سعد الله مزرعاني*في ملفّ الأزمة اللبنانية، العديد من عناوين التأزم: «في البدء» كانت أزمة العلاقات بين اللبنانيين، أي أزمة العلاقات اللبنانية ـــ اللبنانية. وهي أزمة تأسيسية كما نعتقد، أي إنها الأزمة الأم «والخطيئة الأصلية» في البنية السياسية اللبنانية، معبّراً عنها في النظام السياسي الطائفي اللبناني.
لقد نبّه أحد كبار الصحافيين اللبنانيين (جورج نقّاش) مبكراً بأن «نفيين لا يبنيان وطناًً». وهذا ما تأكّد بالفعل، بسبب عدم تطوير «صيغة» عام 1943، وبسبب تحوّلها بنية طائفية صافية، ما لبثت أن تشكّلت أطرافها في دويلات تنمو على حساب الدولة وعلى حساب وحدتها وحصانتها وسيادتها.
ـــ ثم كانت أزمة العلاقات اللبنانية ـــ الإسرائيلية: وهي الأخرى أزمة مبكرة، حيث إنّه، منذ أول استقلالنا السياسي، دفعت العصابات الصهيونية بعشرات الآلاف من أبناء الشعب الفلسطيني مشرّدين إلى لبنان، في عداد مئات الآلاف الذين ألقت بهم تلك العصابات خارج وطنهم.
ليس هذا فقط، بل إن عدوان الصهاينة أيضاً قد طاول اللبنانيين مباشرة، وارتكبت عصاباتهم واحدة من أُوَل مجازرها في إحدى قرى جنوب لبنان عام 1948 (مجزرة بلدة حولا في قضاء مرجعيون، حيث دمّرت القرية وذبحت حوالى 80 فرداً من أبنائها). وتواصلت الاعتداءات الصهيونية على لبنان الذي استُهدف لأسباب عديدة، ليتوّج ذلك في عدوان عام 1982 الذي بلغ عاصمته نفسها ثم، ليتواصل بعد ذلك، رغم الهزائم، إلى ذروة جديدة، عام 2006. وتستمر، حتى اللحظة، استعدادات إسرائيلية لعدوان جديد على لبنان وشعبه.
ـــ وملفّنا مثقل أيضاً بأزمة ثالثة، هي أزمة العلاقات اللبنانية ـــ السورية. وهي أزمة علاقة لم تأخذ قطّ الشكل الطبيعي والصحيح بين البلدين الجارين والشقيقين. فمنذ استقلالهما حتى اليوم، والعلاقات بينهما تشهد أشكالاً من الصعود والهبوط، لتبلغ راهناً أكثر فصولها تعقيداً في امتداد توتر العلاقات نفسها، وبسبب تداخل الأزمة اللبنانية مع أزمات المنطقة الأكثر حدة وتوتراً، وخصوصاً منذ الغزو الأميركي للعراق في ربيع عام 2003.
ـــ والأزمة الرابعة، الملتهبة هي الأخرى، هي أزمة العلاقات اللبنانية ـــ الأميركية. وأزمتنا مع الولايات المتحدة الأميركية ترقى إلى عام 1958، حين زارتنا «قوّات المارينز» محمولة على الأسطول السادس، لتدعم سياسة ومواقع رئيس الجمهورية آنذاك كميل شمعون، ضدّ انتفاضة سياسية وشعبية ما لبث أن أجبرته على المغادرة رغم الإنزال والتدخل الأميركيين.
ومجدّداً عاد الأميركيون بجيشهم إلى لبنان، عام 1982، في نطاق القوة الأطلسية التي ضمّت أيضاً فرنسيين وبريطانيين وإيطاليين، وذلك لتكريس النتائج السياسية للغزو الإسرائيلي للبنان في ذلك العام. ولم يبقَ الأميركيون والأطلسيون طويلاً بسبب اضطرارهم إلى المغادرة تحت وطأة مقاومة أجبرتهم على انسحاب كان أشبه بالفرار المذعور من العاصمة بيروت.
لم يغب الأميركيّون سياسياً منذ ذلك التاريخ عن مواكبة الوضع اللبناني. غير أنّ اهتمامهم بهذا البلد قد تجدد على نحو مثير ارتباطاً بعاملين: الأول، بروز وتزايد نشاط مقاومة القوات الأميركية الغازية للعراق، وتحميل السلطات السورية من جانب إدارة جورج بوش مسؤولية أساسية في دعم وتشجيع هذه المقاومة. والثاني، هو استهداف سلاح «حزب الله»، وهو هدف تتشارك واشنطن في السعي من أجل تحقيقه مع الحكومة الإسرائيلية، ومن
أجلها!
إذاً، فمن خلال الاحتلال الأميركي للعراق، ومن خلال النفوذ السوري في لبنان، وبسبب صراع متواصل بين الاثنين، اكتسب لبنان أهمية استراتيجية، وتحوّل إلى «الساحة» الثانية الأكثر التهاباً بعد العراق المحتل والمنكوب.
لم يؤدِّ القرار 1559 الصادر عن مجلس الأمن في أيلول 2004 (بدور أميركي وفرنسي حاسم)، والمطالب بسحب القوات السورية (خصوصاً) من لبنان، ولا الانسحاب العسكري والأمني السوري في 26 نيسان، إلى حسم المعركة لمصلحة واشنطن. ومع تعثّر المهمّة الأميركية في العراق، وتنامي أشكال من المقاومة السياسية والعسكرية للمشروع الأميركي، تحوّل لبنان ساحة أساسية من ساحات الصراع عليه وفيه، وعلى المنطقة وفيها جميعاً. لقد ذهب فريق الأكثرية النيابية الحاكم إلى هذه المعادلة برضى وحماسة شديدين. وبدلاً من تقاطع مصالح مؤقَّت مع الإدارة الأميركية، اختار فريق 14 آذار وحكومة الرئيس فؤاد السنيورة، الالتحاق الكامل بالسياسات الأميركية. بل وبلغ الاندفاع حد أن هذا الفريق تحوّل إلى رأس حربة أميركية في الصراع الأميركي ـــ السوري، لإسقاط نظام دمشق أو لتغيير سلوكه إذا تعذّر الأمر الأول.
صادف الأميركيون في لبنان نجاحاً فاق كل تقديراتهم. وتحوّل هذا النجاح إلى «قصة لا يمكن التفريط بها»، رغم خيبة العدوان الإسرائيلي ـــ الأميركي على لبنان في صيف عام 2006. وفّر ذلك أيضاً تعويضاً للأميركيّين عن خيبتهم وعثراتهم في العراق، تزداد أهميته كلّما اقترب موعد حسم الانتخابات الأميركية في الخريف المقبل.
يذهب البعض إلى الاعتقاد بأن «لبنان بلد ديموقراطي ويمكن أن يتحول إلى نموذج لدول المنطقة... وحيث إن إدارة بوش لم تتمكن من تسجيل انتصار حاسم ضد الإرهاب، وحيث إنها لم تتمكن من تحويل الدول المعتدلة إلى نماذج ديموقراطية لدول المنطقة كما وعدت، فقد برزت أهمية لبنان كما لم تبرز من قبل» («نظرة ثانية إلى العلاقات اللبنانية ـــ الأميركية» في مقال للكاتبين اللبنانيين السفير عبد الله بو حبيب ورغيد الصلح: جريدة «النهار» اللبنانية 6 نيسان الجاري).
ليس هذا هو الأساس، كما نعتقد. والهدف بالنسبة إلى واشنطن هو، بالدرجة الأولى، استخدام لبنان في صراعها المرير الراهن، من أجل إنفاذ أو إنقاذ مشروعها الشرق أوسطي، ودعماً لشراكتها الأبدية مع إسرائيل.
في امتداد السياسات التي ذكرناها، واصلت الأكثرية البرلمانية اللبنانية تعميق ارتباطها بالسياسة الأميركية وصولاً إلى الرهان الكامل عليها. وفّر كل ذلك، في جانب أساسي منه، فرصة ثمينة للسلطات السورية من أجل استئناف تدخّلها في الشؤون اللبنانية بأشكال متوتّرة ومتنوعة: فهي من جهة مستهدفة، ولبنان يخضع، من جهة ثانية، لتدخل خارجي أميركي سافر: والأقربون أولى بالمعروف!
كرّست قوى 14 آذار، أي قوى الموالاة وحكومة السنيورة، هذا الواقع في سلسلة مطّردة ومتماسكة من السياسات والعلاقات. وقد تجلّى ذلك في الاستقبال الفريد والمنفرد والمنقطع النظير، للسفيرة الأميركية في مؤتمر هذه القوى الأخير الذي عقد في 14 آذار الماضي في بيروت.
هذا «النجاح» الأميركي في لبنان يستدعي بالضرورة عدم تغيير موازين القوى في البلد حتى إشعار آخر. ولذلك، فإن الإدارة الأميركية ليست مستعدّة أبداً لتسهيل المجيء مجدداً بـ«حزب الله الإرهابي»، إلى الحكومة. وهي لذلك ستبقى تعمل من أجل تعطيل التسويات بين اللبنانيين، سواء كان مصدرها داخلياً، أو كانت الجامعة العربية هي المصدر، أو كانوا الفرنسيون حلفاء إدارة بوش.
فالتسوية تشترط المشاركة، والمشاركة مرفوضة من جانب واشنطن. هذا ما أكّده آخر المسؤولين الأميركيين لا أخيرهم، السيد توم كايسي نائب الناطق باسم وزارة الخارجية الأميركية، الذي طمأننا «إلى أن حكومة السنيورة قادرة على إدارة شؤون الدولة اللبنانية».
وكان بوش نفسه قد نصح بانتخاب رئيس لبنان خلافاً للدستور ولمفهوم التوافق الذي يحتاج إليه اللبنانيون اليوم أكثر من حاجتهم إلى النصائح والتدخل الأميركيين.
العلاقات اللبنانية ـــ الأميركية تحتاج إلى تصحيح هي الأخرى، بعد إصلاح العلاقات اللبنانية ـــ اللبنانية، وتطبيع العلاقات اللبنانية ـــ السورية، ولكي لا تتفاقم التباينات مع بعض الدول أيضاً إلى أزمة علاقات جديدة، كالعلاقات اللبنانية ـــ السعودية والعلاقات اللبنانية ـــ الإيرانية، من دون أن ننسى أزمات أخرى أقلّ شأناً.
أهمية هذا الأمر استثنائية، ويكاد يكون فكّ الارتباط الالتحاقي بالسياسات الأميركية هو المقدمة الطبيعية لبناء عوامل الثقة المفقودة في العلاقات اللبنانية ـــ اللبنانية، وفي العلاقات اللبنانية ـــ السورية.
هذه مهمّة إنقاذية، وليست مسألة عادية في مسار أزمة تدخُل لبنان وتُدخِله مرحلة الخطر الشديد والمصيري. وهي لذلك ليست مهمّة فريق واحد من اللبنانيين، رغم كل المظاهر التي يقول بعضها عكس ذلك! فنماذج العلاقات، قديمها والجديد، تحتاج إلى تعديل وتغيير، كما يحتاج بعضها إلى إلغاء. لذلك، فالمهمة عامّة وشاملة والجميع مطالب بالتراجع عن نصيبه من الخلل والخطأ.
* كاتب وسياسي لبناني