سلام الكواكبي *لا شكّ في أنّ السلطات السياسية الصينية تمارس اضطهادات متنوعة الأشكال لحقوق الإنسان الصيني عموماً، والتيبيتيّ خصوصاً، وهي بالتالي تضفي على عملية النهوض الاقتصادي والاجتماعي الذي تشهده أصقاعها جموداً سياسياً لا ينفكّ يعطي دروساً سلبية لأنظمة تميل إلى تطوير اقتصادياتها على حساب سياساتها الداخلية وعلاقاتها بمجتمعاتها المدنية المهمَّشة في أحسن الأحوال، أو المقموعة في أحوال عدة.
وفي ظلّ تلك الممارسات التي لم يكن آخرها الحكم بالسجن لمدة ثلاث سنوات على إحدى الشخصيات المعارضة، لا يبدو أن الانتقادات الدولية ذات الأبعاد المختلفة والأنماط المتعدّدة، تمثّل عاملاً مساعداً على تشجيع الحكومة الصينية باتجاه انفتاح سياسي ما أو التخفيف من المعالجات الأمنية لأمور اجتماعية وسياسية لا تمثّل خطراً جليّاً على «وحدة الأراضي وسيادتها».
وفي هذا الإطار، يبدو جلياً أن هناك عاملاً مشتركاً تتميز به حكومات من هذه الطبيعة، وهو التمسّك أكثر فأكثر بسياساتها إن لم تؤدِّ الضغوط إلى تصلّبها وزيادة حدّة تعاملها مع الأصوات أو الأفكار أو الكتابات الناقدة. ويصبح بالتالي من السهل على عقلية سياسية أو أمنية من هذا النوع أن تُضفي على المشهد المعارض ما ترتئيه من ألوان الخيانات والتعاملات والمؤامرات.
وهذه «الروحية» التي تحكم أذهان بعض الساسة في دول تغيب عنها الثقافة الديموقراطية لا يمكن أن تكون مبعثاً على الاستغراب أو حتى على الاندهاش، كذلك الذي تثيره عقلية مقابلة تحمل في طياتها قيماً تعدّدية وديموقراطية، لكنها لا ترى تطوّر الأمور إلّا من زاوية معيّنة، وتغيب عنها عن «سابق إصرار وتصميم»، تمايزات ومميزات المجتمعات الأخرى التي تجري فيها الأحداث. وبالتالي، فهي تحمل ملفّ حقوق الإنسان ذا الأبعاد الإنسانية والمبدئية، تجول به على وسائل الإعلام داعيةً إلى احترامه ونشره، ومدّعية تمثيل قيمه والتماثل معها في الفكر وفي الممارسة. هذه الأصوات هي بالطبع أصوات غربية، يتلقّفها المستضعفون سياسياً وثقافياً في الأرض، ويحملونها فرحين على أنها الفرج، ولكنْ قليل منهم ينظر إليها نظرة نقدية ـــ لا تشكيكية ـــ تحاول أن تضفي عليها بعداً جديداً يدخل فيه التحليل المقارَن للأفكار والممارسات السياسية.
وهنا نجد أنفسنا أمام تمرين قاسٍ وصعب. فليس معقولاً بالطبع أن نتلقّف خطاباً ممجوجاً ما فتئنا نسمعه من إعلام مقيَّد وخشبي، ونكرّر معه أنّ خطاب حقوق الإنسان المستورد غالباً، يغفل ما يجري في غزة وفي غوانتانامو مثلاً، وبالتالي، فلا مجال له لأن ينشط أو يُنشّط نفوساً وهمماً راكدة حيث تعاني هذه الحقوق القهر والتغييب. هنا، يبدو التمرين بسيطاً للبعض، فبجملة واحدة، يُرمى بكل هذا «الملف» في بحر الظلمات والتخوينات والإدانات. وبالمقابل، كيف لنا أن نتلقّفه، من دون أن نبتعد رغم كل حسناته عن الإشارة إلى بعضٍ من نواقصه؟
يجب ألّا يغيب عنّا أن الهجمة «الحقوقية» التي تشغل الإعلام العالمي بخصوص الانتهاكات الحاصلة في التيبيت ذات أبعاد متعدّدة ومتشابكة. فلا تشكيك البتة بحسن نيّات المنظمات غير الحكومية التي ما فتئت تندّد بالانتهاكات أينما وقعت، تقريباً. وإنما الحديث النقدي يجب أن يطال الخطاب السياسي الذي يركب موجة الانسانوية ليحمل مفاهيم مختلفة ذات بعد انتقائي بامتياز. ويجب عدم الاختباء وراء الكلمات. فعندما قررت اللجنة الأولمبية الدولية إقامة الألعاب في بكين، أخذت بعين الاعتبار، وبشكل لا يبعث على الشك، البعد الاقتصادي الهائل لعمليتها هذه، وكذلك فعلت من بعدها الشركات المتعددة الجنسيات التي ستمثّل لها الألعاب سوقاً هائلة ومعطاءة. وعندما يفرح نيكولا ساركوزي بتوقيع عقود تخص الصناعة الجوية الفرنسية مع الصين، فإنه لن يركب موجة الإنسانوية إلا لذرّ الرماد في عيون الإعلام المتعطش لقضية جديدة يحمّلها ما تحتمل وما لا تحتمل. فيما تغيب عنه، ولأسباب عديدة، قضايا ليست بأقل أهمية من التيبيت. وكذلك يفعل جورج بوش الذي لا تعنيه، أو لا تعني مستشاريه، إلا قضية رفع قيمة العملة الصينيّة الـ«يوان» أمام الدولار أو خفضها وعلاقة ذلك بالتجارة البينية مع الصين.
جميلة هي حقوق الإنسان التي تزيّن الأحاديث الإعلامية، والتي تستقطب المعجبين الغربيّين بسلمية دعاوى الدالاي لاما، التي يجتمع عليها الرياضيون الذين تعطى لهم منذ مدّة أدوار ليست من طبيعة «مهنتهم»: أن يكونوا عناصر اندماج في مجتمعاتهم أو محلّلين سياسيّين أو مصلحين اجتماعيين. فها هم الفرنسيون منهم، يقرّون رفع شعار من صلب فلسفة الحركة الأولمبية: «من أجل حياة أفضل»، وهم بذلك، يسوّقون مساهمتهم في التعبير عن رفضهم للقمع السياسي الحاصل في التيبيت من دون تهييج مباشر لردود فعل صينية.
إن هذه المبادرة مثّلت مخرجاً للحكومة الفرنسية أمام بعض الدعوات المتطرّفة لمقاطعة الألعاب أو مقاطعة حفل الافتتاح الذي ترك ساركوزي الباب مفتوحاً أمام احتمال حصوله، وهو على الأغلب لن يحصل، وخصوصاً في ظل أزمة اقتصادية فرنسية ليست في وارد التصدّي لردود فعل غير محسوبة من جانب العملاق الصيني.
إن انتهاك دول عدة لحقوق الإنسان هو همّ يجب أن يحمله الجميع، لكن يجب أن لا يؤخَذ به بانتقائية بل أن يشمل كل الانتهاكات على مستوى ممارسات الدول والمجتمعات والفئات والعصبيات والثقافات... وحتى الرياضات. فنحن نعيش عصراً رياضياً يعتمد بشدّة، وبصفاقة، على العنصر التجاري الربحي المتأتي من المنافسات، ونتابع خلال هذا «السباق» انتهاكات تمسّ بشكل مباشر الرياضي الإنسان. فالأبعاد الاقتصادوية للمنافسات الرياضيّة والاستثمارات الهائلة التي تسعى إلى الحصول بأسرع وقت على مردودها المالي، تؤدّي دوراً كبيراً في مسيرة الحركة الرياضية العالمية، ممّا يدفع إلى أن يسعى اللاعبون والقيّمون عليهم إلى رفع مستوى كفاءتهم بطرق شتّى تتجاوز بمراحل، المفاهيم الرياضية الإنسانية التي كوّنت للحركة الأولمبية قاعدتها التاريخية، وبالتالي، فهم يعرضون أنفسهم لأخطار جسيمة تنتقص من حق أساسي وهو الحق في الحياة!
* باحث سوري