جوزف عبد الله *تقدّم انتخابات مجالس الطلبة في فروع الجامعة اللبنانية في الشمال، دليلاً إضافياً على ضعف، أو بالأحرى على قصور وعدم جدية قيادات قوى المعارضة في شمالي لبنان. ومن هنا ضرورة تحليل هذه الانتخابات من حيث تحضيرها وممارستها ونتائجها.
ولا نفعل ذلك للتجريح بالمعارضة أو برموزها، بل من أجل استخلاص العبر، ولغرض استنفار الهمم. هذا مع التأكيد أننا ننطلق في تحليلنا هذا من موقع المؤيد والمنحاز للمعارضة والحريص عليها، لكونها الإطار الوحيد (هذا إذا استثنينا الحركات «الجهادية» الإسلامية) والأساسي المتصدّي لمشروع العدوانية الأميركية ــ الصهيونية ــ الأوروبية وأدواته العربية واللبنانية. وعليه، نأمل اعتبار ما نقدّمه هنا على سبيل النقد الذاتي.
من المعروف أن قطاع الطلاب، والجامعي خصوصاً، من أهم قطاعات المجتمع على صعيد الحراك السياسي، نظراً لما تمتاز به هذه الفئة العمرية الشابة من طموحات وميل للمثل وهمّة وعزم، فضلاً عن كونها تمتلك مقومات الوعي لكونها تحصّل معرفة جامعية وثقافة تفوق متوسّط وعي العامّة من الناس. وكثيراً ما كانت الحركة الطلابية في لبنان (كما في كل مكان) معقل الحراك القومي والوطني والنقابي عموماً. ولذلك تتّجه كل القوى السياسية الحية (يميناً ويساراً) لاستقطاب الطلاب وإدراجهم في مشاريعها. ولعلّنا بغنى عن تعداد القيادات السياسية المتخرّجة من صفوف الحراك الطلابي.
أسفرت الجولة الأولى لانتخابات مجالس الفروع الطلابية في الجامعة اللبنانية في الشمال (في معهد العلوم الاجتماعية، وكلية الحقوق والعلوم السياسية والإدارية) في 18-3-2008، عن فوز كاسح لطلاب «شبيبة العزم» (تيار دولة الرئيس نجيب ميقاتي) في الكلية الأولى ولتيار المستقبل في «الحقوق»، وفق الجدول الرقم 1 في الهوامش.
تقاسم المقاعد تيار الرئيس ميقاتي (غلبة في «العلوم الاجتماعيّة»، 10 من أصل 12، و2 في «الحقوق»؛ ما مجموعه 12 مقعداً من أصل 35) والمستقبل (غلبة في «الحقوق»، 19 من أصل 23، و2 في «الاجتماعية»، ما مجموعه 21 مقعداً من أصل 35). والمقعدان الباقيان (في «الحقوق») كانا من نصيب «المعارضة» (2 من أصل 35).
من الواضح أن المنافسة الفعلية في هذه الانتخابات الطلابية كانت بين فريقين: تيار ميقاتي وتيار المستقبل.
لم يدخل الأول في أي تحالف، سواء المعارضة (التي أبلغته قرارها بدعمه في «العلوم الاجتماعية») أو تيار المستقبل أو رابطة الطلاب المسلمين. وكذلك الأمر، اقتصر تيار المستقبل على التفاعل الإيجابي مع الرابطة، لما فيه استتباعها ولمصلحته فقط (خرجت رابطة الطلاب المسلمين العديمة الوزن والفعالية، انعكاساً لواقع ومسلكية الجماعة الإسلامية في السنوات الأخيرة).
غياب الحركة الطلابية للمعارضة
غاب عن هذه الانتخابات الطلابية اثنان: حراك طلاب المعارضة، وقضايا الجامعة اللبنانية (ولا سيما خصوصيتها الشمالية).
غياب الحركة الطلابية للمعارضة لم يقتصر على ضعف الفوز بالمقاعد التمثيلية للطلاب (2 من أصل 35)، بل كان غياباً لافتاً في الحراك أصلاً وفي الترشيح وتركيب اللوائح.
إن ضعف طلاب المعارضة في الترشيح وفي تركيب اللوائح، وندرة حالات الفوز بالمقاعد يعكسان بطبيعة الحال غياباً في الحراك السياسي لقيادة قوى المعارضة بالذات، وغياباً لاهتمامها بالحركة الطلابية، وفي ذلك مثل نموذجي لقصورها ولعدم جديتها في مجمل حراكها السياسي بالتحديد. وهذا على عكس ما يتوهمه أو يتعلل به البعض من أوساط طلاب المعارضة الذين سألناهم تفسيراً لحالهم.
فالطالب محمد سليمان، الرئيس السابق لمجلس الطلبة في «العلوم الاجتماعية»، الذي يصنّف نفسه مستقلّاً مؤيّداً للمعارضة، يقول، شأنه شأن غيره، في معرض تبرير هذا الغياب: «لقد تبلّغنا فجأة بقرار الانتخابات، فلم يكن لدينا ما يكفي من الوقت للتحضير لها». كأن الآخرين كانوا على علم مسبّق بالأمر! أو كأن الحراك الطلابي يكون «غبّ طلب» الانتخابات وفي زمنها فحسب! وبما أن التمديد لمجالس الطلبة ساري المفعول، فلا حاجة إلى حراك طلابي.
لو أنّ للمعارضة حركة طلابية منظّمة وناشطة في الوسط الجامعي لما استلزمها لإدارة الانتخابات وبنجاح، بصرف النظر عن النتائج، وقت أطول من الوقت المُتاح لغيرها. وفضيحة قيادة المعارضة في الشمال في الانتخابات الجامعية ليست في ندرة الفوز بالمقاعد بل في ندرة المشاركة وسطحيّتها. أي في غياب إيمان قيادة المعارضة بضرورة استيلاد حركة طلابية: تعبئة وتنظيماً حول القضايا الطلابية والجامعية والوطنية، ومن ثمّ ترشيحاً وانتخاباً عند اللزوم (عسى ألا يكون كذلك في الميادين الأخرى).
لماذا يتسنّى لدولة الرئيس ميقاتي حركة طلابية، «شبيبة العزم»، أن تتمكن من خوض الانتخابات بكفاءة، وكذلك لتيار المستقبل في الشمال، فيتقاسمان المقاعد؟ الجواب ببساطة: إنهما مهتمان بالحركة الطلابية، ويدفعان باتجاه تنظيمها وتفعيل حضورهما السياسي في الأوساط الجامعية. لماذا تتمكن قوى المعارضة في بيروت والجبل والجنوب والبقاع من الحضور الفعلي في الأوساط الجامعية عبر حركة طلابية ناشطة؟ الجواب ببساطة أيضاً: إن قيادة المعارضة هناك جدية في حراكها ومؤمنة بما تقول، فتفعل.
ألم يكن هذا الأمر متاحاً أمام قيادة قوى المعارضة في الشمال؟ لا شك في أنه متاح لمن يملك الإيمان الفعلي بضرورته. ولا شك في أنه متاح لمن يعرف معنى الحراك الطلابي. ولو أن قيادة المعارضة في الشمال على هذا الإيمان وعلى هذه المعرفة، لاستولدت حركة طلابية فاعلة وقادرة على أن تعكس حجم المعارضة المنتشرة في مشاعر الناس والكامنة في نفوسها. لكنّ حجم هذه المعارضة مغيّب، وبالتالي فاعليتها «مكبوتة» إن صحّ التعبير، بحكم طبيعة القيادات القاصرة عن مهماتها المطلوبة منها.
لو فرضنا أنّ قيادة المعارضة في الشمال مهتمة بالحركة الطلابية في الجامعة اللبنانية، أي لو فرضنا أن دولة الرئيس عمر كرامي وقيادة جبهة العمل الإسلامي بمكوّناتها وقيادات أحزاب الحركة الوطنية والتيار الوطني الحر ومؤسسة المردة (تميز التيار والمردة بشيء من الحراك) والنائب مصطفي علي حسين (وقد أعلن منذ ثلاثة أشهر تأسيس حزب «الحركة الشعبية اللبنانية») والنائب السابق وجيه البعريني (الذي يعمل لإطلاق «التجمع الشعبي العكاري») وغيرهم، لو أن هؤلاء كانوا مهتمين ومدركين ومؤمنين بقيمة الحراك الطلابي، هل كانوا عاجزين عن استيلاد حركة طلابية تخوض انتخابات مجالس الفروع في الجامعة اللبنانية بنجاح يعبر عن حضور المعارضة ودورها؟ بالطبع لا! ولكن «لو» حرف امتناع، وهو هنا لعدم وجود الإيمان والجدية. «لو» حرف امتناع لوجود القصور!
متى لاحظنا أنّ في الشمال جامعات خاصّة تشرف عليها بعض قيادات المعارضة، منها جامعة «المنار» (دولة الرئيس كرامي) وجامعة الجنان (الداعية فتحي يكن)، ولا يُلحظ فيها نفس «حياة» واحدة للمعارضة، متى لاحظنا ذلك، بطل العجب مما نشهده في الجامعة اللبنانية؟
غياب قضايا الجامعة اللبنانية
أليس من الغريب أن تحصل انتخابات طلابية تغيب عنها قضايا الجامعة اللبنانية، في زمن يتحرك فيه الأساتذة مضربين ومهدّدين بمزيد من الإضراب، وذلك أيضاً قبيل موعد الثالث من نيسان موعد الإضراب التحذيري؟ (بالمناسبة لم يكن حراك الأساتذة الجامعيين أفضل من حراك طلابهم، مع الأسف).
تسأل طلاب «شبيبة العزم»: لماذا انتخبكم الطلاب وفزتم؟ يأتي الجواب، على لسان الطالب حسام مراد مثل «شبيبة العزم» في «العلوم الاجتماعية»، وقد ترشّح وفاز: «إلامَ يحتاج الطالب أساساً؟ دورات تقوية في بعض المواد، فنعمل على تأمينها. نساعد على توفير بعض المحاضرات وتوزيعها مجاناً على الطلاب. نهتم بالطلاب، ونتواصل معهم... هذا هو دورنا عبر «مكتب الخدمات الطلابية» في حركتنا».
تسأل الطلاب المحسوبين على المعارضة: ماذا فعل طلاب «شبيبة العزم» و«المستقبل» حتى حصدوا هذه النتائج، بينما أنتم عجزتم عن الأقل منه بكثير؟ فيأتيك الجواب: «المصاري»! أو «إنهم يصوّرون المحاضرات مجاناً للطلاب» أو «ساعدوا في التسجيل مجاناً»، وهذا كلّه يعني المال!
قد يكون هناك شيء من هذا القبيل. لكن الحقيقة أن معظم الطلاب يتسجّلون على نفقة ذويهم، ويدفعون من جيوبهم ثمن المحاضرات. هذا فضلاً عن أنه لا يُعجِز قيادة المعارضة في الشمال توفير مكتب بسيط وتزويده بآلة لتصوير المحاضرات وتوزيعها مجاناً على الطلاب، كذلك دفع رسم التسجيل البسيط في الجامعة اللبنانية لعدد ما من الطلاب المعوزين. لكن الأمر المهم ليس هنا. فليس شعبنا، وخصوصاً الطلاب الجامعيين، مجرد مجموعة من المتسوّلين على أبواب المتموّلين.
الأمر المهم أن هذه الانتخابات الطلابية غابت عنها قضايا الجامعة اللبنانية بفعل فاعلٍ معلوم هو القيادات السياسية الفاعلة في الحركة الطلابية. مجالس الطلبة هي أقرب ما يكون إلى هيئة نقابية للدفاع عن مصالح الطلبة. ومصالح الطلبة في الجامعة اللبنانية في الشمال تبدأ بالبناء الجامعي الموحد (الذي وُضع حجر أساسه منذ بضع سنوات، بينما تستمرّ الإدارة المركزية للجامعة باستئجار الأبنية المتفرقة هنا وهناك في طرابلس لتُؤوي الفروع لقاء إيجارات خيالية) وتمرّ بتعيين الوظيفة الفعلية للجامعة وتزويدها بما يلزمها من وسائل تربوية ومختبرات ومكتبات وأساتذة وبرامج حديثة وعلاقات فعلية مع مرافق الإنتاج وسوق العمل...
مثل هذه القضايا الفعلية لا تطرحها القوى السياسية القابضة اليوم على الحركة الطلابية في الشمال، لأنها ليست على جدول اهتماماتها ومصالحها، إن لم تكن متناقضة مع هذه المصالح. لكن المفروض بقيادات المعارضة، الشمالية خصوصاً، تبني هذه القضايا واستيلاد الحراك الاجتماعي، والطلابي على أضعف الإيمان، للنضال من أجل تحقيقها. ولكن «على من تقرأ مزاميرك يا داود؟».
فكل واحد من قيادات المعارضة في الشمال أعجز عن التفكير في غير قضاياه الضيقة في نطاق «عقاره» السياسي. وهيهات منه الفعل (وربما الكفاءة والرغبة) على بلورة مشروع مشترك، فضلاً عن التفكير في قضية الجامعة اللبنانية.
* أستاذ جامعي