مصرع التغيير على مذبح الصراع ضدّ إسرائيل والعمالة للخارجعلي السقا
يحاول «الديموقراطية والتحركات الراهنة للشارع العربي»، الخوض في أساس الفكرة الديموقراطية، طارحاً السؤال البديهي عن ماهيّة السمة الحديثة للشارع العربي. «إن الديموقراطية هي التي تتحقّق فيها حرية كل فرد في تحديد نفسه وحرية المجموع في أن يحددوا بأنفسهم نظام حياتهم المشتركة». لم تعرف الدولة العربية عقداً اجتماعياً يوكل فيه أطراف المجتمع تسيير شؤونهم والحكم في ما بينهم إلى هيئة عامة مشتركة، بحيث يمثّل الدستور ورقة تعاقد تلزم السلطة بواجباتها والشعب على السواء. فالانتقال المفاجئ من الحدود الافتراضية للجماعات في العقود الماضية إلى كيانات «وطنية» رسمها الاستعمار بدقة، حمل معه أمزجة وتباينات ثقافية لم تجد السبيل إلى انصهارها في دولة ونظام متماسك البنيان. إلا أنه يجب الإقرار بمحاولات هي أشبه بإرهاصات دستورية جاءت على يد حفنة من النخب الثقافية إبان الحقبة العثمانية (مبايعة السلطان عبد الحفيظ شرط إقرار دستور 1908). أما الدولة العربية الحديثة، فقد استطاعت أن تقدم نفسها نموذجاً للدولة القهرية والمغتصبة لحقوق الأفراد والجماعات، بحيث لم تعرف تلك الدولة تداولاً سلمياً للسلطة، بل من خلال انقلابات عسكرية أطاحت قيمة الإنسان كفرد، وانتقلت به إلى ما يشبه «معسكراً»، بحيث لا يعدو الإنسان كونه أكثر من جندي مهمته التنفيذ لا النقاش.
وعلى الرغم من سوداوية الصورة، شهدت الدول العربية تحركات شعبية لامست حدود المطالبة بأكثر من توفير الشروط الاجتماعية والحياتية، لتتعدّاها إلى المطالبة بتهيئة مناخ ملائم من الديموقراطية. فقد مثّلت حركة «كفاية» المصرية، «ذروة التحول في الشارع المصري»، إذ تمكنت من خوض المعركة السلمية ضدّ سياسة التمديد والتوريث من خلال نضال شبه يومي. إلا أن «كفاية» كمثيلاتها في الدول العربية تجابَه بخطاب سلطوي مضادّ بهدف تفريغ نضالها من مضمونه عبر استخدام «لازمة» تقول إنّ الواقع الاقتصادي يفرض عليها النظر في تحسين الشروط الاجتماعية، والعزوف عن دعوة المصريين إلى نضال «أجوف» من أجل الديموقراطية والحرية، فيما جلّ ما يسعى إليه المواطن المصري هو تحصيل قوت يومه.
إنه خطاب رسمي عربي يتجاهل أنّ النضال من أجل الحرية والديموقراطية لا يقلّ شأناً عن المطالبة بتأمين ظروف اقتصادية مناسبة، لا بل يدخل في صلب النضال السياسي لا على هامشه، وهو ليس بالطبع تنفيذاً لإملاءات خارجية، ليطاول الاتهام بالعمالة كل من يهب دفاعاً عن حريته. أما في البحرين، التي تتشارك وجاراتها اختلالاً في التوازن الطائفي، بما أنّ «الذات الملكية مصونة وغير خاضعة للمساءلة» بحسب الدستور، فقد ساعد النظام على استمالة تيارات سلفية ودينية تقليدية يضمن الاتكاء على متنها لإحباط كل المحاولات الخجولة التي تقوم بها الحركة الدستورية وحركة الدفاع عن الحريات. وفي سوريا، جعل النظام من «أولوية» الصراع مع إسرائيل مدعاة لتأجيل مستمر في البحث عن سبل توفير أدنى شروط الحياة الديموقراطية. وهو ما وضع السوريين أمام تجربة متعثّرة منذ مطلع عام 2000 خالوها وللوهلة الأولى بداية تحوّل سلوكي للنظام السوري في اتجاه المصالحة وإعادة بناء ثقة متبادلة. إلا أنّها لم تَعْدُ كونها أكثر من «دمقرطة دفاعية» محسوبة بدقة أشبه بجراحة تجميلية لن تخفّف من قبح وجه الممارسات القمعية بحق الشعب السوري ونخبه المثقفة (إقفال منتدى الأتاسي، إضافةً إلى اعتقالات شملت رموزاً ثقافية وفكرية من ميشال كيلو إلى عارف دليلة وأكثم نعيسة والنائب في البرلمان رياض سيف).
لعل الوفرة النسبية من الحرية في لبنان مكّنت اللبنانيين من ممارسة حقهم في التظاهر وإبداء الرأي، إلّا أنها لا تزال تمارس في الشارع بغية إبراز غلبة عددية مقرونة بتناسٍ طوعي لعجز بيِّن عن تحقيق الشعارات المرفوعة لارتباطها حكماً بتوازنات طائفية، إذا اختلّت فإنها قادرة على إشعال حرب أهلية لا تُبقي ولا
تذر.


العنوان الأصلي
الديموقراطية والتحركات الراهنة للشارع العربي
الكاتب
مجموعة كتاب
الناشر
مركز دراسات الوحدة العربية