سعد الله مزرعاني *لم تكن إعادة تكليف الرئيس فؤاد السنيورة بتأليف الحكومة الجديدة أمراً غير متوقع إلا في أذهان أولئك الذين يقلّلون من شأن العامل الخارجي في تقرير الأساسي من مسارات الحوادث في لبنان. بل يمكن القول الآن، وبعد «إجماع» فريق 14 آذار على تسمية السنيورة مرشحاً من جانبه للرئاسة، إنّ هذا القرار كان قد اتخذ في وقت سابق ومبكر و«منسجم» مع جملة من الأسباب الدافعة، وأبرزها الآتي:
1 ــــ تحتاج هذه المرحلة أيضاً إلى «خبرة» فؤاد السنيورة التي تعزّزت وتأكدت خلال الحوادث الصاخبة المنصرمة، وخصوصاً خلال العدوان الإسرائيلي صيف عام 2006، وكذلك من خلال العمل على مختلف الملفات السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية القائمة في صلب الأزمة اللبنانية، أو المتداخلة معها والوافدة إليها من المديين الإقليمي والدولي. هذا يعني، في المقلب الآخر، أنّ ما حصّله أو راكمه السيد سعد الحريري المرشّح «الطبيعي» للمنصب، لم يكن كافياً من أجل القيام بالدور «المطلوب»، ومن أجل أن يحلّ «الأصيل محلّ الوكيل»، كما رغب البعض عن محبة، أو عن خبث، أو عن غرض... لا فرق!
2 ــــ يتداعى عن هذا الأمر ويتصل به اتصالاً وثيقاً، أنّه لم تتيسّر لـ«تيار المستقبل» بعد قيادة جدية وفعلية، وأن قيادة هذا التيار ما زالت من «خارجه». إنها في أمكنة عدة: في فريق 14 آذار، أو في أحد أقطابه، أو في أحد «المستشارين»، أو في أحد السفراء... أي إن تيار الرئيس الشهيد رفيق الحريري ما زال حالة عاطفية ــــ مذهبية واسعة ومنفعلة، لكنه يفتقر إلى القيادة المتبلورة والقادرة والمنبثقة من عمق معاناته ومأساة خسارته لمؤسّسه ومطلقه وقائده رفيق الحريري.
3 ــــ يشير التمسّك بالسنيورة، الذي حظي بدعم وإعجاب ومدائح أميركية غير مسبوقة، إلى حاجة واشنطن إلى رمزية بقائه على رأس الحكومة اللبنانية في هذه المرحلة بالذات (قبيل الانتخابات الأميركية)، وبعد «اتفاق الدوحة» خصوصاً. فواشنطن تستطيع من خلال بقاء السنيورة على رأس الحكومة اللبنانية خلق انطباع تحتاج إليه لدى الرأي العام الأميركي والشرق أوسطي، بأنها ما زالت تحتفظ بنفوذها في لبنان، وبأن خسائرها بعد «اتفاق الدوحة» في هذا البلد، كانت خسائر جزئية وبسيطة ومحدودة.
4 ــــ يشاطر قادة المملكة العربية السعودية الإدارة الأميركية رأيها بضرورة بقاء السنيورة. ونظراً إلى فظاظة الإخراج الأميركي لعودة السنيورة، فقد تولّى السعوديون هذا الإخراج، ولو المحرج، لفريق «الحرية والسيادة والاستقلال»! وشكلت زيارة السفير السعودي للمملكة بعد ظهر يوم الثلاثاء الماضي، ثم عودته السريعة ليحمل القرار الحاسم إلى فريق 14 آذار وسعد الحريري، حركة سياسية لم يحتجّ عليها كثيرون، ليس فقط في فريق 14 آذار، بل أيضاً في فريق 8 آذار نفسه.
والمملكة تعدّ لبنان «حصّتها» في التنازع السياسي والطائفي الذي يستمر في المنطقة من العراق... إلى لبنان. ولقد ساومت قيادة المملكة كثيراً على ضرورة الاعتراف بحصّتها تلك في لبنان. وهي حاولت الكثير في هذا الصدد قبيل «اتفاق الدوحة»، وخصوصاً مع كل من سوريا وإيران. ووصل الأمر بقيادة المملكة إلى أن قايضت لبنان بحضور أو عدم حضور مؤتمر القمة العربية في دمشق.
هذا بالإضافة إلى أنها أطلقت عهوداً وبذلت وعوداً من أجل أن تقتطع لبنان سياسياً ومذهبياً. وحين لم تستجب طهران ودمشق (خصوصاً)، كانت مقاطعة القمة، وكانت الحملة السياسية الدولية والعربية على سوريا وطهران، وكانت قرارات الحكومة اللبنانية، وأبرزها القراران الشهيران، وخصوصاً قرار إسقاط الشرعية عن حزب الله، والتعامل معه ومع قيادته وسلاحه ومؤسساته باعتباره مطارداً ومطلوباً لـ«عدالة» حكومة السنيورة وسمير جعجع!
5 ــــ لقد لعبت عوامل أخرى أيضاً لمصلحة السنيورة، ومنها على سبيل المثال لا الحصر: جدّية أدائه السياسي والأمني، ومثابرته، وعلاقاته العربية والدولية، في مقابل هشاشة وضع «تيار المستقبل» في حوادث بيروت الأخيرة، حيث تبين أن سعد الحريري لم يتمكن من إقامة بنية تستطيع أن تتحمل المسؤولية في ظروف صعبة مستجدّة.
وتأتي أيضاً في امتداد ذلك، وفي موقع مركزي منه، ضرورة متابعة ما كان قد بدأه السنيورة وحكومته وبعض وزرائه، في المجالات الأمنية خصوصاً: لجهة التنسيق الوثيق مع الأجهزة الأمنية الأميركية وبعض الأجهزة العربية، ولجهة الالتزامات الاقتصادية، وخصوصاً في نطاق (ومن حول) مؤتمر «باريس 3». ويتصل بذلك أيضاً مصير «الصفقات الكبرى» التي سيكون قطاع الاتصالات (ذهب لبنان) أخطرها وأكبرها وأشهاها!
من أجل كل ذلك، يشير الإصرار على عودة السنيورة، إلى استمرار الصراع في لبنان وعليه بضراوة، وإن بصيغ مختلفة، قد تتضمّن دون شكّ إلى مناخ الهدنة، أشكالاً من التوترات الجزئية أو الأكثر اتساعاً.
وسيشمل هذا الصراع كل الحقول السابقة تقريباً، وإن كانت الجبهة الاقتصادية ــــ الاجتماعية مرشّحة لأن تكون الأكثر برودة قياساً على الجبهات الأخرى!
يستدلّ البعض أنه سيكون هنالك تحالف وطيد وسعيد (!) بين أطراف المعادلة البورجوازية التقليدية اللبنانية.
ويجري بتبسيط وابتذال إطلاق أوهام بشأن انطفاء وانتهاء الصراع الدائر في لبنان على موقعه وتحالفاته وعلاقاته (خصوصاً، أزمة العلاقات اللبنانية ــــ السورية) وتوازناته وحصص أطرافه الطائفية... ويجري أيضاً إلغاء العامل الخارجي كعامل حاسم، كما ذكرنا، في بعض الجوانب الأساسية من الأزمات والصراعات اللبنانية.
ينطلق بعض هذا التقدير من رغبات متفائلة في حلول سحرية للأزمات اللبنانية والأزمات المتداخلة معها. كما ينطلق بعضه من تبسيط مخلّ في النظر إلى الصراع الطبقي والاجتماعي، عبر حصره في الداخل اللبناني، وإضفاء قدرية عجائبية عليه، تجعله يطغى على كل ما عداه، في الداخل وفي الخارج، من الصراعات والمؤثرات، بما فيها الصراع الطبقي والاجتماعي الأشمل والأعمق والأهم الدائر على مستوى المنطقة، فضلاً عن مثيله من الصراع الدائر على المستوى الكوني، جميعاً!
وفي امتداد هذا الأمر، لا بد من صياغة استنتاجات مناسبة بشأن أولويات المهمات الوطنية اللبنانية. ويجب القول بدءاً، إنّ هذه الأولويات ما زالت هي نفسها تقريباً. وأولى هذه المهمات هي فكّ ارتباط السلطة اللبنانية بالمشروع الأميركي. تلك معركة مفتوحة تخاض الآن بشروط أفضل، لكنّها تبقى بين الأساسيات من أجل تحييد لبنان، على الأقل. فالأميركيون، رغم خيبة حلفائهم من سقوط أو محدودية حماياتهم، ما زالوا بحاجة إلى استخدام «قصّة نجاحهم» في لبنان، وما زالوا، بهمة السنيورة وفريقه ومعهما السعودية، قادرين على ذلك ولو نسبياً!
وثانية هذه المهمّات تتّصل بالأزمة السياسية اللبنانية. وهي أزمة نظام طائفي مفلس أظهر عجزه عن أن يمثّل إطاراً وناظماً سليماً لعلاقات اللبنانيين ولاستقرار بلدهم وسيادته ووحدته... ويتصل بهذا الأمر، تشديد النضال ضدّ تأجيج الانقسامات الطائفية والمذهبية. وتلك مهمة يجب أن يتشارك فيها الجميع، وخصوصاً الأطراف الحريصة على محاصرة أضرار وأساليب المشروع الأميركي والإسرائيلي في أضيق نطاق ممكن.
أمّا الدور الأكبر في هذا الصدد فيقع على عاتق القوى الديموقراطية، بما فيها التيارات الحزبية والسياسية وقوى في المجتمع المدني، وذلك من أجل تكوين جبهة واسعة للإصلاح والديموقراطية، وهي جبهة ممتدّة بالضرورة، ولا تقتصر فقط على الاتجاه اليساري ــــ الشيوعي بين هذه القوى.
وثالثة المهمّات تنبثق من الواقع الاقتصادي الاجتماعي البالغ التأزم الذي يترك أخطر النتائج على حياة الأكثرية الساحقة من اللبنانيين.
إنّ بناء حركة سياسية فاعلة، على أساس المهمات الثلاث المذكورة آنفاً، هو هدف وطني كبير. وحتى نضوج ذلك الوضع موضوعياً وذاتياً، يجب أن تنشط القوى الديموقراطية في بناء مقوّمات هذه الحركة بأولويات مترابطة، دون تقليل مخلّ أو مبالغة مفرطة ومفرّطة!
* كاتب وسياسي لبناني