سعد الله مزرعاني *كثيراً ما ألححنا على المخاطر التي يرتّبها تضخّم الدور الخارجي في الأزمة اللبنانية. ويصبح ذلك أكثر خطورة بمقدار ما يتغلغل الدور الخارجي في النسيج الداخلي لهذه الأزمة، ويدفع بها إلى مستوى أكبر من التعقيد والتأزّم. ويصل الأمر إلى ذروته عندما يتراصف الانقسام اللبناني في منظومة الصراع الضاري الدائر في المنطقة حالياً، وبشكل أساسي منذ الغزو الأميركي للعراق في نيسان من عام 2003. ومعروف أنّ غزو العراق مثّل رأس جسر لإعادة ترتيب أوضاع المنطقة، في مصلحة الهيمنة الأميركية، تحت عنوان «الشرق الأوسط الكبير أو الجديد».
ليس ذلك غريباً على الواقع اللبناني. إنه في الحقيقة «مألوف» و«طبيعي»، ما دامت الدويلات التي نشأت في كنف الدولة اللبنانية المركزية وحالت دون أن تكون، بالفعل، دولة ذات مقومات راسخة وحصينة، قد اتخذت من العامل الخارجي مصدر استقواء، وحتّى مرجعية قد يمتدّ نفوذها ليأخذ طابع الوصاية على كامل الوضع اللبناني في محطّات متعدّدة، في التاريخ اللبناني المعاصر.
إنّ ازدواجية الولاء الطائفي والولاء الوطني أدّت دائماً إلى ازدواجيّة العاملين الداخلي والخارجي في تقرير مسارات الأحداث في لبنان. وفي هذا السياق، باتت السيادة نسبية في أحسن الأحوال. أمّا في الأزمات، فقد استدعى الأمر تباعاً، وبالتراكم السلبي، أن يفتقر لبنان إلى مرجعية داخلية، فتتعطّل مؤسّساته، ويبلغ النزاع حدود الحرب الأهلية المتكرّرة والمديدة، بحيث تطلّبت الحلول قوة خارجية تتولّى إدارة شؤون البلاد، كما حصل خصوصاً بعد الأزمة الأهلية الكبرى ما بين عامي 1975 و1989.
هذا الخلل القاتل والكامن في آلية عمل وبنى النظام السياسي الطائفي اللبناني، جعل لبنان ساحة مكشوفة ومفتوحة ومغرية أمام الصراعات والتدخلات الإقليمية، وخصوصاً منذ النكسة الكبرى عام 1967، وما تلاها من أحداث ونزاعات عنيفة ومتواصلة ومتفاقمة حتى يومنا هذا.
ولقد كان الأمل أن تستفيد القوى السياسية التي تعاقبت على الحكم، وقواها الأساسية (التقليدية والجديدة) خصوصاً، من تجارب الماضي المرير. طرح هذا الاحتمال تحديداً بعد الخروج السوري من لبنان عام 2005. الشعارات التي أطلقها فريق الموالاة في جبهة 14 آذار حملت مظاهر طموح من هذا القبيل: «الحرية والسيادة والاستقلال»... إلا أنّ الطبع كان أرسخ وأقوى من التطبّع، وإغراء الاستناد إلى جدار الدولة الأعظم والأعتى في العالم، كان فرصة لم يقاومها فريق الموالاة. وهكذا تحوّل تقاطع مصالح مشروع (نسبياً)، إلى مشروع ارتهان جديد، أي استبدال الإدارة السورية المباشرة بالوصاية الأميركية المقنَّعة ثم السافرة!
وفي امتداد هذا التورط من جانب فريق من اللبنانيين، ومن خلال ذلك توريط البلد في متاهة أخطر من الصراع الإقليمي، تفاقم هذا الأمر إلى تحويل لبنان ساحة بديلة يحاول الأميركيّون أن يمارسوا فيها، ومن خلالها، ما عجزوا عن ممارسته في العراق.
وقدّم الأميركيون إلى فريق السلطة الراهنة المتحالف معهم تعهّدات ووعوداً كثيرة، أبرزها إطاحة النظام السوري والنظام الإيراني، أو على الأقل، فرض تغيير سلوك الأوّل بما يلبّي متطلّبات استقرار سلطة الموالاة بشكل ثابت ومستمرّ.
هذا الخطأ المبدئي والمنهجي، تحوّل إلى خطيئة مع استمرار تعثّر المشروع الأميركي المنطلق من العراق، ومع فشل الغزو الإسرائيلي للبنان صيف عام 2006، ومع زيادة التطلب الأميركي من فريق السلطة إلى درجة معكوسة من تبادل الخدمات، حيث بات لبنان مطالباً بأكثر ممّا تُطيقه توازناته الداخلية، أو تتحمّله أوضاعه السياسية والأمنية والاقتصادية...
إنّ إقدام حكومة السنيورة على اتخاذ قرارين، نزع أحدهما الشرعية عن أحد أهم أسلحة المقاومة اللبنانية، قد مثّل إمعاناً أحمق في نهج الارتباط نفسه بالسياسة الأميركية والمراهنة على الضمانات والحماية الأميركية (والعربية) في تنفيذ هذين القرارين أو في التصدّي لمفاعيلهما السلبيّة على فريق السلطة، في حال حصول هذه المفاعيل.
لم تجرِ رياح ما بعد اتخاذ هذين القرارين وفق ما تشتهيه سفن الرئيس فؤاد السنيورة والقادة الذين دعموه أو حرّضوه أو سكتوا على قراري حكومته. وهنا وقع الاختبار الحقيقي: الولايات المتحدة غير قادرة على تقديم الحماية والدعم الضروريَّين اللذين كانت تعد بهما أو توحي بذلك، في كلّ مناسبة أو حتى من دون حاجة إلى مناسبة! رئيس وزراء قطر الذي تتعدّد أدواره وأدوار بلده، وصف الأمر بأنه من قبيل «ربّ ضارّة نافعة»، وهو يسارع إلى محاولة لملمة تداعيات العملية الأمنية التي نفّذها فريق المعارضة بهدف إسقاط هذين القرارين.
المسألة الأساسية الآن، كما في السابق، هي في حسن الاستنتاج، أي في ضرورة الكف عن نهج التفرّد ونهج رفض الحوار، ونهج تغيير موازين القوى بقوة الموقف السياسي الأميركي (والعربي «المعتدل»)، وبقوة الإعلام، وبقوة التدخل السياسي الأوروبي وحتى... الإسرائيلي.
هذا بالنسبة إلى فريق 14 آذار، فريق السلطة الذي يعاني خيبة بعض رهاناته الأساسية.
أمّا بالنسبة إلى فريق «المعارضة الوطنية»، فأمامه استنتاجات لا تقلّ أهمية. وأول هذه الاستنتاجات يتمثل بالنظر إلى العامل الطائفي والمذهبي نظرة مختلفة.
إنّ الفتن المذهبية هي عامل أساسي في إضعاف الوحدة الداخلية، التي لا بد من تأمين الحدّ الأدنى منها من أجل خوض مواجهة ناجحة مع العدو الصهيوني ومع المشروع الأميركي. والوضع اللبناني يعاني الآن تضخّماً غير مسبوق في حجم الاستنفار المذهبي. وستعمل قوى عديدة لاستخدام ذلك في تمرير سياساتها وفي دعم مشاريعها. وجزء من هذه القوى موجود في الداخل، أو في امتدادات داخلية لقوى خارجية، جزء منها يعتمد توجّهات شديدة التطرّف والعبثية على غرار ما نرى في غير ساحة عربية.
يصحّ هذا الكلام بعد «اتفاق الدوحة» الذي وُقّع أوّل من أمس بين الأطراف اللبنانيين في العاصمة القطرية. إنّه اتفاق الضرورة. هو سيّء لتفادي الأسوأ، أي لتفادي الاقتتال الأهلي بكل ما يحمله من الكوارث على كل صعيد.
إنّه سيء لأنه لم يتعاطَ إلا مع الراهن من نتائج الأزمة اللبنانية. ولا يذهب إلى جذورها في الخلل القائم في النظام السياسي اللبناني، نظام المحاصصة الطائفية والمذهبية، ونظام الدويلات، ونظام الارتهان إلى الخارج بسبب الانقسام الداخلي، ونظام الحروب الأهلية، ونظام عدم الأمن وعدم الاستقرار، إلى كونه إضافةً إلى كل ذلك، نظام تهديد سلامة وسيادة وحتى وجود لبنان!
«اتفاق الدوحة» سيغيّر الكثير من مسائل أساسية أو تفصيلية في الوضع اللبناني، وخصوصاً ما يتصل بإعادة التوازن إلى موقع لبنان في صراعات المنطقة، بعدما انحاز إلى درجة الالتحاق بالمحور الأميركي ــ الإسرائيلي. إلا أنّ الذي لن يتغيّر، هو النظام الطائفي في لبنان، الذي اكتسب بعد الأحداث الأخيرة، وفي ضوء أدوات الصراع الدائر في المنطقة (وخصوصاً العراق)، جرعة جديدة من التطيُّف والتمذهب!
إنّ «اتفاق الدوحة» بالمعنى الديموقراطي، هو خطوة إلى الوراء قياساً على «اتفاق الطائف» الذي، رغم التمسّك الشكلي به من جانب المتحاورين، يجري مرّة جديدة، تجاهل البنود الإصلاحية المهمة التي تمثّل أحد أبرز مرتكزاته، والتي جرى تكريسها وإهمالها في الدستور اللبناني!
لا شكّ أنّ الحفاظ على السلم الأهلي أولوية، لكن يجب التنبه مجدّداً من التسويات التي تجانب الذهاب إلى عمق الأزمة اللبنانية، ولا تفعل في أحسن الحالات إلا تأجيل الانفجار، وتحويل هذه الأزمات إلى مرحلة أعلى من التفاقم ومن الاستعصاء.
هنا تكمن مسؤوليّة القوى الديموقراطية في ضرورة أن تشقّ لنفسها ولنضالها توجهات جديدة وأشكالاً دينامية من صيغ العمل والتعاون. ويجب أن يقترن ذلك بالضرورة، بتركيز مماثل على الوضع الاقتصادي الاجتماعي، ليتكامل الاثنان في عناوين برنامجية، ثالثها الانخراط النشيط في مواجهة المشروع الاستعماري في المنطقة، بشقّيه الأميركي والصهيوني على حدّ سواء.
* كاتب وسياسي لبناني