مارشيلو ويكسلر *في الشهر المنصرم، أصدرت الحكومة الإسرائيلية تقريراً يتعلّق بمستوى الفقر وتفاوت المداخيل في إسرائيل في سنتَي 2006-2007. لن أحلّل هنا الإحصاءات التي وردت فيه، فهي تتكلّم عن نفسها: مع مرور الوقت، يزداد عدد الناس تحت خطّ الفقر. يرتفع عدد الأطفال الفقراء (طفل من بين كل ثلاثة حالياً)، وعدد العمّال الذين لا تكفيهم مداخيلهم لتأمين لقمة عيشهم. ومن الواضح أنّ هذا الميل سيسوء أكثر فأكثر، وأنّ السياسات الاقتصادية العنصرية والليبرالية الجديدة التي تنتهجها الحكومة ستجرّ مجموعات إضافية من السكّان، ولا سيّما الشباب والمسنّين والأطفال، إلى بحر الفقر.
لن تحاول هذه المقالة أن تقنع الشباب الليبراليين المزيّفين ذوي الدخل العالي ونمط الحياة المترف ـ أي الشرائح العليا من الطبقة الوسطى الإسرائيلية ـ الذين قرّروا تجاهل الإحصاءات المتعلّقة بتفاوت المداخيل الذي يستفيدون منه، ولا إقناع «مسؤولي وزارة المال»، الذين يمثلون جوهرياً المجموعة الأكاديمية ـ التنظيمية للظالمين.
فلا جدوى من محاولة دلّهم إلى خطأ الطرائق التي يتّبعونها عندما يقترحون طرائق «بديلة» لاحتساب الفقر، مثل فكرة احتساب مؤشّر الإنفاق لدى الفقراء بشكل يوحي بأنّ هؤلاء الأخيرين لا يعرفون كيف يعيلون أنفسهم بطريقة عقلانية. أي إنّ الفقراء، وبتعابير بسيطة، يدخّنون ويشتركون بمحطّات تلفزيونية فضائية وينفقون أكثر مما يجب وإلى ما هنالك. وليست آراؤهم هذه التي يتشبّثون بها بزلّة لسان، بل تمثّل جزءاً من إيديولوجيتهم.
بدلاً من ذلك، كُتبت هذه المقالة من أجل تعميق التفكير في إمكانات العمل الاجتماعي السياسي، مع الإدراك بأنّ ظاهرة الفقر ستتعمّق وتمثّل جزءاً لا يتجزأ من المشهد الاجتماعي السياسي في السنوات العديدة المقبلة.
فقر بلا أمللقد دُمّر هذا العالم. فأصحاب الرساميل نقلوا مصانعهم إلى بلدان تؤمّن يداً عاملة أقل كلفة، مثل الأردن أو الهند أو الصين، أو على العكس، بدأوا يستخدمون أموالهم في قطاعات متطوّرة ترتبط بالتقنية العالية وببرمجة الحواسيب، وفي الخدمات الماليّة، وهي مجالات لا يستطيع فيها العمّال الذين لم يتلقّوا مستوى تعليمياً كافياً أن يجدوا لهم أمكنة. وأدّت هذه العملية إلى تهميش مجتمعات بأكملها كانت تعتمد موارد عيشها على الإنتاج.
لقد أصبح التعليم والشهادات الجامعية ضروريين بشكل متزايد. وبموازاة ذلك، جرت عملية حذف مفهوم التثبيت الوظيفي وإلغائه من أمكنة العمل، وهو أمر لم يحدث بسبب إزالة الصناعة فحسب، لكن أيضاً وأوّلاً، نتيجة التغيّرات في بنية رأس المال. فيجب على رأس المال في أيامنا هذه أن يتنقّل بسرعة، أن يوظَّف بسرعة ويحقق أرباحاً سريعة، إذ إنّ الرأسماليين باتوا غير راغبين أو غير قادرين على تحمّل مسؤولية جماعة عمّاليّة على المدى الطويل، أو تحمّل مسؤولية رفاهيتها واستمراريتها حتى الجيل التالي.
في مجال التربية، انفجرت فقاعة وهمّ الارتقاء الاجتماعي الذي كان شعاراً في إسرائيل في التسعينات. فترافق ارتفاع عدد الطلاب الذين يقدّمون امتحانات الدخول إلى الجامعات مع ازدياد عدد الطلاب من كلّ الفئات السكانية. ومن أجل تلبية الطلب على التحصيل الدراسي، تتكاثر المعاهد الخاصّة مثل الفطريات على أثر وابل من المطر. وصار الشباب يُجبَرون على الاكتفاء بوظائف متدنّية الأجور، لا تتلاءم ومهاراتهم بعد أن يكونوا قد أمضوا بضع سنوات يوظّفون فيها وقتهم ومالهم في التعلّم. هذا ويتزايد عدد العاطلين عن العمل الذين تجاوزوا سن الأربعين، إذ إنهم يصبحون من ذوي الخبرات ويتوقّعون نيل أجور أعلى.
بين الأطفال والشباب، تراجعت القدرة على فهم أهمية التعليم المنهجي؛ فهم يشعرون بأنّ تعلّمهم لن يكافئهم بشكل مُرضٍ في نهاية المطاف (حتى لو كانوا عاجزين عن تقديم تحليل سياسي لهذا الواقع). ويمثّل ذلك مصدر شعورهم بأنهم وقعوا في الفخّ: فمهما درسوا أو كيفما توجّهوا، يشعروا بأنّ الأبواب ستكون موصدة في وجوههم.
تشهد إسرائيل، إضافةً إلى تهميش كل فئات السكان المضعفين، تهميشاً بنيوياً ينشأ من العنصرية، مثلاً تجاه الأقلية الفلسطينية والمهاجرين الجدد والميزراتشي والنساء.
السلع للعرض لا للشراءهذه ظاهرة جديدة تسمح بها «الدمقرطة» الليبرالية الجديدة. وينشئ وضع كهذا سخطاً وكبتاً متراكمين لا يُطاقان. في بداية الثورة الصناعية في إنكلترا، منذ أكثر من 150 سنة، قام عمال النسيج، الذين فقدوا موارد رزقهم، بإطلاق العنان لكبتهم عبر تدمير الآلات. واليوم يجد السخط منفساً له في نوع آخر من أعمال التدمير والتخريب المتعمَّد للممتلكات الخاصة أو العامّة. فضمن هذا الإطار، تندرج مثلاً أعمال الشغب التي جرت في لوس أنجلس وباريس. لكن لا بدّ من الاعتراف بأنّ الأعمال الناجمة عن السخط كهذه لا تفضي إلى أيّ تحرك واعٍ من جانب المتظاهرين يتعلق بأسباب ظلمهم. فالسخط هو سخط وسخط. والتوازي بين الجهتين ـ عمال النسيج البريطانيين من القرن التاسع عشر والشباب الثائر اليوم ـ لا يكمن في الطريقة فحسب، ولكن أيضاً في عدم تبلور الوعي.
ويعود السبب الأوّل إلى عدم حدوث تغيّر في الوعي اليوم إلى انهيار النظام الطبقي والمجتمع أمام ظلم السياسات الليبرالية الجديدة العالمية. فينشأ تفكّك المجتمع من عدم القدرة على جمع كل المظلومين تحت مظلة اجتماعية سياسية واحدة: الراشدون، والمسنّون والشباب والأطفال والعاطلون عن العمل والفقراء العاملون والذين يفتقرون إلى التعليم والمتعلّمون والرجال والنساء.
إنّ إنشاء تضامن ضمن المجتمع ليس أمراً مفروغاً منه، وينبغي إقامة مصالح مشتركة من جديد على أسس غير تلك القائمة. ومن بين أمور أخرى، يجب أن تمثّل قاعدة لمصلحة طبقية، اليوم في هذه المرحلة المختلفة من التطور التي تلي إنهاء التثبيت الوظيفي في أمكنة العمل. ويجب على الشراكة الطبقية الجديدة أن تأخذ بعين الاعتبار البنية المتغيرة للجماعة المظلومة، بما فيها من صفة مؤقّتة للعمل، وتدنٍّ بنيوي في التوظيف؛ كما يجب أن تأخذ بعين الاعتبار أيضاً أنّ قسماً كبيراً من اليد العاملة المتوافرة البخسة الكلفة أصبح غير ضروريّ في مجتمعنا.
العنصريّة والفاشيّة والرأسماليّة
وبموازاة ذلك، ينبغي أن يؤخذ في الحسبان أنّ تسييس النضال الاجتماعي هو ضرورة ناتجة من فصل الاجتماعي عن السياسي في إسرائيل. ففي المجتمعات المهمّشة، ثمة ميل إلى ارتفاع مستوى العنصرية والقومية الفاشية والتعصب. وكلما ازداد تهميش أحد المجتمعات وازداد التهميش ضمنه، قلّ التضامن. تلك هي إيديولوجيات عاقلة للجوء إلى حالة صراع من أجل البقاء. وثمة حاجة بشرية إلى بقاء المجموعة، غالباً ما تبرّر العنصرية والتمييز وحتى الرفض التام للمختلف وللآخر.
هنا ثمة افتراضات كثيرة مشتركة بين الفعّاليين الاجتماعيّين والسياسيّين لا تتناسب مع هذا الوضع المتغيّر. وتمثّل منهجية «المراحل» مثالاً على ذلك، فهي تقول إنّه في العمل بين الشعوب المظلومة، يجب أن تؤمَّن حاجاتها أوّلاً وأن يُحرَّك المجتمع على أساس تجاربها القائمة ووعيها. وبعد ذلك فقط، عندما تشعر بأنّها تتمتّع بالقوّة الكافية، ونكون قد كسبنا ثقتها، يُثار موضوع الصراع القومي بين اليهود والفلسطينيين. فلم تثبت هذه المنهجية نفسها مطلقاً، كما أنّها تسلّط الضوء خصوصاً على الغطرسة حيال المظلومين، فهم يُعامَلون معاملة الأطفال الصغار الذين لا يفهمون.
كما أنّ هذه المقاربة لا يمكن أن تنجح في الواقع لأنّ «إخفاء» المعلومات يحول دون النقاش بين أعضاء الجماعة، ولا يقدم فرصة لإحداث تغيير في الوعي. واضح أنّ ثمة مشكلة قائمة، مشكلة عنصرية وخوف وأكثر من ذلك، ولكن دور الفعّاليين يقضي بأن يقولوا عالياً ما يفكّرون فيه، حتى لو لم تقبله الجماعة. إذ ينبغي أن تدرك الجماعة والفعّالون أنّ عدم معالجة الجماعة لهذه المسائل هو المشكلة بعينها لا الهوة بين وعي الجماعة والفعّاليين.
ويكمن مثل إضافي في جدول الأعمال. فما هو العمل الأهم والأقل أهمية الذي يجب القيام به؟ العمل مع مَن هو الأهم، وبأيّ وسائل؟ في عمليات التهميش في مجتمعنا، ليس من السهل تحديد ما أهم ما يجب القيام به. إنّ المنهجيات المحدودة التي وُلدت من تجربة اليسار الدولي المنظَّم وقامت على أساس طبقي قوي لم تعد مناسبة. فالطبقية، بالمعنى التقليدي للكلمة، لم تعد اللاعب الوحيد على الحلبة. يجب أن يكون العمل أكثر تعقيداً، ويأخذ بعين الاعتبار أن طرائق التصرف والكفاح لا بدّ من أن تقوم على ما هو موجود وعلى ما هو ضروري ـ ويمكن أن يتغير هذان في أي لحظة من اللحظات.
إنّ المثل الأخير يرتبط أكثر برؤية عالمية. فإذ يزداد الظلم قساوة ويلحق الأذى بعدد أكبر من الناس يوماً بعد يوم، يجب أن تركز نظرة عالمية تربط ما بين الفعّاليين السياسيّين والاجتماعيّين على قيم عالمية إنسانية، قيم العدالة والعدالة الاجتماعية والمساواة. ويكمن سبب ذلك في الصدمة التي تلقّتها الإيديولوجية الثورية في العقدين المنصرمين، فتركتها مرتبكة ومنقسمة وتحارب بشكل متواصل هجمات اليمين المستمرّة. إنّ بناء إيديولوجية جديدة هي مسألة وقت وعلاقات نفوذ وتحقيق النجاحات في الكفاح.
لكي تُعزَّز عمليات التغيير في الوعي المتعلق بالفقر الرمزي، من الضروري توسيع نطاق المسائل في معجم الخطاب السياسي، بما أنّنا نعيش في واقع فيه الشعوب المظلومة تحلم بما لا تملكه، ولن تملكه يوماً على الأرجح، وتغار منه.
هذا هو الانتصار الأكبر والأكثر تعقيداً الذي حقّقته الليبرالية الجديدة. ولهذا السبب يتطلّب كلّ عمل اجتماعي سياسي وقتاً واستثماراً كبيراً، ولا يمكنه الاعتماد على عمليات تدخّل سريعة. فتغيير الوعي ليس مسألة فعل واحد، بل أفعال متراكمة. بهذا المعنى، يجب أن نفكّر بتأنٍّ أيضاً في منهجية العمل: كيف نحدث تغييراً في الوعي وكيف نقود
التغيير.
* عن مركز المعلومات البديلة (Alternative Information Center)
ترجمة جورجيت فرشخ فرنجية