنا يذكر أن دعوة المقاطعة التي أطلقها المؤتمر الشعبي وغيره من القوى استجاب لها 82 في المئة من أبناء العاصمة برغم كل ضغوط المال والإعلام.
إلا أنّ أكبر دليل على تهافت هذا الادعاء هو الاحداث الأمنية المؤسفة الأخيرة، التي فجّرتها قرارات حكومة الأغلبية، إذ انهار زهاء 60 مكتباً في بيروت خلال ساعات، وما كان ذلك ليحدث لو أن أهالي بيروت دعموا أو كانوا يدعمون مواقف هذا الحزب، ولما كان حدث ما حدث بهذه السهولة رغم كل دعوات التحريض المذهبي التي فشلت في إشعال فتنة، وإن أحدثت احتقاناً شديداً ينبغي معالجته بحكمة.
لقد أثبت أبناء بيروت أنهم ضدّ التدويل سواء اعترف بذلك أم لم يعترف به بعض أطراف المعارضة، وأثبت أهل بيروت أنهم يرفضون نهج التحالف مع القوات اللبنانية وأمثالها من الأطراف المشبوهة وطنياً وقومياً، كما أثبتوا أنهم رغم كل الهواجس والمخاوف حريصون على وحدة الصف الإسلامي والوطني، الأمر الذي يطرح سؤالاً بالغ الخطورة وهو لمصلحة من يتجاهل بعض أنصار المعارضة كل هذه الحقائق ويصرّون على تقزيم دور التيار الوطني العروبي المستقل، وفي القلب منه المؤتمر الشعبي اللبناني، وتبنّي مقولات الإعلام المشبوه الذي يحاول بإصرار الادعاء أن الطائفة السنية قد غيّرت توجّهها وثوابتها الوطنية والقومية، وبات تمثيلها محصوراً بتيار ارتضى لنفسه أن يساير النهج التغريبي؟
إنّ وجود التيار الوطني العروبي المستقلّ ودوره لم يكن ولن يكون حالة طائفة في لبنان، لأنه أحد تجليات هويته العروبية المستقلة. واستقرار لبنان لا يتحقّق ولن يتحقق إلا بالاستناد إلى ثوابته الوطنية والقومية، أما إذا كان ثمة من يتوهّم أن إعادة الاستقرار يمكن تحقيقها بصفقات إقليمية ودولية تتجاهل هذه الثوابت، فإنه مخطئ وحالة العراق الجريح أكبر دليل.
* عضو قيادة المؤتمر الشعبي اللبناني