باقر إبراهيم *في 18 كانون الثاني (يناير) الماضي، شاركتُ في توقيع «ميثاق شرف بين أنصار الكلمة الحرّة» دفاعاً عن مجلة «الآداب» البيروتية، ورئيس تحريرها سماح إدريس. ومع توقيعي ذلك الميثاق أرسلتُ إلى ادريس الرسالة التالية:
«إني أحد المتابعين من موقع المسؤوليّة السابقة، ولمدة تزيد على ربع قرن في الحزب الشيوعي العراقي، الأحداث والوقائع التي انتهت بتخريب وطنية وإنسانية ذلك الحزب المناضل، ما مهّد وشارك في احتلال وتدمير وطننا العزيز، بعد تحطيم مناعاته وحصونه. كما أنّني أحد ضحايا النضال دفاعاً عن مبدئية ذلك الحزب وعن وحدة حركته الوطنية والقومية. ومن هذا المنطلق، أعبّر لكم عن تأييدي وتضامني مع موقفكم الذي احتوته افتتاحيةُ مجلة الآداب الغرّاء (نقد الوعي النقدي ــ كردستان العراق نموذجاً). أحيّي موقفكم الجريء الذي هو في حقيقته وقفة مشرّفة على طريق النضال من أجل تحرير العراق ووحدته وتقدّمه».
يهمّني أن أتوقّف عند فكرتي التي أوردتُها في رسالتي أعلاه، من أنّ موقف السيد سماح إدريس، في افتتاحية مجلة «الآداب»، كان «وقفة مشرّفة على طريق النضال من أجل تحرير العراق ووحدته وتقدمه». فقد أثبتت ردودُ الفعل والتباينات، بين مناصري تلك «الوقفة المشرّفة»، ومعارضيها الذين حَشَدَهم المتّهمُ الأوّلُ في القضية، وكذلك شركاؤه، أنّ «نقد الوعي النقدي» لم يقتصر على كردستان العراق كنموذج، وإنما صار العراقُ، المحتلُّ، المهانُ والمذّلُّ، هو النموذج.
من هم شهود فخري كريم؟
لا أريد أن أتوقف كثيراً عند الطابور غير القصير من موقّعي عريضة التضامن، الذين حشدهم المتَّهمُ الأوّل السيّد فخري كريم، وشركاؤه، للشهادة لمصلحته. بل لي وقفةٌ فقط عند أسماء الثلاثة من القادة السابقين في الحزب الشيوعي العراقي، الرفاق عزيز محمد وكريم أحمد وعبد الرزّاق الصافي، الذين نشروا في منتصف آذار 2008 بياناً في جريدة «المدى»، جريدة فخري كريم، بعنوان «رداً على طعون مغرضة وإنصافاً للحقيقة». ومما جاء فيها:
«وكان من بين الطعون الباطلة، التي حوتها مقالةُ السيد ادريس، تجاوزُ الأستاذ فخري كريم على ماليّة الحزب الشيوعي العراقي. ونظراً لما كنّا نشغله من مراكز حزبية في قيادة الحزب الشيوعي، إذ كنا أعضاءً في المكتب السياسي للّجنة المركزية للحزب، ولِما نعرفه من وقائع عن كثب، نجد من الضروري، ردّاً للطعون أو إنصافاً للحقيقة، أن نقول إنّ الرفيق فخري كريم ليس فقط لم يتجاوز على ماليّة الحزب، بل كان له دور كبير في تعزيزها من خلال توطيده لعلاقات الحزب النضالية بالمقاومة الفلسطينة، والفقيد الراحل عرفات بالذات، وبقيادة الحزب الاشتراكي اليمني أيامَ كان الرفيق علي ناصر محمد على رأسه وبمجلة
قضايا السلم والاشتراكية».
من الضروري، في البداية، التساؤل عن أحقّية الشهادة لمصلحة المتهّم فخري كريم، باسم المكتب السياسي للحزب. فهذا المكتب كان يتكوّن، كما هو معروف آنذاك، من سبعة أعضاء هم: الثلاثة المذكورون أعلاه، إضافةًً إلى المرحوم زكي خيري وباقر إبراهيم وعمر علي الشيخ وثابت حبيب العاني؛ كما كان الرفيقان يوسف سليمان (أبو عامل) والمرحوم مهدي عبد الكريم منسَّبين لعضوية المكتب السياسي آنذاك. ولم يكن سرّاً مخفياً على قادة وكوادر الحزب من الصف الأول أنّ صراعاً مريراً كان يدور داخل القيادة، في محاولة للوقوف في وجه انحدار الحزب في الجوانب السياسية والتنظيمة، بما في ذلك ما يتعلّق بالاعتراض على كيفية التصرّف بأموال الحزب.
1ــ باقر ابراهيم؛ معارضتي للمسلك الذي دافع عنه القادةُ الثلاثةُ المذكورون كانت تمتدّ إلى الفترة التي كنتُ أتولّى فيها مسؤوليةَ قيادة الحزب داخل الوطن (تشرين الأول 1978ـ آب 1979). كما لم تكن تلك المعارضة خافية على جميع المطّلعين والمقرَّبين من رفاق الحزب، بل وبعض الأبعدين أيضاً. وكلّ ذلك موضّح وموثّق في كتابي «صفحات من النضال على طريق التصحيح والتجديد والوحدة» (الصادر عام 1997 ــ دار الكنوز الأدبية، بيروت). ولقد انتهى الموقفُ العدائيّ إزائي، بل والمحاربةُ التي اتخذت صوراً لا إنسانية، إلى النتائج التي يعرفها الجميع.
وفي تموز 1986، أي قبل 22 عاماً، نشرنا على الرأي العام الحزبي والوطني والأممي، مذكّرةً وقّعتُها أنا والمرحومان عامر عبد الله وحسين سلطان، وأيّدها عدنان عبّاس وآخرون، بصفتنا «أعضاءً وأعضاءَ احتياط في اللجنة المركزية وأعضاءً في المكتب السياسي وسكرتارية اللجنة المركزية» كشفنا فيها أوضاعَ الحزب المتردّية عموماً، وقلنا في خاتمة المذكرة: «إنّ حفنة من الرفاق القياديّين يتحمّلون مسؤولية أساسية في دفع الحزب بهذا الاتجاه الخطر والإصرار عليه، وفي مقدّمتهم الرفيق عزيز محمد، يعاونه في ذلك الرفيق فخري كريم وغيره».
ونصُّ هذه المذكّرة مدوَّن في مذكراتي الصادرة عن دار الطليعة ــ بيروت عام 2002 ص 428 ــ 436. ورغم أنّ أربعة من قادة الحزب يقفون وراءها، إلا أنها تعبّر أيضاً عن موقف وسط أوسع من كادر الحزب القيادي.
وقد سبق أن ذكرتُ أننا بقينا ممسكين ببرنامج الحزب وبنظامه الداخلي وبتقاليده النضالية والتصاقه بالشعب وكادحيه، بينما راح مَن استولوا على زمام الأمور فيه، وفي مقدّمتهم عزيز محمد وفخري كريم، يمسكون بمفاتيح المال والإعلام والسلاح والصلات بمخابرات الدول المختلفة. وإذا قادتهم تلك المفاتيحُ إلى كسب معيّن، فإنها أسهمت في إغلاق أبواب النجاة أمام الحزب الشيوعي وقضيته العادلة.
2ــ المرحوم زكي خيري، فلا يمكن أن ينوب أحدٌ عن شهادته. ولكني أذكر بأمانة أني كنتُ أصارحه دائماً بالحديث عن هذا الخراب الذي يسير نحوه حزبُنا الشيوعي بسبب فخري كريم والمتستّرين عليه. وكذلك عن تسرّب المبعوثين والمبعوثات من جانب أجهزة القمع الحكومية إلى عقر دار قيادتنا، في دمشق وبيروت وغيرهما، وبعلم جميع شهود الزور وصمتهم. وكان جواب المرحوم زكي خيري بشأن دور فخري السلبي مؤيداً.
ولم أملك إلا أن أفسّر اعتراضَه الواضح ذاك بأنّه إنما يشير إلى تواطؤ ومسؤولية كبير القوم (عزيز محمد) ومَن يشاركه. وها هما اثنان من شركائه (أحمد والصافي) يدليان بشهادتيهما المزوّرتين معه.
3ــ ثابت حبيب العاني. شغل عضويةَ المكتب السياسي في الحزب لفترة غير قليلة. ويَعرف أكثريةُ رفاق الحزب المعاملةَ القاسية التي عومل بها في كردستان، إثر الاتهامات التي وُجّهت إليه بموقف الضعف والعلاقة مع أجهزة النظام. وما أودّ إيضاحَه هو أنّ التحريض ضدّ المرحوم ثابت حبيب، لم يكن ينفصل عن النكاية به، بسبب اعتراضاته المعروفة والمعلنة على مواقف فخري كريم ومسلكياته، ومنها ما يتعلّق بالتصرّف بماليّة الحزب.
وما يجدر ذكرُه أيضاً أنّ المئات من رفاق الحزب، وخصوصاً في كردستان، كانوا يحيطون ثابت حبيب بالمحبة والاحترام، رغم علمهم بإجراءات العزل المتخذة بحقه.
4ــ الرفيقان عمر علي الشيخ ويوسف سليمان (أبو عامل)، العضوان آنذاك أيضاً في المكتب السياسي. وأنا أعرف موقفَهما المعترض، أو على الاقلّ غيرَ الموافق، على الخراب وعلى كيفية إدارة مالية الحزب. وإذا كان هذان القائدان في الحزب ملومين على عدم إعلان النضال العادل المطلوب منهما، فإنّ السؤال المهمّ الذي أطرحه هو: لماذا لم يشتركا مع الثلاثة الآخرين (عزيز محمد وأحمد والصافي) في توقيع شهادة التضامن مع فخري كريم، علماً أنهما موجودان في كردستان الآن، وعلى مقربة من الثلاثة؟
5ــ أما المرحوم رحيم عجينة فكان عضواً في اللجنة المركزية، وشغل فترة من الزمن عضويةَ المكتب السياسي في الحزب. نُشرت مذكِّراتُه، المعنونة «الاختيار المتجدّد»، عن دار الكنوز الأدبية في بيروت عام 1998، وقال عنها إنها «ذكريات شخصية وصفحات من مسيرة الحزب الشيوعي العراقي». ويهمني أن أدوّن هنا وصفََه للخراب الذي كان يسير نحوه الحزبُ الشيوعي العراقي في حينه، إذ قال ص 284 من كتابه: «كنتُ أرى أنّ الحزب يتحوّل إلى خرابة وجثة هامدة، وأنّ هناك من يريد أن يقف على قمّة هذه الخرابة. لم أخفِ هذا الرأي عن سكرتير الحزب ــ عزيز محمد، حتى إني صرّحتُ به في كونفرنس تنظيم الخارج في خريف 1989».
كما أفرد المرحوم عجينة أربعَ صفحات من كتابه للحديث عن «الغموض الذي أحاط بمجلة النهج»، وكذلك «كيف جرى التعاملُ مع هذا الاستثمار في اجتماع اللجنة المركزية». وممّا قاله ص 287: «عند تدقيق ماليّة الحزب في اجتماع اللجنة المركزية، ظهر أنّ مجلة النهج، التي أُعلن عند صدورها أنها مجلةُ الأحزاب الشيوعية في البلدان العربية، وكما ينعكس أيضاً في طبيعة مجلس تحريرها، هي استثمار وملكية خاصة تعود إلى فخري كريم، وكذلك مركزُ الأبحاث والدراسات الاشتراكية في العالم العربي، الأمرُ الذي كان مفاجأةً للعديد من أعضاء اللجنة المركزية، وأنا منهم». رحم الله عجينة. لكن يبدو أنّ عزيز محمد وكريم أحمد وعبد الرزّاق الصافي ما زالوا يصرّون على فرض «المفاجأة» ذاتها ليس على أعضاء اللجنة المركزية وأعضاء الحزب الشيوعي وحدهم، بل على العالم كله!
شيء عن فخري كريم
مع اشتداد حملات القمع التي مارسها النظامُ السابقُ ضدّ الحزب الشيوعي، كان بين خطط التحفّظ في البداية أن نُرسل ثلثَ كادر القيادة إلى الخارج، ومن بينها أن يُرسَل فخري كريم إلى بيروت ليتولّى تكوين مركز إعلاميّ للحزب فيها.
أودّ أن أشير إلى بعض الحقائق التي توضح تعاملنا المبدئي والتسامح مع الآخرين، وكيف جوبِهَت بما يخالفها. فعلى أثر تحقيق حزبيّ أجراه المرحوم حسين جواد الكمر عام 1964 وبعده، اتُّهم فخري كريم بالعلاقة بأجهزة النظام آنذاك؛ ومع ذلك فقد أُعطي المجال من جانب قيادة الحزب لتبرئة نفسه من تلك التهمة عملياً، وفي المنهج والسلوك.
وفي أواسط تموز 1978، اعتُقل فخري كريم من جانب أجهزة الأمن، هو وعضوُ اللجنة المركزية عادل حبه، إثر لقائهما كممثّلين للحزب الشيوعي وزير خارجيّة أفغانستان سلطان كشتمند الذي كان يزور العراقَ آنذاك. وقد دعوتُ إلى عقد اجتماع لأعضاء اللجنة المركزية ضمّ 24 عضواً منهم لغرض الاستماع إلى موقفهما عند الاعتقال. وأدوّن أدناه ما ورد على ص 165 من مذكّراتي:
«اتّضح من خلال المعلومات التي أعطاها الاثنان أنّ المعاملة معهما كانت مختلفة تماماً، إذ عومل فخري كريم بلطف ومحاباة وبتوفير سرير مخصَّص لمنامه أثناء فترة الاعتقال وحتى خروجه. فقد بيّن أنّ مناقشاته وأحاديثه كان لها تأثيرُ الرضى والارتياح على مستمعيه في مديرية الأمن العامة. وقال إنه وعدهم بالطلب إلى قيادة الحزب استكمالَ «الحوار» بعد خروجه من الاعتقال، وإنّه الآن يقترح ذلك!. ثمّ لخّص باقر إبراهيم الموقفَ في نهاية هذه الجلسة، وقال إنّ موقف الرفيق فخري كريم، وهو سجينٌ في مديرية الأمن العامة، واعتقادَه بأنه يفاوض طرفاً سياسياً، موقفٌ غير صحيح وينمّ عن الضعف، وكان مفترضاً فيه أن يجيب عن الأسئلة التي وُجّهت إليه بقدر ما يتعلّق ذلك بأسباب الاستدعاء والاتهام. وطلب إلى جميع أعضاء قيادة الحزب في حالة الاعتقال أن يلجأوا إلى الموقف الذي ذُكر أعلاه. فالمفاوضات السياسية تجري بين أطراف أحرار، وفي الأجواء الطبيعية، لا بين السجين والسجّان. وطلب رأيَ الآخرين بهذا التلخيص للموقف، فلم يتحفّظ أحد من الحاضرين عليه، بمن فيهم فخري كريم نفسُه».
لم يكن أحدٌ من أعضاء القيادة الذين هاجروا يحمل مبلغاً كبيراً من مال الحزب الشحيح، الذي تُرك لمناضلي الداخل. كما أنّ راتبَ عضو القيادة المتفرّغ للعمل الحزبي، سواء في الداخل أو الخارج، محدّد بما لا يتعدّى سدادَ الكفاف. لقد عرفنا الحاجة، بل والجوع أيضاً، ولم نعرف في كلّ حياتنا النضالية بذخاً أو ثراءً. والحقّ أنّ جميع التبرّعات والهبات المليونية التي دُفعت للحزب الشيوعي، والتي أعلنها فخري كريم في حديثه مع قناة «العربية» مؤخّراً، تُعلَن رسمياً للمرة الأولى! وأنا، كعضو في المكتب السياسي، وبصفتي المسؤول الأول عن التنظيم في الحزب، أذكر أنه لم تُعرض على المكتب السياسي تلك الهباتُ المليونية، ولا أسماءُ مَن سُجِّلت الأرصدة بأسمائهم، ولا المنشآت التي يمتلكها الحزب.
كانت كلُّ التبرّعات والهبات التي دُفعت للحزب الشيوعي العراقي من أحزاب صديقة ورؤساء دول أو مؤسّسات أو شخصيات، سواء بادر إلى جمعها فخري كريم أو سواه من أعضاء القيادة، هي ملكٌ الحزب ولا تجوز لفرد فيه.
* كاتب عراقي