حسام تمام *في تاريخها مع العمل السياسي، سيطرت قضية الهوية على الحركة الإسلامية وظلّت الأولوية القصوى لقضايا من مثل «إسلامية الدولة»، و«حاكمية الإسلام»، و«تطبيق الشريعة»... فكانت هذه القضايا «الهويّاتية» هي مركز أي شعار سياسي أو برنامج حزبي تتقدم به.
وحتى حين كانت تمنعها القيود السياسية أو القانونية من الجهر بقضايا الهوية، كانت لا تكف عن تضمينها في شعاراتها وخطاباتها وبرامجها، على نحو ما كان يفعل الزعيم الإسلامي التركي نجم الدين أربكان الذي كانت تضطره القيود القانونية الصارمة في النظام العلماني الكمالي إلى رفع شعار بناء النظام العادل والعودة ببلاده إلى عصر المجد والازدهار.
وكان الجميع يعرف أن الرجل يقصد دون أن يصرّح أن مشروعه بناء النظام الإسلامي الذي يطبّق الشريعة واستعادة دولة الخلافة!
في هذا السياق، كانت الأحزاب «الإسلامية» دائماً ما تستحضر معها سؤال الهوية، ليس في برامجها فقط بل حتى في أسمائها، فكانت أشهر الأحزاب «الإسلامية» تحمل أسماء إما تسفر عن هويتها الإسلامية مباشرة، مثل «الحزب الإسلامي» في ماليزيا، أو «جبهة العمل الإسلامي» في الأردن، أو «جبهة الإنقاذ الإسلامية» في الجزائر... أو تعلن عن أولوية ركن من أركان المشروع الإسلامي مثل «حزب الشريعة» (مشروع لحزب إسلامي في مصر)، «حزب الفضيلة» في تركيا، أو «حركة مجتمع السلم» في
الجزائر...
لكن، ومنذ عقد من الزمان تقريباً، بدأت ظاهرة ما يُسمّى بأحزاب «العدالة والتنمية» التي تحتل قضايا العدالة والتنمية مكاناً مركزياً في خطابها وفي تسميتها أيضاً. بدأت الظاهرة في المغرب مع تأسيس حزب «العدالة والتنمية» عام 1997، ومنها امتدت إلى أنحاء متفرقة في العالم العربي والإسلامي، ما بين أحزاب تأسست فعلاً وأخرى ما زالت مشروعات قيد التأسيس.
ففي تركيا أسس جيل الوسط في الحركة الإسلامية حزباً يحمل الاسم نفسه «العدالة التنمية»، وفي إندونيسيا أسس الإسلاميون حزب «العدالة والتنمية»، وفي ماليزيا أسس أنور إبراهيم الزعيم السابق لحركة الشباب المسلم، حزباً جديداً سمّاه «العدالة الشعبية». وفي العراق التقطت مجموعة إسلامية شيعية الفكرة فأسست حزباً لها باسم «العدالة والتنمية»، وإن ظلّ هامشياً في المشهد الإسلامي هناك وفي المشهد السياسي على وجه الإجمال. وفي موريتانيا أسس الإسلاميون حزب «التجمع الوطني للإصلاح والتنمية»، تنويعاً على اسم «العدالة والتنمية» الذي صكّه جيرانهم الإسلاميون المغاربة الأكثر حضوراً وتأثيراً في الحالة الإسلامية الموريتانية...
كما كانت هناك محاولة لم تكتمل في البحرين، وأخرى في مصر، من مجموعة على هامش الحركة الإسلامية ولكن لم توافق عليها السلطات... وكلها أحزاب أو مشروعات لأحزاب تحمل اسم «العدالة والتنمية» خرجت من رحم الحركة الإسلامية في بلدانها.
يبدو فعلاً أننا إزاء ظاهرة تستحق الدراسة، وخاصة أنها تطرح من التساؤلات أكثر مما تقدمه من إجابات، وأول ما يستحق التوقف عنده هو دلالة تصاعد هذه التسميات (العدالة والتنمية) في مشروعات الأحزاب الإسلامية، وتراجع عناوين تقليدية كانت تتصل بجوهر الأيدلوجية الإسلامية مثل الأمة والشريعة والإصلاح والنهضة.
ربّما يمكن ربط هذا التحول بتحول أكبر وأعمق عرفته الظاهرة الإسلامية في العقدين الأخيرين، انتقل بها من الطرح السياسي إلى الطرح الاجتماعي ضمن تحولات المجتمعات العربية والإسلامية، بل والعالم كله، الذي يشهد ما صار يعرف بنهاية الايديولوجيا أو أفولها... في ظلّ هذا التحوّل صار الطرح الاجتماعي، والشعار الذي يُتوسَّل به (العدالة والتنمية) هو الأكثر بريقاً وجاذبية، والأكثر قدرة على تعبيد طريق هؤلاء الإسلاميين نحو السلطة.
كما يمكن أيضاً وعلى التوازي الربط بين هذه الظاهرة وما جرى طوال العقد الأخير من مراجعات داخل الخطاب الإسلامي، تتعلق في كثير منها بالتصوّر الإسلامي الحركي لفكرة الدولة، وحساسيتها المفرطة لقضايا الهوية، وكثير منها جرى تحت وطأة النقد العلماني للخطاب السياسي الإسلامي الذي ظل يُتهم بالشعاراتية والأيديولوجية.
لكن في الوقت نفسه، يمكن ربط الظاهرة نفسها بتزايد الطلب في الغرب، والولايات المتحدة بشكل خاص، على ما صار يعرف بـ«الإسلام المعتدل»، الذي تتحدّد فيه مواصفات الاعتدال بقدر بُعده عن السياسي واقترابه من الاجتماعي والتنموي. وأخيراً فللظاهرة صلة مؤكدة بتحولات اجتماعية وطبقية داخل مكونات الحركة الإسلامية ذاتها، التي شهدت بشكل عام صعوداً اجتماعياً من ناحية، واقتراباً من الناس واهتماماتهم ومصالحهم الآنية والذاتية من ناحية أخرى، بما جعلها تبتعد أكثر فأكثر عن الطبيعة الأيديولوجية الصارمة والنقية، ومن ثم تراجعت لديها الأسئلة «التقليدية» لهذه الأيديولوجية، مثل سؤال الحاكمية والشريعة.
وضمن أحزاب «العدالة والتنمية» ذاتها، ينبغي أن نتوقف عند ما يمكن أن نعتبره قاسماً مشتركاً يجمعها ويعطيها معنى الظاهرة. فمن المؤكّد أنّ التشابه يتجاوز الاتفاق على الاسم أو تنويعاته إلى قواسم أخرى يمكن أن تجمعها معاً، وأتصوّر أنها تتحرّك ضمن مقاربة عامة تعطي الأولوية لسؤال تحقيق العدالة بين شعوبها، وتنمية مجتمعاتها وما يعكسه ذلك من الارتباط بمصالح الناس، ومن ثمّ تجعل قضية العدالة والتنمية مقدمة في الترتيب أو الأهمية أحياناً على سؤال الهوية ومتعلقاته.
وإن كان من الممكن أن نتوقع في الوقت ذاته أن ثمة خصوصية بحسب كل بلد وبحسب خبرة الحركة الإسلامية فيها. فحزب العدالة والتنمية في بلد عربي مسلم تقليدي كالمغرب، تتأسس فيه الدولة على شرعية دينية (دولة إمارة المؤمنين) يختلف كثيراً عنه في تركيا الكمالية التي ألغت الخلافة وأسست لنموذج من العلمانية تريد القطع مع كل ما هو إسلامي.
كما أنّ نخبة الحركة الإسلامية المغربية وقاعدتها الأكثر اتصالاً بالإسلامية طقوساً ورموزاً ومعاني، غير نظيرتها التركية التي تجذّر ارتباطها بالغرب، ليس كجغرافيا فحسب، بل كرؤية ومشروع للمستقبل يراهن عليها في أي مشروع للإصلاح. ومن ثم فلا بد من الحذر من الوقوع في توهم التماثل.
وإذا جئنا نقوّم تجربة العدالة والتنمية في عقد من الزمان، فمن اختبار مدى توافر هذه الأحزاب ذات المرجعية الإسلامية على نموذج تنموي يميزها عن الأحزاب ذات المرجعية الليبرالية والأخرى الاشتراكية. وكذلك السعي إلى تلمّس معالم هذا النموذج في الاقتصاد وفي الشأن الاجتماعي بشكل عام. وفي هذا الصدد سنفاجأ بأن هذا النموذج الذي يربط أصوله بتصوّر «ما» للمرجعية الإسلامية، إما أنه يتشابه إلى حد التطابق مع النموذج الاقتصادي والتنموي الغربي، كما في حالة «العدالة والتنمية» التركي، أو «العدالة الشعبية» الماليزي (حيث الارتباط بالنموذج الرأسمالي الغربي ومراكزه، والتأثر الكبير بالنيوليبرالية)، أو هو، مثل «العدالة والتنمية» المغربي، أقرب لاقتصاد سوق مع دور اجتماعي للدولة، ومع تردّد أو عدم حسم في قضايا جوهرية مثل توزيع الثروة وسياسة الاحتكارات الاقتصادية التي تمثّل أهم التحديات في بلد كالمغرب، أو أن تصوراته غير مكتملة لحداثة عمره وخصوصية بلاده، كما في الحالة الموريتانية التي ما زالت أقرب إلى ما قبل تكون الدولة في صورتها الحديثة!
وتبقى أسئلة المستقبل في ظاهرة أحزاب العدالة والتنمية مشرّعة على أكثر من باب، وخاصة في ما يتصل بالقضايا التي تمسّ النموذج الذي يطرحه في العمل السياسي الإسلامي. من هذه الأسئلة ما يتعلق بمدى استقرار مقاربة التنمية بديلاً عن مقاربة الهوية دون الرجوع عن ذلك في زمن يتصاعد فيه خطاب الهوية، أو مدى قدرة حركة إسلامية، مهما بلغ اهتمامها بقضايا الناس وتنميتهم، على تجاوز قضايا الهوية وتطبيق الشريعة، والكيفية أو الأشكال التي يجري عبرها تصريف قضايا الهوية بالنسبة إلى الحركة الإسلامية التي تمثلها أحزاب العدالة والتنمية، إذا ما اتفقنا على صعوبة تجاوزها تماماً. كذلك شكل فهم هذه الأحزاب «الإسلامية» للشريعة الإسلامية، وحدود اختلافها مع نظيرتها الإسلامية التقليدية. ثم أخيراً نظرة هذه الأحزاب، وخاصة في الدول التي قطعت شوطاً في التحديث والعلمنة، لسبل تنزيل مرجعية الشريعة في واقع «علماني».
وهنا يمكن أن نطّلع على تعدّدية وتنوع كبير في خبرات أحزاب العدالة والتنمية. فالحزب المغربي مثلاً لجأ إلى التمييز بين الدعَوي والسياسي، لكي يغطّي انسحابه من قضايا الهوية تاركاً إيّاها لحركة دعوية مستقلة عنه، ومتفرغاً لقضايا التدبير والتسيير. ولكنه رغم ذلك لم يقطع، وما كان باستطاعته أن يقطع بشكل تام، مع قضايا الهوية في بلد ما زال للفرانكوفونية فيه نفوذ كبير وفاعل، وخاصة في الفضاء الثقافي، رغم انتماء نظامه السياسي للعصور السلطانية! فيما لم يتوقف الحزب التركي كثيراً عند هذه الأسئلة، وقطع تماماً معها ليقدّم نفسه حزباً سياسياً لا يعبأ من قضايا الهوية إلا بما انتهى إليه الإجماع التركي، الذي كان توقيعه الأخير ممهوراً بخاتم علماني كمالي ذي روح قومية مستعصية على الغياب!
ليس من السهل التجرّؤ على طرح إجابة نهائية أو حاسمة. لكن مبدئياً، يبدو أن ثمة تفاوتاً بين استجابات أحزاب «العدالة والتنمية» الإسلامية لهذه التحديات وما يكتنفها من إشكالات، ويبدو أننا أمام نوعين من الاستجابة مختلفين إلى حدّ التناقض، وبينهما تتموقع بقية الاستجابات: نموذجان يسعى أحدهما إلى أسلمة الحداثة مثلما يفعل حزب العدالة والتنمية المغربي، فيما يرى الآخر، نظيره التركي، أن الطريق يبدأ مع تحديث الإسلام!

* باحث مصري في شؤون الحركات الإسلاميّة