أسعد أبو خليل *‏قُلْ هو طقس من طقوس السياسة في أميركا. مرّة كلّ أربع سنوات، يخوض مرشّحون (ومرشّحات) من الحزبيْن الجهموري والديموقراطي الانتخابات الرئاسية. ومرّة كل أربع سنوات تبدأ المزايدة في مناصرة إسرائيل وعدوانيتها، ثم يبدأ التنافس المحموم بين المرشحين في إعلان السرعة بنقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس. واحد يعد بنقل السفارة في غضون أسبوع بعد تنصيبه، وآخر يرى أنّ نقل السفارة في أقل من ثلاث ساعات هي خيانة ما بعدها خيانة. والسيناتور جون ماكين ذهب أبعد من ذلك في زيارته الأخيرة إلى الأردن عندما طالب بنقل عاصمة إسرائيل نفسها إلى القدس (واستدرك لاحقاً أن زحلة، جارة الوادي، يجب أن تصبح عاصمة لبنان).
بين سرحان سرحان وروبرت كنيدي، تشوب الموسم الانتخابي الرئاسي إعلانات معطاءة في زيادة الدعم العسكري والاقتصادي لدولة إسرائيل، حتى وهي تتمتّع بمستوى معيشة (بين اليهود) مماثل لمستوى المعيشة في بريطانيا. وهناك من ينسى أن سرحان بشارة سرحان («سرحانُ، يا سرحانْ. والصمتُ قد هدَّكْ. حتى متى وحدَكْ. يَخفِرُكَ السجّان؟»، كما قال عنه أمل دنقل) كان مؤيداً للسيناتور روبرت كنيدي قبل أن ينخرط الأخير في طقس الترشُّح الانتخابي ويعلن تأييده الأعمى لزيادة عدد الطائرات الأميركية المقاتلة التي وَعَدت الإدارة الأميركية إسرائيل بها آنذاك. طبعاً، قد يكون سرحان مصاباً بمسّ، لكن مأساته تعبّر عن صعك عربي ليبرالي صدّق وآمن بالتغيير الديموقراطي من داخل النظام في أميركا.
جُنّ سرحان لما رأى من مزايدة من قبل مرشّح آمن به. ولا يكمن سرحان دفين في داخل كل عربي في البلاد، لكنّ هناك الكثيرين من العرب الاميركيّين (والأميركيات) ممّن يُصابون بالإحباط عند متابعتهم لمشاهد طقوس الانتخابات الرئاسية. وسامي العريان، الأستاذ الأميركي الصائم عن الطعام داخل زنزانته، شارك بنشاط في حملة بوش الانتخابية في عام 2000. كانت المنظمات الإسلامية ترى فيه الأمل الموعود، لا بسبب محافظته ــ والجالية العربية والإسلامية هي محافظة اجتماعياً ــ (بالنسبة إلى قضايا المرأة ومثلية الجنس والإباحية والإجهاض...) فقط، بل لأنّها رأت فيه نموذجاً من الجناح التقليدي في الحزب الجهوري الذي كان ينزع تاريخياً نحو الانكفاء والانعزال، الترجمة الفعلية للهدفين تكمن في خفض الدعم لإسرائيل.
والموسم الانتخابي في أوجه، والصراع في داخل الحزب الديموقراطي محموم ومشحون. وكالعادة، يحاول كل من المرشّحين إبراز تأييده، لا لإسرائيل فقط، بل لصهيونية جابوتنسكي على أقل تقدير. والمعايير السياسية المعوجّة في قيادة الحزبيْن الرئيسيّيْن هنا، تساوي بين حزب العمل والحزب الشيوعي الإيطالي (عندما كان في أوجه، وعندما كانت الحكومة الأميركية ــ كما علمنا ممّا نُشر من وثائق هنا ــ تلجأ للتهديد والوعيد لمنع التمثيل الشيوعي في أية حكومة إيطالية في الحرب الباردة) ــ أي إنّ الثقافة السياسية الأميركية تبالغ دوماً في إظهار يسارية حزب العمل وفي نياته السلمية ــ تماماً كما كان يفعل ياسر عرفات ونايف حواتمة.
وهناك من يلوم شعب فلسطين (وهذا ما فعلته جيزيل خوري في مقابلتها غير المشوِّقة مع الممثل الفلسطيني محمد بكري عندما أرادت أن تقنعه بأن مقاومة شعب فلسطين هي التي قضت على ما يُسمّى اعتباطاً «معسكر السلام الإسرائيلي») على جنوح إسرائيل المطّرد نحو اليمين المتطرف، مع أنّ الصهيونية مبنيّة في يسارها ويمينها ووسطها على العنصرية المتطرّفة والعدوانية الإرهابية).
والمرشّح الجمهوري السابق، مايك هاكبي من ولاية أركنسا، كان يردّ على تساؤلات عن انعدام خبرته في السياسة الخارجية ــ وكأنّ أميركا تنتخب خبراء في السياسة الخارجية، إذ إنّ بوش الابن وبيل كلينتون كانا عديمَي الخبرة والعلم في السياسة الخارجية عند انتخابهما، لأنّ الشعب الأميركي يهتم بالشأن الداخلي (الاقتصادي) أكثر من شؤون السياسة الخارجية، إلا إذا أثّر على حياتهم مباشرة مثل حرب فيتنام، وهذا يفسّر سبب شعبية نظرية «الخيار العقلاني» في العلوم الاجتماعية ــ بتذكير الجمهور أنّه زار إسرائيل تسع مرات في حياته. تسع مرات يا لفخر الإمبراطورية الأميركية. ولا يمكن أن يترشّح شخص للرئاسة في داخل الحزبيْن من دون زيارة إسرائيل، حتى إنّ زيارة سريعة رُتّبت لجورج بوش الابن قبيل إعلان ترشيحه في 1999. والزيارة المعهودة للمرشّحين تتّبع بروتوكولاً وتصريحات متكرّرة. فالمرشّح يعود من إسرائيل بعد أن يُصطحب في جولة بطائرة عمودية بإيمان مطلق بضرورة الدفاع المطلق عن أمن إسرائيل، ويقول العائد إنّه لم يكن يدرك أن إسرائيل صغيرة إلى تلك الدرجة، وكانت التصريحات قبل سنوات قليلة تؤكّد خطورة إنشاء دولة فلسطينية. كان هذا طبعاً قبل اكتشاف أبو مازن (طالبت جيزيل خوري في المقابلة المذكورة أعلاه محمد بكري بالثناء على أبو مازن، إلا أنه رفض) ومحمد دحلان («أبو فادي» كما تناديه خوري تحبّباً) ــ وقبل اكتشاف السنيورة طبعاً.
بين المرشّحين الثلاثة
والمعركة الرئاسية تنحصر اليوم في ثلاثة أفراد. واللافت أنّ باراك أوباما يأتي من خلفية غير مألوفة (بمقياس الرأي العام الفاعل في داخل الحزبيْن) عرقياً ــ طبعاً ــ وسياسياً. فالرجل كان ناشطاً في قضايا تقدميّة، وكان ــ خلافاً لمعظم المرشّحين ــ ناشطاً في قضايا السياسة الخارجية. وكان أوباما مهتمّاً بالشأن الفلسطيني (اعذروه فهو لم يهتمَّ بوطنكم الصغير لبنان ــ مسخ الوطن هذا ــ ولم يتابع انتخابات المتن، ولم يُفاضل بين الأخوين المرّ، وإن كانت شقة الخلاف تضيق بين الاثنين بعد تحول «أبو إلياس» الأخير، وهو قليل التقلّب باستثناء تحوّله من عرّاب المرحلة الإسرائيلية إلى عرّاب المرحلة السورية في لبنان، إلى درجة أنه يستحق عن جدارة لقب الراعي الروحي لرستم غزالة الذي أكمل بجدارة أطروحة لنيل الدكتوراه بإشراف المؤرخ في الجامعة اللبنانية حسّان حلاق) وحضر احتفالات في مدينة شيكاغو لنصرة قضية فلسطين. وكان العرب في شيكاغو يُسهمون في حملات تبرُّع لدعم ترشيحه بناءً على مواقفه من قضية فلسطين. ويذكر الأصدقاء العرب في شيكاغو، مثل الناشط الصديق علي أبو نعمه مؤسّس موقع «الانتفاضة الإلكترونية»، أنّ أوباما كان عليماً بشؤون القضية الفلسطينية، والتقى على طاولة واحدة بالمفكّر إدوار سعيد، مثلما التقى بأكثر نشطاء فلسطين في شيكاغو. كان وجهه مألوفاًَ في المناسبات التي تعني فلسطين (وهي طبعاً غير تلك المناسبات التي تعني دعاة بشير الجميل من مريدي بيان «سيدة البير» ــ من الذين يردّدون مع وديع الصافي «أنا وهالبير»).
كل هذا طبعاً تغيّر، وأصبح أوباما ممارساً ضليعاً لطقوس الترشيح الرئاسي. حاول في البداية، للحقّ، أن يحافظ على خيط رفيع من اقتناعاته الأولى. وهو صرّح في حمأة المعركة الانتخابة عند انطلاقتها بأنّه «ليس هناك مَن عانى أكثر من الفلسطينيين». وكان هذا التعبير كافياً لتقويم ما رآه «حكماء» الحزب الديموقراطي من اعوجاج في المرشّح الطري. وما يجوز في السياسة المحلية في شيكاغو لا يجوز على مستوى مجلس الشيوخ، فما بالك بمستوى الترشُّح الرئاسي؟ عندها تدخّل مستشارو أوباما، وجلّهم من وسط الحزب، لا من أطراف اليسار فيه، لتصويبه.
لم يكرّر أوباما العبارة مذّاك أكثر من ذلك. حاول الرجل الذي يعيّر خصومه بعدم الصدقية التملّص من قوله. أشبع العبارة تفسيراً، وزعم أنّه قصد أن يقول إن حركة «حماس» والإرهاب الفلسطيني، لا إسرائيل، هما المسؤولان عن معاناة شعب فلسطين.
من أوباما الفلسطيني إلى أوباما الإسرائيلي
وجالَ أوباما وَصَالَ في المحافل الصهيونية، مستجدياً دعماً صهيونياً. وحرص على مخاطبة الصهاينة من خلال الصحافة الإسرائيلية. وكانت حملة هيلاري كلينتون، التي لا تتورّع عن اللجوء الى ما يُسمّى هنا «الحيل القذرة» لتقويض سمعة أوباما، متنبّهة إلى عدم إدراك خصمها لمضاعفات عوارض الوهن الصهيوني في خطاب الحملات الرئاسية. عاد أوباما والتزم الموقف التقليدي للحزبيْن في دعم إسرائيل المطلق. وأصدر تصريحات مألوفة في هذه البلاد: إذ إنّ إجماع الحزبين يفرض إدانة الشعب الفلسطين في كل حالات العنف في فلسطين. والضحيّة الفلسطينية ملومة في موتها هي، وملومة أيضاً في موت الإسرائيليين، مدنيّين كانوا أو عسكريّين.
ومسار أوباما في مسألة فلسطين شبيه بمسار هيلاري كلينتون. فالأخيرة تغيّرت بعد إعلان ترشُّحها لمجلس الشيوخ عن ولاية نيويورك. وهيلاري، على ما يروي صديق، أقامت علاقات مع عدد من العرب عبر السنوات، وكانت تُعدّ مناصرة لقضية فلسطين، وإن خلسةً. وحتى في داخل إدارة زوجها كانت معروفة بدعمها للمواقف الأقل تعاطفاً مع إسرائيل. ويُذكَر أنها سبّبت حرجاً لزوجها عندما تبنّت في حديث لها هدف إقامة دولة فلسطينية، وكان هذا قبل أن تصبح الدولة الفلسطينية (الدحلانية) المسخ هدفاً من أهداف جورج بوش، أو جزءاً من «رؤية الرئيس بوش» على ما يقول بسماجة فائقة صائب عريقات.
لكن مواقف هيلاري سرعان ما تغيّرت بقدرة الناخب في ولاية نيويورك بمجرد أن أعلنت ترشُّحها. وينسى البعض أنّ عتاة الصهاينة طالبوها بتفسير مواقف سابقة لها، وفعلت ما يفعله اليوم أوباما: إذ لجأت إلى المراوغة والخداع والرياء واللعب على الكلام. وأصبحت هيلاري منذ انتخابها الأول في مجلس الشيوخ من أصدح الأصوات في دعم الليكودية الصهيونية (والليكودية هي الموقف الرسمي للحزبيْن، وإن كان الكثير في قيادة الحزبيْن الرئيسيّين يأخذ على الليكود الإسرائيلي لينَه واعتدالَه. هم يودّون لو تعود عصابات شتيرن إلى الساحة الإسرائيلية لتحكم).
لبنان الشغل الشاغل للشعب والنخبة في أميركا!
أمّا جون ماكين، فهو مختلف. كان في فريق عتاة أنصار إسرائيل، منذ أن كان عضواً في الكونغرس. ولا يبدو أنه تأثّر بتوجهات السيناتور السابق (الجمهوري من تكساس) جون تاور، الذي عمل في أركان مستشاريه. وكان تاور من المنتقدين لنفوذ اللوبي الصهيوني. اختطّ ماكين لنفسه نهجاً مختلفاً. كان جزءاً ممّا يُسمى هنا اعتباطاً «ثورة ريغان»، وعلاقة ريغان بالثورات مثل علاقة وليد جنبلاط وسعد الحريري بالثورات. لم يحِد يوماً عن دعم إسرائيل المطلق، وإن كان ــ كما ذكرت مقالة تحليلية في «لوس أنجلس تايمز» أخيراً ــ من فريق الواقعيّين في الحزب الجمهوري، لا من فريق المحافظين الجدد، وإن احتفظ بعلاقة وطيدة مع أقطاب من المحافظين الجدد (وكان أنتوني كوردزمان، الخبير الاستراتيجي المعروف مستشاراً للأمن القومي للسيناتور ماكين لسنوات، وكوردزمان هذا من أعداء المحافظين الجدد، وإن بدر منه أثناء حرب إسرائيل على لبنان آراء متطابقة لأقوال المحافظين الجدد. وقد يكون هذا إيذاناً بطموح لتبوّء منصب رسمي في الإدارة الجمهورية الجديدة). وكان عمدة نيويورك السابق رودي جولياني، الذي فاخر بإذلاله للوليد بن طلال عندما قدّم الأخير شيكاً عملاقاً لمدينة نيويورك بعد 11 أيلول، وإن لم يكن قد لاحظ مأساة غزة لكن، لـ«روتانا» أولويّات، هو المرشّح شبه الرسمي للمحافظين الجدد. وانضمّ عتاة الصهاينة من أمثال جون بولتون، وكلّهم من دون استثناء من عتاة دعاة ثورة الأرز ــ إنها الصدفة ــ إلى فريق مستشاري جولياني. إلا أنّ حملة الأخير لم «تقلّع»، واندثرت. ويؤكّد بوب انمان، نائب مدير «سي.آي.إيه» السابق في مقابلة صحافية منشورة، أن ماكين سيبتعد عن مسار المحافظين الجدد وسيأخذ البلاد نحو الواقعيّة في السياسة الخارجية.
لكن هناك أصوات متناقضة للمرشّح ماكين. وينسى البعض أنه عارض نشر القوات في لبنان في عهد ريغان عندما حاولت الإدارة الأميركية دعم أمين الجميل ــ المنتخَب إسرائيلياً آنذاك ــ كما تدعم الإدارة الأميركية اليوم السنيورة ــ المنتخَب سعودياً، حتى لا نضيف. فالسيناتور ماكين يحاول أن يحوز تأييد قاعدة جورج بوش المحافظة، وتلك القاعدة لم تختفِ تماماً، وإن تقلّصت، وهي ضرورية لمرشَّح يرى المحافظون ــ لأسباب تتعلّق بسلوكه الاشتراعي، بالإضافة إلى استقلالية في شخصيّته ــ أن محافظته مشكوك فيها.
ويتناول الكثير من محلّلي لبنان موضوعهم في الانتخابات الأميركية بكثير من فكر التمنّي. طبعاً، لو صدّقنا خبير المحليات في جريدة «النهار»، نبيل بو منصف، بعد رحلة مظفرة إلى أميركا قبل سنتين، لقلنا إن لبنان هو الشغل الشاغل للشعب والنخبة في أميركا. (ويضيف بو منصف دائماً كلاماً عن العبقرية اللبنانية حول العالم. والعبقرية الوحيدة التي بالفعل أدهشت العالم ــ ألم يعد أمين الجميل رئيساً بإدهاش لبنان للعالم قبل أشهر من حرب الجبل ــ تكمن في وحشية المتحاربين اللبنانيين في أتون الحرب الأهلية). وفارس خشان يؤكد أنّ السياسة الأميركية في لبنان ثابتة مهما كان الرئيس: ويضيف: «بالروح، بالدم، نفديك يا شيخ سعد». أما نهاد المشنوق، المُنتشي بدعوته من الذراع الفكري للوبي الصهيوني، مؤسّسة واشنطن لدراسة الشرق الأدنى (الذي «تشرّف» وليد جنبلاط بالتحدث أمامه كما قال لهم) في السنة الماضية، فيؤكّد في معادلة تتناقض مع بديهيات السياسة الأميركية، أنّ بوش سيلجأ للخيار العسكري ضدّ أعداء سعد الحريري ومصطفى علوش، ولو كان ذلك في آخر أيامه، وكأن الرئيس الأميركي يتمتع بحرية حركة في أشهره الأخيرة، وخصوصاً أن البلاد مشغولة بالهمّ الاقتصادي أكثر من أيّ هم آخر. والضربة العسكرية، إن أتت، ستكبّل المرشّح الجمهوري وستكلف حزب بوش غالياً في الانتخابات.
وموضوع لبنان لا يرد، ولا حتى عرضاً في خطاب الانتخابات. والصحافة اللبنانية أساءت تغطية زيارة سمير جعجع ووصول المدمرة كول إلى لبنان. فقارئ الصحف في أميركا لا يعلم أن جعجع وصل حقاً، حقاً وصل. فلم ترد كلمة عنه في الصحافة، والزيارة تدخل في باب استفزاز عون في لبنان، أكثر من أي شيء آخر. (وجعجع لم يتوقف أثناء الزيارة عن «تبشير» اللبنانيين بأن الإدارة الأميركية ستصدر ــ بعد لحظات ــ بياناً ضد التوطين في لبنان، ولم يصدر البيان بعد، لكن جعجع، الذي يحب الحياة حباً جمّاً مثله مثل كريم مروّة، ينتظر). وصحيفة «النهار» مسؤولة بصورة أساسية عن بثّ سوء فهم عن لبنان في لبنان، وفي المهاجر. فهي، بناءً على نظرية التفوق الجيني لشعب لبنان التي تؤثر على كلّ تغطيتها، وخصوصاً في أخبار اكتشاف أدوية متنوعة ــ تعتمد في أكثرها على الطحينة وعلى دبس الخروب ــ للسرطان من قبل عباقرة لبنانيّين، تريد أن تقنع اللبنانيّين بأنّ الهمّ اللبناني طاغٍ في أميركا. كما أنّ وصول المدمرة كول خدع شعب لبنان «العظيم». فالوصول تعبير عن غياب الخيار العسكري، لا عن حتميّته. لكنّ فريق السلطة الحاكمة يريد تهديد دمشق وحرس عائلة الحريري، بالإضافة إلى ميليشيا قوى الأمن وجهاز فرع المعلومات لا يكفيان لترويع المعسكر السوري ــ الإيراني، مع أنّ نهاد المشنوق يستشهد طَرِباً بكلام بوش على وجود «كل الخيارات على الطاولة»، وهي غير طاولة الزهر.
والحكم السعودي يدفع بلبنان نحو التفجير، من دون لباقة تُذكَر، والظرفاء من أبواق السعودية في لبنان يؤكدون أنّ السعودية لم تتدخّل يوماً في الشؤون الداخلية للدول العربية، مع أنّ السعودية لم تترك حركة معارضة رجعيّة في داخل كل دولة عربية لم تدعمها بالمال أو بالسلاح أو بالاثنين معاً (واليساري السابق، المُلهَم من يوحنا فم التنك، يبدي إعجاباً بتجارب المجالس المُعيّنة في ممالك القهر النفطية). وهل نسينا مؤامرات آل سعود على عبد الناصر وعلى أنظمة جرؤت على قلب الملكيّة؟ ويتذكر ــ أو يجب أن يتذكر ــ أهل بيروت أنّ قذائف ميليشيات الكتائب والأحرار في أول الحرب الأهلية كانت تقدمة من النظام السعودي.
ماذا بعد الانتخابات؟
طبعاً، لا يجب أن نتوقّع تقدّماً في موضوع فلسطين (وفلسطين هي القضية، أما لبنان فهو كيان ــ تفصيل صهيوني منذ إنشاء الدولة ومشروع للتفتيت والشرذمة الطائفية في قلب العالم العربي) مهما كانت نتائج الانتخابات الأميركية. وهناك معادلة واضحة في الرئاسة الأميركية: يبدو أنّ كلّ رئيس أميركي جديد حريص على تخطّي وبَزّ التطرّف الصهيوني لسلفه. فكلينتون كان أكثر صهيونية من بوش، وبوش الابن أكثر من كلينتون، وهلمّ جراً. والإعلام السعودي بدأ بالانحياز لمصلحة جون ماكين. لعلّ عرق وجنس المرشّحيْن الديموقراطيّين أزعج عائلة عريقة في استعباد السود وفي قمع المرأة. ويمكن القول إنّ نفوذ المحافظين الجدد سينتهي بانتهاء ولاية بوش، لكن توجّهاتهم الصهيونية مماثلة لتوجّهات قادة الحزبيْن. لكن احتمال الانكفاء الأميركي في السياسي الخارجيّة، لا بل الانعزال، وارد خصوصاً في ظلّ أزمة اقتصادية متفاقمة. والمؤرّخ الأميركي أرثر شلسنجر كان يرصد حركة رقّاص الساعة في تأريخ السياسة الخارجية الأميركية، إذ إنّها تتراوح بين الانعزال والتدخّل العسكري المباشر. لكن أوباما وهيلاري يعانيان مشكلة ترى في الحزب الديموقراطي تمنّعاً مثاليّاً عن شنّ الحروب. لهذا فإنّ الاثنين سيضطران في سنتهم الأولى على الأرجح (في حال وصولهما إلى سدة الرئاسة) إلى شنّ حرب ما لضمان التجديد. وعقدة الضعف الديموقراطي تفسّر سبب العنف اللفظي (والوعد بقتل أعداء أميركا خنقاً أو شنقاً أو ضرباً) في خطب مرشّحي الحزب الديموقراطي، وهذا العنف يتوجّه غالباً إلى العرب والمسلمين. وباراك أوباما وجد أنّ الضرورة الانتخابية تقتضي خطاباً موجّهاً إلى يمين البيض في الحزب الديموقراطي، فزاد حدّة كلامه تجاه شعب فلسطين، ونأى بنفسه عن كلام قسّه على «إرهاب دولة إسرائيل».
لكن يفرّط الإعلام العربي في تغطية السياسة في أميركا، وما هذا إلّا دليل ضعف وقدريّة مطلقة. الإعلام العربي يعبّر عن أنظمة تقتنع بأن «99 في المئة من الأوراق» هي في يد أميركا. لكن أسلوب مواجهة الصهيونية ينزع الأوراق من يد أميركا، وخصوصاً أنّ المناخ الشعبي العربي ــ وفق استطلاعات رأي منشورة ــ لا يتوافق مع توجهات الحكومات (المُمانعة والمُنصاعة على حدّ سواء) مع أنّ فئة من الشعب اللبناني تتوافق دوماً وأبداً مع إسرائيل: فقد أظهر استطلاع أجرته الجامعة الأردنية في لبنان في عام 2005 أن 16 في المئة من شعب لبنان يرون أن عمليات حزب الله ضدّ إسرائيل هي عمليات «إرهابية»، كما أن 25 في المئة من شعب لبنان يرون أية عمليات ضدّ قوات الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين أعمالاً إرهابية، و28 في المئة من شعب لبنان «العظيم» ــ إياك أن تنسى ـــ يرون أنّ العمليّات ضدّ قوات الاحتلال في العراق أعمال إرهابية. ويمكن الافتراض أن حركة 14آذار، من فرط حبّها للحياة، زادت من أنصار العطف على الاحتلال الإسرائيلي في أوساط الشعب اللبناني. لكن القلب يتفتّت عند قراءة خطاب الملك السعودي الأخير: فهو أقرّ بأنّه يمارس النقد الذاتي إلى درجة «القسوة المرهقة». كفى إرهاقاً يا خادم الحرميْن. وديتلف ميليس أطلّ بكلّ جرأة على الشعب اللبناني وطالب بوضع كاميرا مراقبة في كل زاوية في لبنان، ووعد بأن يراقب اللبنانيين بعطف وحنوّ وهم يرقدون في مخادعهم. والأهم أنّه قال إنّ الشعب اللبناني سيتوصل إلى معرفة قتلة الحريري في «يوم ماً». و«في يوم ما سأنتقل إلى رحمته تعالى» كما يغني الصديق منير خولي.

* أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة كاليفورنيا
(موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com)