بولس الخوري *إذا كان الدين هو مجموع الأوامر والنواهي التي ينسبونها إلى الإله تنزيلاً من عنده وتدويناً في كتاب، وتفسيراً يعلنه رجال الدين، فإنّ المتديّن المكلَّف هو الإنسان المعنَّف. في المبدأ، لا يقوم الدين بالعنف العنيف، بل بالعنف اللطيف، إذا صحّ القول. ومن ذلك حثُّ المتديّن على الارتقاء إلى مستوى القيَم الدينيّة المثاليّة عن طريق ما يسمّونه إماتة النفس، ليس قتلاً، بالحقيقة المادّيّة، بل بالمجاز الروحانيّ، أي بالتصدّي لاندفاع الأهواء وتغليب الروح على الشهوة.
إذًا لدينا الإله، وتنزيله، والوسائط البشريّة (رجال الدين) بينه وبين سائر المتديّنين. إذّاك، لا بدّ من مساءلة هذه الوسائط عن صحّة تفسيرها للأوامر والنواهي ونسبتها إلى التنزيل. ذلك أنّ الوسيط، ولو افترضنا إمكان فقهه كلام الإله، لا يزال بشراً، له ما لسائر البشريّين من الفضائل والنقائص. فلا يمتنع أن يكون هو، من حيث لا يدري، منقادًا لأهوائه في تفسيره لمعطيات الدين وفرضها على من اؤتمن عليهم.
في هذه الحال، كان مثَل الدين كمثَل أيّ مجال من مجالات الأنظومة الثقافيّة التي يبتدعها كلّ مجتمع وفقًا لحاجاته. فمثلاً، إن عدنا إلى مقولة العنف، أمكن اعتبار التقنية بأشكالها ضرباً من العنف ينال الطبيعة، وينال أيضاً الناس بقطعهم عن الطبيعة وإكراههم على العيش في عالم اصطناعيّ، عالم الآلات، حيث سريعاً ما يتحوّلون من إنسانيّتهم إلى آلات مبرمجة. على هذا المثال، أمكن اعتبار دين الأوامر والنواهي ضرباً من العنف ينال المتديّن ويُكرهه على الانقياد والطاعة. ومن البديهيّ أنّ معظم المتديّنين، غير المتخصّصين في ما يسمّى علوم الدين، يردّدون آليّاً الكلمات الدينيّة التي لُقّنوها ولم يفقهوا معانيها، لا الباطن منها بل ولا الظاهر، ويأتون بالحركات المفروضة، أي الشعائر، من دون الوقوف على مغازيها.
ومتى كان الأمر على هذا النحو، لمَ نستبعد أن يعتقد هذا المتديّن، وكذلك مرجعه الدينيّ، أنّ دينه هو وحده الدين الحقّ المنزل من عند الإله، وأنّ ما سواه ممّا يُدعى أدياناً ليس من الدين في شيء. فقد تدفع أهلَ هذا الدين الحميّة إمّا إلى الدعوة، أي العمل على هدي أهل الأديان المغايرة وإدخالهم في الدين الحقّ، وإمّا إلى إكراههم على ترك ضلالهم والدخول في الدين الحقّ.
أمّا إذا برز مع وجه الدين الروحيّ وجهه السياسيّ، فغالباً ما تكون العلاقة بين الأديان، التوحيديّة منها على وجه التخصيص، علاقة تصارعيّة فيها ما فيها من العنف. وقد يكون التصارع والتنازع إمّا بالحجّة هجوماً ودفاعاً، وإمّا بالسيف أو بالسلاح المتطوّر. ولنا في تاريخ الأديان دليل على هذين الضربين من التنازع. وذلك أوّلاً في قلب الدين الواحد بين من اعتبر نفسه صاحب الصراط المستقيم ومن خالفه الرأي. ثمّ بين أهل دين معيّن وأهل دين مغاير. فكان، مثلاً بين النصارى والمسلمين، مقارعة بالحجج، وكان بينهم قتال سُمّي جهاداً من جهة، وحملة صليبيّة من جهة أخرى. فكان بينهم من المحاجّة ما دام قرونًا على ما هو عليه من دون الوصول إلى أيّ نتيجة. وكان بينهم من القتال، أو من السيطرة، ما شاءت الأقدار. فتارةً، كما في العصر الوسيط، كان نصارى المشرق في ذمّة المسلمين إمّا متصافين مع أسيادهم وإمّا أذلّاء صاغرين. وتارةً، كما في أزمنة الاستعمار الغربيّ، كان المسلمون يحاولون التكيّف مع ما يفرضه عليهم المستعمر. والجدير بالذكر أنّ هذا التعايش، على نوعيه، جعل التفاعل واقعاً بين الدينين، والتعاون قائمًا بين الفريقين في إنهاض الثقافة العربيّة الواحدة.
ولمّا دخلت الشعوب اليوم ــ أو أُدخلت عنوةً ــ في عصر العولمة، بدا أنّ إله الأديان تحوّل أداةً طيّعة وذريعةً يتذرّع بها الأقوى المستقوي لإخضاع الأضعف المستضعَف. وأدّى هذا التحوّل إلى الخلط بين الوجه الروحيّ للدين، ووجهه الدنيويّ. فقام العالم الغربيّ المتقدّم علميّاً وتقنيّاً بغزو العوالم المتخلّفة، ومنها العالم العربيّ الإسلاميّ، بذريعة إرساء النظام الديموقراطيّ وإحقاق حقوق الإنسان فيها. وإن لم يُذعن أحد هذه الشعوب ولم يشأ أن ينخدع، أخذ الأقوى بغزوه وقتله، وأشاع القول إنّ المعاند إرهابيّ يجب القضاء عليه ليعمّ السلام في العالم، وإنّ هذا العنف يبرّره مقصده المعلن. والجميع يعلم من هو الإرهابيّ الحقيقيّ، والجميع يسكت بل يردّد هذه المقالة وهذه القالة وهذا القيل. فصار صاحب الأرض وصاحب الحقّ هو الإرهابيّ، ونُسب إرهابه إلى أصول دينه. فذاع أنّ الأصوليّين يدفعهم دينهم إلى مواجهة أنصار الديموقراطيّة وحقوق الإنسان والسلام العالميّ بنشاطهم الإرهابيّ. صدّق واسكت، أو تطوّع إرهابيّاً في تحصيل حقّك.
نخلص من هذا إلى أنّ ما يسمّى شريعة الغاب هي الشريعة التي سادت وتسود العلاقات بين الأفراد والشعوب والأمم، وأنّ الأديان قد حاولت إرساء شريعة العدل والعقل بدلاً منها، فاصطدمت بواقع أنّ العدل والعقل كثير ومختلف، إذ لكلّ فرد أو جماعة عدلها وعقلها تقوم بفرض قوانينه على من سواها.
كم من براميل الدم العراقيّ وجب إهراقه كي يصير البترول العراقيّ من أيدي الإرهابيّين إلى أيدي أصحاب الديموقراطيّة وحقوق الإنسان والسلام العالميّ. لعلّ هذا هو التقدّم الإنسانيّ اللا عنفيّ، ولعلّ هذا هو الخطّ السلميّ لسير التاريخ.
* كاتب لبناني