فؤاد مرعي *إنّ ما يهمّنا الآن هو رصد حجم الفراغ الذي تركه غياب المعسكر الاشتراكي على الساحة العالمية، والدخول إلى عالم الرأسمالية المتوحّشة المُنفلتة من أي ضابط حقيقي. إنّ زلزالاً وقع منذ ثمانية عشر عاماً ما زالت هزّاته الارتدادية تتوالى سنةً بعد سنة، وإذا كان البعض يُؤرّخ للأحداث انطلاقاً من هجمات 11 أيلول عام 2001، حيث يوجد ما قبلها وما بعدها، فإنّ هذه الأحداث نفسها ما كانت لتحصل لولا وقوع زلزال انهيار المعسكر الاشتراكي.
لقد نعمت شعوب الأرض بوجود خيارين سياسيّين لبناء الدولة الحديثة قائمين على عقيدتين اقتصاديّتين متنافستين. وقد أثبتت الوقائع ـــ ما قبل وما بعد الزلزال ـــ أنّ أيّاً من النموذجين المشار إليهما (الاشتراكي والرأسمالي) لا يتمتّع بصفات الكمال المطلق، بل إنّ كلّاً منهما لديه عيوب ومزايا تجعله معرَّضاً لعمليات تعديل وتطوير مستمرة. وبصرف النظر عن ذلك، فإنّ «عالماً فيه خيارات أكثر هو عالم بلا شكّ أفضل».
إنّها مقولة ليبرالية بامتياز، لكن ليبرالية النظام الرأسمالي في مرحلة صعوده لم تحتمل وجود منافس جذري حقيقي، فخاضت ضدّه حرباً باردة تخلّلتها حروب ساخنة صغيرة وسباق تسلح وحملات دعائية استُخدمت فيها كلّ أساليب الكذب والتضليل من أجل إنهاك النظام الاشتراكي للقضاء عليه. لقد تفوقت دينامية النظام الاقتصادي الحر على دينامية النظام الاقتصادي الموجَّه، وهذا أمر طبيعي لأنّ التطوّر الأقوى والأسرع كان من صنع تحالف «إبداعات» قوى الرأسمالية الحرّة مع «الآم وعرق ودماء» قوى الإنتاج المُتمثّلة بالعمل والكادحين.
لكنّ هؤلاء استفادوا إلى أقصى الحدود من حرص الأنظمة الرأسمالية على صدّ أخطار التمدّد الاشتراكي. وقد جرت ترجمة هذا الحرص على شكل تنازلات كبيرة على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي لمصلحة الطبقة العاملة في الدول الصناعية على الأخص. أمّا في العالم الثالث، فقد فُتحت آفاق الخلاص والتغيير أمام حركات التحرر الوطنية التي تظلّلت بميزان القوى بين المعسكرين، وأنتجت معسكرها الخاص الذي دعته «دول عدم الانحياز»، ثمّ طوّرت مفهومه ليصبح لاحقاً تحت عنوان «الحياد الإيجابي».
في تلك الحقبة، سادت مفاهيم تتعلّق بحتميات تاريخية لم تتحقّق، لكن الفكرة الأبرز التي شهدت سقوطاً مدوّياً هي فكرة «استحالة الرجوع إلى الوراء»، فقد سادت في القرنين الأخيرين فلسفة مفادها أنّ الإنسان سائر نحو الكمال، وأنّ هذا الأمر ممكن، وأنّ المسألة هي مسألة وقت وتطوّر علمي وتكنولوجي. لكنّ «الزلزال» الذي حدث أثبت العكس؛ نحن نعيش اليوم في عصر الفوضى الناجمة عن ارتطام الفكرتين الفلسفيّتين، في عصر تراجع الحضارة الإنسانية أمام هجوم القوى المُبدعة، لكن الغاشمة والظالمة التي بدأت تعيثُ في الأرض فساداً.
لقد استعاد التاريخ سِكّته الأصلية، فالنظام الاشتراكي كان حدثاً طارئاً على التاريخ، حيث اجتمعت لأوّل مرة طبقات رثّة صعدت من قاع الرأسمالية الى الحكم لتبني ديكتاتوريتها المُعلنة التي استمرّت سبعين عاماً ونيّف.
ما نراه اليوم هو انتقام الرأسمالية من تلك السنوات الشاذة عن قاعدة التاريخ. اليوم تُساق الشعوب إلى الحظيرة من جديد، يجري فرز الرعيان والكلاب والذئاب والماشية وفقاً لما رسمته الطبيعة. يُرفع شعار الحرية فوق كلّ الشعارات. تُمنح الحرية للذئاب والأغنام على ملعب واحد، لا تفعل الرعيان «السياسية» سوى تنظيم الولائم، فالعملية مقتصرة على التهام قوى لقوى أخرى بعد تركها «ترعى» قليلاً على «حشيش» النظام الرأسمالي. لكن كيف يُترجم ذلك؟
وكيف تتمّ عمليات مطاردة الأقوياء للضعفاء على مرأى من العالم كله؟ تبدأ العملية على مستوى المنظمات الدولية، التي تحوّلت إلى مؤسّسات بحاجة إلى موازين قوى مختلفة إذا ما أرادت أن تؤدّي دورها الطبيعي على الساحة العالميّة، لقد حوّلتها الولايات المتحدة الأميركية، إلى منظمات عاجزة عن حماية الأمم الضعيفة، وقد استخدمت من أجل تحقيق هذا الهدف شتى أنواع الضغوط السياسية والاقتصادية والمالية، وحيث كانت الجرائم المنوي ارتكابها (كغزو العراق مثلاً) مكشوفة ومفضوحة. تصرّفت الولايات المتحدة من تلقاء نفسها ومن خارج الشرعية الدولية، وقد حدث هذا في الوقت الذي كانت تُفرض فيه ممارسات وتُعدَّل قوانين وتشريعات دولية بما يتلاءم مع العصر الأميركي.
لقد تعزّزت سطوة «منظّمة التجارة العالمية». وهي مؤسّسة تضع قوانين مُلزمة تخدم مصالح الدول الصناعية الكبرى على حساب الدول الأكثر فقراً والأقلّ تطوّراً. أمّا «البنك الدولي» و«صندوق النقد الدولي» فهما مُتخصّصان بعمليات إعطاء القروض وجبايتها من الدول الفقيرة تحت شروط اقتصادية وسياسية مُجحفة تخدم مصالح الولايات المتحدة والدول الصناعية.
أمّا أكبر المهازل فتشهدها ساحة إنتاج النفط في شبه الجزيرة العربية. هنا تراوح أعمال «البلطجة» بين وضع اليد مباشرةً على منابع النفط كما يحصل في العراق، وبين تدفيع دول الخليج «خوّات» سرية وعلنية لتمويل سياسات أمنية واقتصادية واعلامية في أي منطقة من العالم، وصولاً إلى الاحتفاظ بعائدات النفط في البنوك الأميركية والأوروبية أو استثمارها في مشاريع باذخة في دول الخليج أو بيع تلك الدول ما لا تحتاج إليه من أسلحة ومعدات عسكرية لقاء مبالغ طائلة.
ولا تكتفي أميركا وحلفاؤها بالسيطرة على ميادين الاقتصاد والسياسة والأمن في العالم لمصلحة مشروع الهيمنة الأحادية الذي شهد انتكاسات عديدة في العراق وفلسطين ولبنان وأفغانستان، وإنما تتّبع في الوقت ذاته سياسة معايير مزدوجة حيال الصراع في الشرق الأوسط وحيال مسألة انتشار الأسلحة النووية. ولا يقف الأمر عند هذا الحدّ، بل يتعدّاه الى تبنّي مواقف غير أخلاقية وغير إنسانية من قضية عالمية أصبحت على جانب كبير من الخطورة، هي قضية حماية البيئة من أخطار التلوّث والتغيرات المناخية الناتجة من النشاط الصناعي المفرط كالاحتباس الحراري والتصحّر، فضلاً عن استخدام المنتجات الزراعية كمصادر بديلة للطاقة مما يرفع المواد الغذائية.
هذه القضايا المصيرية بالنسبة إلى سكان الأرض تُترك من دون حلول أو معالجات مناسبة تحت شعار حرية الإنتاج والأسواق، وأنّ الاقتصاد أهمّ من البيئة، وهي سياسة تخدم مصالح الشركات الاحتكارية الكبرى على حساب شعوب العالم. إنّها ترجمة عملية لنظرية داروين حول نشوء الأنواع والبقاء للأفضل، لكنّ من وضع هذه النظرية الافتراضية ذهب بعيداً في الماضي ونسي الشقّ المُتعلّق بالمستقبل.
* كاتب لبناني