لؤي حسن *نصف قرن مضى على ثورة 1958، تلك الأيام اللبنانية العاصفة. نستذكرها حنيناً إلى زمن اللونين الأبيض والأسود والأحلام، والآمال. زمن أفسح لهم مكاناً في العقول والقلوب قادة كبار مرّوا بذلك الزمن.
وتعيدنا هذه الثورة إلى قائدها الملهم كمال جنبلاط. نستعيد صفحات من فكره المنسي. بعد أن بات الرجل مجرّد ذكرى في 16 آذار، وكتب على الرفوف بتجليد أنيق، فقط للزينة، أو للتجميل!
فكلّما أمعن المرء في قراءة كمال جنبلاط، يكتشف أكثر أنّه لم يبقَ ما يدلّ عليه. لا «التصميم الثوري» للحزب على حدّ تعبيره، ولا «طريق التضحية وتجريد الذات للمحازبين»، إلا من قلةٍ قليلة، تبدو بنظر سواها «ساذجةً» تتكلّم «لغة بائدة» مع حساسية مفرطة حيال الاشتراكية وكل مفرداتها بوصفها من «اللغة الخشبية»!
غير أنّ الحاضر و«كشوفاته» دلّت على أنّ هذه القيم ما زالت تنبض. لكنها أشبه بالكائنات الحية تغادر البيئة غير الصديقة، وقد طاب لها مناخ الجنوب وما بعده في فلسطين، فتستوطنه لتخرج كل هذه الملاحم من مارون الرأس وعيتا إلى غزة ودير البلح.
أما الاشتراكية، المهيضة الجناح، فقد أصبح التقريع فيها لازمةً في ثرثرات أشباه المثقفين، رغبةً في التدليل على مدى محاكاتهم للعصر! وربما عند البعض هي جهد مدفوع الثمن كما بات يتردّد. وباستبعاد النموذج الأخير في المرتدّين عن الاشتراكية، يعاني الباقي الضياع، أو حالة «عُصاب نفسي» استولدته الصدمة في السقوط الدراماتيكي للاتحاد السوفياتي، ومعه تجربته الاشتراكية التي أطّرت وعي جيل بكامله فقاربها على خلفية هذا الوعي، وانجذب إليها أيضاً بعاطفة الوفاء لمن قدّم للعرب السلاح في وجه إسرائيل، والمنح الجامعية، ومشاريع التنمية السخية إلى آخر ما هنالك.
لقد كان انسياق بعض المثقفين للفكر الاشتراكي انسياقاً طقسياً، لم يستتبعه جهد معرفي ضروري. فجاء الانقلاب على الفكر مساوياً بالسرعة وبالكيفية للإقبال عليه.
أما القارئ الجيّد لكمال جنبلاط، فلم يتفاجأ كثيراً بما آلت إليه التجربة السوفياتية، أو على حدّ تعبيره «العقيدة المسكوبية»، حيث تناولها بالنقد منذ وقت مبكر بوصفها «عقلانية دوغمائية جامدة»، عقليّة لا تستجيب لحاجة الإنسان، ومنها توقه إلى الحرية بأشكالها المتعددة والنزعة إلى الملكية الفردية. وقد توقع لهذه العقيدة ألّا تصمد أمام «خمسة وسبعين ألف عالم وأكاديمي سوفياتي»، طنّاً منه أن التغيير سيأتي على أيديهم.

اشتراكية للمستقبل

لم تكن رؤية كمال جنبلاط للاشتراكية ذات طابع انقلابي، تتجاوز إمكان الواقع. وهو بهذا يسلّم بأن التطور الاجتماعي الحالي لا يسمح بتجاوز الملكية الفردية، بل بتكييفها ليصبح لها «وظيفة اجتماعية» على حدّ تعبيره. كما راعت رؤيته الطبيعة الإنسانية في موضوعة المبادرة الفردية. ولكن تحت سقف التخطيط، أو التوجيه المركزي للاقتصاد.
ومن منطلق آخر، رأى أن ما جرى في دول عدة من تأميم للشركات الخاصّة، مجافٍ لروح الاشتراكية، وأثبتت أنّها ليست أكثر من عملية نقل للملكية تتشكّل بعدها «رأسمالية الدولة... وموظفوها». ولكسر هذه الحلقة، تبنّى كمال جنبلاط «الاشتراكية التعاونية». وقد طبّقها بنفسه وعلى نفسه في معمل سبلين، بجعله شركة ذات أسهم متاحة لعامة الناس آنذاك.
لم يكن الحلّ الاشتراكي عند كمال جنبلاط نوعاً من التسوية بين الطبقة العاملة والرأسمالية، بقدر ما هو فصل من عقدٍ اجتماعي متكامل يهدف من جانبه الاقتصادي إلى إقامة علاقة متوازنة بين العامل وربّ العمل، بجعله شريكاً لهذا الأخير في جزء من الأرباح و«وفقاً لنسبة عادلة». أو بوجهٍ آخر، ضبط العلاقة بين طرفي العملية الإنتاجية بوصفها حصيلة اجتماع المال مع قوة العمل بالمعنى الشامل للكلمة، أي الجهد العضلي أو العقلي.
وسيجد المدقّق في أوراق كمال جنبلاط أنّ مفهوم «الوظيفة الاجتماعية» للملكية الفردية يأخذ طريقه للتطبيق من ضبط الرأسمال، وهو ما عبّر عنه في معرض رسم أهداف الحزب: «تبديل في أوضاع الرأسمالية الفردية المسيطرة». أي وصولاً إلى منع تمركز الثورة وما يستتبعها من استئثار اقتصادي وهيمنة سياسية، العلّة المزمنة التي ما زال لبنان يعانيها.
ليس ما سبق «لغة خشبية»، اللهمّ إلا عند من ليس له مصلحة فيه. بدليل أنّه واقع قائم في اقتصاديات بلدان عدّة يُطلَق عليها اسم «مجموعة الراين»، وهي تضم بلداناً تتجاوز التسمية مثل الدول الاسكندنافية واليابان، إلى جانب ألمانيا والنمسا وغيرهما. هذا النمط في الاشتراكية النابض بالإنسانية يصلح لأن يكون في قواعده العامة أساساً لاقتصاد وطني، في بلد يتطلع إلى السيادة الحقيقية.

القطيعة

كان يمكن لما سبق أن يتحوّل إلى دليل عملٍ سياسي للحزب التقدمي الاشتراكي في مرحلة ما بعد الطائف، لو لم ينقطع النهر عن نبعه، وينكسر في منزلقات أوقعت الطلاق بين الفكر والممارسة.
وهذا ليس انطلاقاً من مرحلة الحرب التي تأخذ بطبيعتها بعداً أحادياً. ولكن من التجربة السلطوية المتعددة الأوجه في ما بعد. تجربة مثّلت ممارساتها انحداراً في السلوك، وقطيعة مع المبادئ.
فبعد ربع قرن من المواجهات، والدماء انسكبت من بيروت إلى الجبل، أُفسح الطريق إلى غير أهله يحصدون نتائجها خلافاً لمنطق قضايا الحرب والسلم.
فيما أصبح «المنتصرون» الذين «فتحوا طريق الجبل» إلى بيروت العاصمة مجرد أدوات لتكريس سلطة المال. هذا الإقطاع الجديد الذي جيّروا له كل شيء، النفوذ الشعبي ومواقع السلطة، حتى أضحى قطب الرحى، وما عداه مجرد رأس حربة في الأزمات السياسية، أو عسكرٍ وجماهير للحشد في المناسبات!
أمّا المقابل لهذا كلّه ـــ إن جاز ذلك في المبدأ ـــ فهو رخيص حتى في المفهوم البراغمائي المصلحي، ولا يعادل الخسائر التي تسبّب بها الانقلاب على الخيارات والتحوّل عن الشعارات. خسائر تبدو غير قليلة (بالمعنى الضيّق)، وتبدو كارثية بالمعنى الأوسع نسبياً، أي مع هذا الفقر المدقع الذي يعانيه أبناء الجبل، بلغ بهم بيعهم أراضيهم إلى الأشباح أو المجهول.
صحيح أنّ السياسة خاضعة للتغير، لكنه تغير من ضمن الثوابت المحكومة بعاملين بيئيّين هما على الأقل التاريخ، والجغرافيا.
هذه العلاقة تعامل معها كمال جنبلاط بوعي وتحسّس لميزانها، وإلّا ما كان لسياسي محنَّك مثله أن يفكّر بالإقدام على ما أقدم عليه عام 1958. من غير ثقته المسبقة بدعم الجمهورية العربية المتّحدة (دولة الوحدة المصرية السورية) له. فقد بدأت انتفاضته بتسعة وأربعين مقاتلاً، وهذا بكلّ المقايس نوع من الانتحار أمام خصم توافرت له مصادر دعم عديدة، منها تدخل الأسطول السادس الأميركي. لكن الدعم السياسي والمعنوي مع المدّ بالسلاح والرجال من (الإقليم الشمالي) ـــ سوريا ـــ عدّل من ميزان القوى. وهنا نستذكر «فوج جبل العرب»، وهو من المتطوّعين المتمرّسين في القتال من خلال مشاركتهم في «جيش الإنقاذ» خلال حرب فلسطين، وقد خاضوا فوق بطاح جبل لبنان أشرس المعارك، وسقط منهم العديد من الشهداء، حتى وقف كمال جنبلاط للقول وفاءً لهم ولتاريخهم: «كانوا في طليعة الذين يتقدّمون الصفوف... كأنهم عبر التاريخ جزء من لبنان أو كأنّ لبنان جزء منهم ومن عروبتهم الأصيلة».
ليس صدفةً أن يأتي الدعم من سوريا بالأمس البعيد أو بالأمس القريب، فالتاريخ لا تصنعه الصدف. وهنا نلفت إلى أنّ كمال جنبلاط عندما اختلف مع سوريا في عام 1976، لم يكن أبداً ينقلب على الثوابت، بل كان نزاعاً على الدور والحجم في إطار الثوابت.
لكن ما يجري الآن هو انقلاب بالكامل على الثوابت نفسها، حيث يأخذ التحريض على سوريا طابعاً دوغمائياً فجّاً. وما يجري أيضاً هو محاولة لقطيعة مع الذاكرة عندما يصبح الهجوم على سوريا رأس كل قيمة وطنية.
إنّه شيء من المعاندة للعقل ولمنطق الأشياء، هذه التي قال عنها كمال جنبلاط قبل نصف قرن «أشياء لا تُمحى من الذاكرة، ولا يقضي عليها تخطيط الحدود ولو بقيت هذه الحدود ألفي سنة».
أمّا التعرّض اليوم لنائب عبد الناصر في سوريا في عهد الوحدة عبد الحميد السراج، فيندرج في سياق هذا التبرّؤ من التاريخ، حتى لو شغلت مختارة كمال جنبلاط جزءاً من هذا الماضي. إذ لو جاز للدنيا أن تهاجم السراج لما جاز ذلك من المختارة. ولو أخطأ الرجل، كمسؤول أمني، وتجاوز بحقّ الناس كلها، فإنه لم يخطئ قط ولم يتجاوز البتة بحق المختارة التي جعلها قلعة عصية خلال ثورة 58، ومن دونه لأمكن لشمعون شطبها من الخارطة السياسية.
ليس في ذلك أدنى مبالغة، وهذه للتاريخ وللأجيال، ولهما أيضاً حقيقة أخرى لا بدّ من أن ننصف فيها السراج، وهو أنّه أقدم على ما أقدم عليه ليس بعقلية الموظَّف بل بدافع تكوينه السياسي والقومي، الذي مثّل خلفية نضاله السياسي لسنوات قبل الوحدة.
ومن جانبه، ظلّ كمال جنبلاط وفياً لهذه العلاقة، فقد حفظ الرجل بعد أن فرّ من سجنه بعيد الانفصال، مستضيفاً إياه في المختارة إلى حين انتقاله إلى مصر.
يستفزّنا الحاضر عند مقابلته بصفحات الماضي المجيد، ومنها سيرة هذا الرهط من رجال ثورة 58 الحافلة بالبطولات والمناقب. حسبهم منها فخراً أنهم خاضوا غمار ثورتهم فقراء، وخرجوا منها فقراء. ما أبعد اليوم عن الأمس.

* كاتب لبناني