عبد الأمير الركابي *كل التساؤلات التي يمكن أن تُثار الآن بعد أن «تراجعت» حكومة السنيورة عن قراريها، لن تكون لها سوى قاعدة وخلفية واحدة. فالرصاص الذي لعلع في تلك الليلة، كرّس «انتصاراً» لن يستطيع أحد في حزب الله وقيادة المعارضة أن يعفي نفسه من تحمل تبعاته. والمشهد سوف يتغيّر (لعل الموالاة ستخسر وليد جنبلاط مثلاً فتهتز وتشارف على الانهيار).
وضع الموالاة سيّئ وسيزداد سوءاً، لكن الوفود التي ستهنّئ في الضاحية، ستحتاج في اليوم التالي إلى سلّة تضع فيها عن كاهلها ثقل انتصار ملتبس. والحقيقة المرّة هي أن المعسكر المعارض لم يعد يملك الآن سوى الأداء الرائع للسيد حسن نصر الله، غير أنّنا، يا للأسف، ينبغي أن نحذّر هنا من احتمالات تآكل المعنى، وليت السيد يقاوم الضغوط الهائلة التي ستسلَّط عليه على أمل أن يعالج الموقف بتكرار إطلالته وأدائه. وليعلم بأنّ الدوافع المتعاظمة في نفوس من يلحّون عليه مصدرها المأزق الذي يطوقهم بسبب وجهة استعمال السلاح. فبعض الانتصارات قد تكون أسوأ من الهزائم، وفي اليوم التالي، سيبحث من شوّهوا صورتهم بأيديهم عمّن يعيد لها تألّقها، وبما أنّ هؤلاء لا يملكون سوى سحر السيد، فمن المستحيل إقناعهم بأنّ المعضلة تعدّت سحر قائد المقاومين.
لقد جُرِّب السلاح واصطدم بجدران، بعضها صنعته المقاومة بيديها، وهي لها في ذلك سوابق. فلقد أصرّت على أن تجعل بداياتها المقاومة من لون واحد، وأفرغت الساحة من الحلفاء أو المنافسين بالقوة، وهذه سوابق يعرفها مقاومون ويتذكرونها جيداً، وهي دليل على أنّ الحزب لم يكن صادقاً حين كان يقول قبل مدة إنّ سلاحه ليس مهيأً للاستعمال داخلياً.
لقد بدأ يقول ذلك تحت وقع الاصطدام بجدار «البنية» والصراع المتأخر مع «الدولة»، وهذا ما اضطره لأن يتحوّل إلى جبهوي، حريص على أن يكون جزءاً من «معارضة» انتهت اليوم تجربتها إلى صدام نتج من تجاوز الصراع للأسباب التي حدت بحزب الله إلى الانضواء تحت لوائها والتدثّر بعباءتها.
ومن الآن فصاعداً، لن تعود هذه الصيغة ممكنة، فمعادلة المعارضة / الدولة هي أصلاً مقاربة غير صحيحة، ذلك لأنّ المقاومة «دولة»، وعليها إذا أرادت البقاء أن تعلن عن نفسها كمشروع دولة. لقد نشأ هذا الجسم خلال ربع قرن من زمن انهيار دولة كانت قد انتهت، وبُعثت لأسباب غير موضوعية ولا تمتلك الكثير من مبرّرات التاريخ. ولكن كما حدث عندما انتقل حزب الله من التفرّد المقاوم إلى المعارضة بصفتها جبهة، عليه اليوم أولاً أن يعترف بخاصيات الصيغة اللبنانية ويؤكدها بقوة كي يتقدم باتجاه تغييرها.
ما المخيف في إعلان شعار «دولتان»، والانتقال من صيغة «المعارضة» غير المنطقية والمفضية دائماً إلى الصدام غير المجدي والمؤدّي إلى الانفجار، نحو صيغة نظام لبناني جديد؟
في خطابه الأخير، قال السيد نصر الله «نحن الدولة» فكشف بهذا شيئاً عن لاوعي راسخ وعميق بوجود دولتين، ردّ عليه بالمقابل سمير جعجع «متجقماً» في هذه النقطة بالذات، لأنّ لاوعيه تحسّس نقطة الخطر الأكبر: «نحن الدولة يا شباب».
ولم يمرّ أكثر من يومين حتى سمعنا نائب الأمين العام يقول إنه يريد حلاً «من ضمن الطائف ومن ضمن الدولة وبصيغة لا غالب ولا مغلوب»، وهذا بالضبط نموذج الكلام الذي لن يتحقّق على الإطلاق، لأنه لا يتطابق مع حقيقة الدولة المقاومة التي هي حزب الله ومن معه.
هنالك بالفعل «دولتان ورؤيتان ونهجان ومنطلقان». عندما يطرح الأمر على أساسهما، يتغير منطوق السلاح ويصبح استعماله من طينة أخرى، لأنّ التكتيكات برمّتها واللحظات الاستراتيجية تكون مختلفة تماماً. نحن ذاهبون الى إقامة دولة لكل الطوائف اللبنانية، دولة لا تغمط حقّ فئة من الفئات، بل على العكس نريد إقامة نظام للبنانيّين أكثر عدلاً، وأكثر توفيراً للمساواة ولقوة القانون والمواطنة، وللحرية، واللا فساد، واختراقات السيادة. وهكذا يكون المستهدف نمطاً من قادة اللبنانيّين ومصالحهم لا لبنان وصيغته، كما يروّجون ويدعون.
هل هذا التحوّل في الخطاب والموقف خطير، وهل هو أخطر من استعمال السلاح أو من التصريح بـ«قطع الأيدي» وتنفيذ التهديد دون حساب لاحتمالات «قطع الأواصر»؟
في الحالة التي نتحدث عنها، سيكون هناك كلام لبناني شامل، والبدء ببحث مسألة تحويل تكتل المعارضة إلى إطار تأسيسي يرأسه عمر كرامي مثلاً بثلاثة أو أربعة نواب رئيس، وهو ما سينقل القضية إلى صعيد آخر.
هنالك بالطبع مسائل كثيرة ستحول دون تنفيذ مثل هذا التوجه، غير الاعتقاد بأنّ الجولات الحالية من الحوار يمكن أن تفضي إلى نتيجة ما، أو التردّد أمام هول الخروج على الطائف والجهر بإعادة إنتاج الصيغة. فمثل هذا الهجوم بحاجة إلى أدوات لا يملكها حزب الله؛ أدوات في الإعلام والصحافة والأفكار والاتصالات، وهو فقير في كل هذه، وسيجد نفسه بلا حول ولا قوة أمام مهمة هو يحسن مهمات غيرها، وقد يخشى أن يتحوّل إلى أقلية أو إلى الطرف الأضعف فيها.
وكل من لا يحسن لعبة الإعلام، ويعاني ضعفاً فكرياً، من حقه أن يخاف في المناسبات الجدية، وخصوصاً إذا أخذ الجميع بنظر الاعتبار تجربة «الامبراطورية القطرية العظمى» بالحسبان، وقارنوا أنفسهم بها لا بتلفزيون «المستقبل». لكن الصدفة وضعت قطر في مكان لا يحتاج قادته للسلاح، فليس على حدودهم من يحمل السلاح، والإمارة ليست الكويت حتى، ولا حدود لها مع إسرائيل.
تبقى مسألة المحفزات. ولا نريد هنا أن نقع في أي نوع من التهويل، لكن الولايات المتحدة وإدارة بوش تنتقل في العراق حالياً من «الغزو» إلى «الاحتلال»، وما كان قد تأجل وأصبح بعد عام 2003 غير ممكن بسبب المقاومة، يكاد ينتهي بعد أن انتهت المقاومة «الجزئية» وتراجعت.
وكل جهود الإدارة الأميركيّة منصبّة الآن على تأمين انتصار ماكين، وهو ما يريد بوش تحقيقه عن طريق العراق، الخنجر الأكبر في خاصرته. ومعركة الموصل سيعقبها إعلان الانتصار على «القاعدة» قبل عقد الاتفاقية الأمنية مع حكومة المالكي في تموز المقبل.
الجمهوري القادم إلى البيت الأبيض سيكون بمثابة الولاية الثالثة لبوش، مع حضور قوي للمحافظين الجدد. وهذا سيقوم بما لم يتهيّأ لبوش القيام به، فعراق محتلّ تقاتل فيه «الدولة العراقية» بدل الأميركيّين، سيكون نقطة انطلاق هجوم على إيران التي ستُضرب حتماً بعد سنة من الآن، كما ستواجه سوريا ظروفاً صعبة، بعدما انتهت سنوات الهدنة الخمس 2003 / 2008، وربما كان عام 2009 فاصلاً، والزمن الباقي لتجديد الاستراتيجية الامبراطورية بين عهدين ورئاستين قصير إذا لم تتغير الاستراتيجيات المعاكسة بسرعة وبإبداع خلاق ومن دون تردّد.
ستعود سوريا بحاجة هي الأخرى للنظر في تلك الورقة، وستفتح عينها واسعة على خيار إعادة إنتاج العقد الاجتماعي قريباً. ولكن في لبنان يبدو الخطر، في حال التلكّؤ، رهيباً، ومن العسير تخيل دمويته وكارثيته.

* كاتب عراقي