سعد الله مزرعاني *نعود مرّة جديدة إلى موضوع سيبقى، كما يبدو، موضع جدل كبير، إعلامي وسياسي، واقعي ومفتعل، لفترة طويلة من عمر الأزمة اللبنانية الراهنة. والموضوع هو طبيعة الصراع القائم في لبنان: هل هو داخلي أم خارجي، هل هو صراع بين اللبنانيين، أم هو «صراع الآخرين على أرض لبنان»؟
لا يختزل هذا العنوان كل مشهد النزاعات في لبنان وعليه، لكنه عنوان حظي دائماً ولا يزال، في أدبيات فريق من اللبنانيين، بأهمية استثنائية. جوهر الموقف في هذا الصدد هو أنه لا خلاف جدياً وجوهرياً بين اللبنانيين، والأزمة في هذا البلد إنما هي أزمة مستورَدة من الخارج. وينطوي هذا التقدير على اعتبار اللبنانيين مجمعين على دعم سياسة سلطاتهم، ومتمسّكين بنظامهم السياسي وبفرادته وأفضلياته. أمّا المعارضون فقلة مدفوعة من الخارج، ممّا استدعى التشكيك في لبنانيتهم وفي هويتهم الوطنية.
سادت هذه المقولة طيلة مرحلة الحرب الأهلية في لبنان بين عامي 1975 و1989، وظلّت حاضرة في المدة المماثلة التي تلتها، أي طيلة خمسة عشر عاماً أخرى! ثمّ عادت فاستشرت منذ أوائل 2005، حين اندلعت أزمة كبيرة في لبنان، كثمرة لتناقضاته وكنتيجة للنزاع القديم والجديد القائم في المنطقة، وأبرزه حديثاً الغزو الأميركي للعراق في مثل هذه الأيام قبل خمس سنوات كاملة مضت عليه وعلى المنطقة عموماً.
في الأسابيع الماضية خصوصاً، انطلقت حملة ضارية تحمّل السلطات السورية مسؤولية الأزمة اللبنانية ومسؤولية عرقلة «الحل العربي» المطروح لها. قاد هذه الحملة المسؤولون الأميركيون على كلّ المستويات، وشارك فيها بنشاط استثنائي قادة دول أوروبية، ووسطاء ومسؤولون سبق لهم (أو لدولهم) أن حاولوا وساطة ما في الأزمة اللبنانية، لأكثر من مرّة.
ومع اقتراب موعد انعقاد القمة العربية الدورية العشرين، والمقررة في دمشق أواخر آذار الماضي، بلغت هذه الحملة ذروتها بانضمام فريق السلطة في لبنان إليها، عبر مؤتمر احتفالي كبير لفريق 14 آذار، وفي اليوم المذكور نفسه.
مرة جديدة، بدا أن كل أزمات لبنان تعود مسؤوليتها الحصرية إلى جهة واحدة هي السلطات السورية، وأن الحل السحري يتمثل في وقف التدخل السوري، ولو اتخذ ذلك أحياناً شكل تدخل سوري من نوع آخر، لدى فريق من اللبنانيين، من أجل إرغامه على القبول بما لا يقبل به من الشروط والتسويات السياسية.
وبمقتضى هذا التصور، أُلغيت مرة أخرى التناقضات اللبنانية ـــ اللبنانية، القديمة منها والحديثة، السياسية والاجتماعية، التناقضات القائمة في صلب النظام الطائفي بسبب الصراع على توازناته وحصصه، أو الأخرى المستعرة بشأن موقع لبنان ودوره وعلاقاته في صراعات المنطقة. هذا فضلاً عن التناقضات المتّصلة بالصراع العربي ـــ الإسرائيلي وانعكاساته المدوّية على لبنان، وأبرزها في غزو عام 1982 واحتلال العاصمة بيروت، وقبل ذلك وبعده في ما نشأ من أشكال المقاومة للاعتداءات الصهيونية على لبنان، والانتصارات الرائدة والمدهشة التي أنجزتها تلك المقاومة، وآخرها في تموز عام 2006.
بموجب هذا المفهوم للبنان والصراع فيه أيضاً، جرى ويجري تجاهل المعارضة اللبنانية بكلّ قواها وأطرافها وبرامجها ومطالبها... يحصل ذلك حتى حين يُحرّض على هذه المعارضة، وخصوصاً القوة الأساسية الراهنة فيها (حزب الله)، من أنها تسعى إلى الهيمنة على السلطة، وكسر توازناتها، والإطاحة بصيغة النظام القائم وبالمشاركة والمشاركين فيه.
لا شك في أن الإدارة الأميركية صاحبة مصلحة في إضفاء صفة التمثيل المقنّع والقوي على حلفائها في لبنان. ولا شك أيضاً، في مصلحتها في محاولة تثبيتهم في مواقعهم التي يستخدمونها من أجل تلبية المطالب والشروط الأميركية. وطبيعي أيضاً، أن تنسب تلك الإدارة إلى خصومها في المنطقة صعوبات حلفائها في لبنان. لكن من غير الطبيعي إلى درجة مذهلة أن يندفع أحد إلى هذا المستوى من التعسف في حجب التناقضات اللبنانية ـــ اللبنانية، وفي حجب الاستقطابات الرئيسية الناجمة عنها، وخصوصاً في تداخلها وتفاعلها مع نزاعات المنطقة وتناقضاتها، وعلى وجه الخصوص، منذ صيف عام 2004، يوم اندلاع الصراع على رئاسة الجمهورية في لبنان وصدور القرار 1559 بالتزامن التوثيق مع هذا الاستحقاق، بمقايضات بين دمشق وبيروت من جهة، وواشنطن ونيويورك وباريس من جهة أخرى، لم يسبق لها مثيل في أي أزمة من الأزمات العالمية.
إنّ نفي وجود أزمة بين اللبنانيّين، هو أقرب الطرق إلى التعامل الخاطئ مع الوضع اللبناني، وخصوصاً حين يكون النفي صادراً عن جهات لبنانية تقع عليها مسؤوليّات خاصّة في حصول هذه الأزمة وفي التفتيش عن حلول وتسويات لمعالجتها. وهذا النفي، هو، فضلاً عن ذلك، مدخل إجباري خطير إلى استدراج التدخلات الخارجية بأشكال شتى. وهذه التدخلات لن تحصل حتماً إلا على حساب سلامة لبنان ووحدته ووجوده، في مرحلة خطيرة كالمرحلة التي يعيشها لبنان وتعيشها المنطقة، وخصوصاً (تكراراً) منذ «انبلاج»، أو تعذر انبلاج فجر الشرق الأوسط الواسع أو الجديد، بسبب تعثر الغزو الأميركي للعراق.
إلّا أنّ نفي وجود أزمة بين اللبنانيين أنفسهم، ذات أبعاد سياسية واجتماعية، لا يعادله في التعسّف إلا نفي وجود أزمة في العلاقات اللبنانية ـــ السورية. ولقد وقعنا في مجرى الصراع المشار إليه آنفاً، على مفارقتين اثنتين في الأسبوع الماضي، بطريقة بدت متعارضة مع الصورة العامة للحملة التي تحدثنا عنها. والمفارقتان نجمتا، في وقت متزامن تقريباً، عن مواقف كلّ من وزيري خارجية المملكة العربية السعودية والجمهورية العربية السورية. وكلتا الدولتين حالياً هما الأكثر انخراطاً في الأزمة اللبنانية، ومن بين القوى الأكثر تأثيراً في مجرياتها. فلقد «فاجأنا» الوزير السعودي بعقد مؤتمر صحافي اعتراضي على القمة العربية، حمّل فيه المسؤولية عن إفشال «الحلّ العربي» لفريق المعارضة اللبنانية لا للسلطات السورية، كما كان دأبه من قبل.
أما الوزير السوري وليد المعلم، فقد «فاجأنا» هو الآخر، بحرص على إبراز الطابع اللبناني للأزمة، وبحرص مماثل (ومتشفّ!) على رفض التدخّل في الشؤون اللبنانية احتراماً لسيادة لبنان واستقلاله!
اجتماع القطبين العربيّين المتنافسين على تأكيد الطابع اللبناني للأزمة ومسؤوليّة الأطراف اللبنانية عن حلّها أو عن عدم حلّها، ولو بطرق متباينة، هو في الصورة التي تجسّد فيها شكل آخر من المشهد المعقد للأزمة اللبنانيّة الراهنة، واستئناف فجّ للتدخّل فيها، في حالتي نفي مسؤولية اللبنانيين وغير اللبنانيين، أو تأكيد هذه المسؤولية على السواء. ويطرح ذلك جملة أشكال من العمل لإعادة الاعتبار للحقيقة. ويتناول التصويب المطلوب حقيقة الوقائع، بالقوة نفسها التي يتناول فيها المواقف والمقاربات المعتمَدة من قبل أطراف الصراع المحليين والإقليميين والدوليين، في تفاعل مواقفهم ومصالحهم وتضاربها على النحو المتوتر والخطير القائم والمتوقع.
إنّ الصراع في لبنان قديم ومزمن، ويكاد للأسف يصبح مستعصياً. وهذا الصراع هو المولّّد الدائم والأساسي لعناصر الضعف في الوحدة الوطنية اللبنانية. وتغذّي ذلك، بالأساس، الصيغة الطائفية للنظام السياسي اللبناني. هذه الصيغة نجحت بالفعل في منع تحويل لبنان إلى بلد موحّد وحصين ومستقل ومستقرّ، وهي أربكت أيضاً دوره وموقعه وعلاقاته وخياراته، وسط صراع إقليمي تفاقم بعد الغزو الأميركي للعراق عام 2003.
إن مفهوم لبنان الساحة، حيث تدور الصراعات المحلية الذاتية، أو الوافدة الخارجية، يجد مصدره الأساسي في الانقسام اللبناني المكرَّس في الصيغة السياسية للنظام. وتنكشف هذه الصيغة، بالضرورة، على التناقضات الخارجية أو تستدرجها لتغيير موازين القوى داخل السلطة أو لتثبيتها، بشكل جعل السيادة اللبنانية معرّضة للانتهاك من الخارج في امتداد انتهاكها من قبل الدويلات الطائفية في الداخل، أو خدمة لمشاريع إقليمية أو دولية يمثّل الشرق الأوسط مسرحاً مفضلاً لها، بسبب النفط، وبسبب عوامل استراتيجية أخرى في صراعات متعددة الأهداف والأغراض والقوى.
التسوية العاجلة لاحتواء الأزمة اللبنانية، منعاً لتدهورها إلى حرب أهلية، هي مسألة شديدة الإلحاح، ولا يمكن أن تتم إلا على أساس المشاركة والتوازن النسبي. إلا أن ذلك لا يكفي لمعالجة جذرية باتت هي الشرط لتجنيب لبنان خطر الانقسام والتفتت والتشرذم.
إن جملة حقائق مترابطة تفرض نفسها كعناوين أساسية في المعالجة المنشودة:
1 ــ فكّ ارتباط لبنان بالمشروع الأميركي الشرق أوسطي الجديد أو الواسع.
2 ــ إصلاح النظام السياسي اللبناني.
3 ــ معالجة الخلل في العلاقات اللبنانية ـــ السورية، سعياً لإقامتها على قاعدة التعاون والتكافؤ.
4 ــ بناء قوّة مبادرة ودفع لبنانية، سياسية وشعبية، تمثّل ببرنامجها وقوتها وسلامة علاقاتها العربية والدولية ضمانة إنقاذ للبنان وتثميراً لإنجازات شعبه العظيمة في حقول المقاومة والتقدم والديموقراطية.
* كاتب وسياسي لبناني