أسعد أبو خليل *‏لم يحن أوان رثاء الحقبة السعوديّة بعد. مارك تواين قال مرّة تعليقاً على إشاعة وفاته إنّ نعيه كان سابقاً لأوانه (وتذكر الأدبيات الصهيونية مارك تواين بكثير من التعاطف، فقط لأنه في زيارته لفلسطين ــ قبل أن تُحتلّ ــ قال إنّه لم يرَ بشراً. لكنّه، في الحقيقة، قال إنه لم يرَ بشراً: رأى عرباً فقط، هو أضاف).
ليتوقّف من ظنّ أنّ قمّة دمشق الباهتة كانت كافية لتعليم حقبة جديدة في العلاقات العربية. على العكس. تتمتّع الحقبة السعودية الثانية ـــ هل نُنكَب بثالثة؟ ـــ التي تبلورت بعد 11 أيلول 2001 وتجلّت بعد اجتياح العراق، بمكتسبات وعناصر قوّة لم تعرفها في المرحلة السابقة. فالصعود السعودي ازداد شراسة وعناداً بعد اجتياح العراق، إذ إنّ الحكم السعودي وجد نفسه من دون منافسين
حقيقيّين.
الحقبة السعودية الأولى التي تلت وفاة جمال عبد الناصر (إن لم نقل بعد هزيمة 1967 المروّعة ـــ الجريمة التي لا تُغتفر للنظام السوري والمصري والأردني) وتطوّرت إثر الطفرة النفطية السبعينية، لم تكن الساحة خالية فيها كلياً للدور السعودي. كان هناك النظامان السوري والعراقي، بالإضافة إلى حركة المقاومة الفلسطينية (في ما قبل عصر محمد دحلان) بالإضافة إلى النظام الليبي. لم تنعم العائلة السعودية الحاكمة بما تنعم به اليوم من خلوّ الميدان لها ولمخطّطات واشنطن التي تسهّل هي اليوم مهمّة إمرارها في العالم العربي.
كما أنّ سنوات التبذير التي شهدتها المملكة في عهد الملك فهد، قلّلت القدرة أو الحاجة إلى الهبات والرشى السعودية التي لا تطال في ما تطال الأقلام والمطبوعات فقط، بل دولاً وزعماء بحالهم. والوفرة النفطية الحالية تُعين الحكم السعودي في دعمه لمشاريع أميركا وإسرائيل في المنطقة، وفي شراء من يجب شراؤه، ولا منافس.
خلوّ الساحة للحلف الأميركي ـــ السعودي ـــ الإسرائيلي
مات عبد الناصر وأُعدم صدام ـــ الذي يُظهر الإعلام السعودي عطفاً مفاجئاً نحوه، وذلك لضرورات حملة التأجيج المذهبي التي تقودها المملكة لتسهيل حروب أميركا، والمقاومة الفلسطينية انتهت في أيدٍ دحلانية، والعظيم جورج حبش يوصف بالإرهابي في الصحافة العربية (الوهابية). كلّ هذه التطورات أنعشت آل سعود، وأنعشت الحلف الأميركي ـــ السعودي ـــ الإسرائيلي. لكن أميركا تقف حائرة، لأنّ خطة التأجيج المذهبي تنطبق على العالم العربي، لكنها تعقّد الوضع في العراق، لأن الولايات المتحدة والسعودية تدعمان فرقاء مختلفين (مذهبيّاً) هناك. السعودية لا تعمل اليوم على تدعيم معسكرها في المنطقة، بل على إتمام السيطرة التامة في المنطقة، بالتعاون مع إسرائيل وأميركا. لا مكان لخلاف أو لاعتراض.
والحقبة السعودية الثانية يشوبها تنافس (حادّ أحياناً) بين الدول العربية، مثل الخلاف الأردني ـــ القطري أو السعودي ـــ القطري أو حتى الخلاف السعودي ـــ الكويتي الصامت والخافت. والنظام السوري يقف حجر عثرة، لكنه ليّن، إذ إنّ سوريا، وإن لم تنخرط بعد في إطار المعسكر الأميركي، لا تجرؤ أو لا تريد أن تجرؤ على التصدي للمشروع السعودي. هي لا تعترف بالخلاف السعودي ـــ السوري بالرغم من الحملة الشعواء على كل ما هو سوري في الإعلام السعودي، وليبراليو العالم العربي يتعاملون مع الحكم الشخبوطي كمثال جون ستيوارت ميل المُحتذى. وهذا الإعلام يقود حملة يومية على سوريا ونظامها، وحتى على ثقافتها وفنّها (وأكرم شهيب عرض أن يغني هو بدلاً من فيروز في دمشق، على أن يُسمح له بارتداء شال «ثورة» الأرز والترمس). أمّا الإعلام السوري الذي ـــ مثله مثل الإعلام السعودي ـــ ينتقد بأمر ويهادن بأمر ويمدح بأمر، فيتمنّع حتى الساعة عن نقد الحكم السعودي. وهناك في النظام السوري من يستغبي الجمهور العربي عبر نفي وجود خلافات بين سوريا والسعودية. والتركيز على سوريا في الإعلام السعودي يعبِّر عن تبرّم وضيق سعودي من عدم تورع النظام عن رفض الانضمام إلى حلقة الأنس الأميركية التي أقامت بتوازٍ مع الاجتياح الأميركي للعراق حلفاً يعمل ليل نهار من أجل إكمال التطبيع الذي بدأه رائدهم ومُلهمهم أنور السادات. هو المشروع الذي يسعى إلى وأد الثورة الفلسطينية. والنظام السوري فقد ميزات قوته: فقد كان حافظ الأسد مخيفاً ومروّعاً، لشعبه ولجيرانه، ولا شك أن أحداث حماة ساعدت على إنشاء سيرة ذاتية خصبة للرئيس السوري. لا يستطيع بشار الأسد أن يستعين بسيرة والده في هذا المجال لإخافة الخصوم. والخصوم يعتمدون على الجيوش الأميركية لإخافة من يحتاج الى إخافة وإلى ترويع. التخبّط الأميركي في العراق لم يخفّف من عزائمه، مع أنّ صحافيّين غربيين التقوا بوليد جنبلاط أخيراً يروون أنّه يعبّر في مجالسه الخاصة عن شديد الحزن والأسى للفشل الأميركي في العراق (وبيانات الحزب التقدمي الاشتراكي الرسمية باتت تكتفي بالإشارة إلى «أخطاء» أميركية في العراق فقط، في إشارة إلى تمنّع أميركي عن خوض حروب إضافية في المنطقة ضدّ خصوم الزعيم الاشتراكي).
تسابق على الانصياع
لكن النظام العربي الرسمي تكوّن بصورة غير مسبوقة. فالكل التحق بموكب بوش. تراهم واحداً واحداً، الذين حضروا والذين خافوا أن يحضروا قمّة دمشق يلهجون بحمد خادم الحرمين. ومديح خادم الحرمين هو مديح غير مباشر لبوش. تراهم يُؤمَرون، فيطيعون صاغرين. هم لا يجرؤون على مخالفة المشيئة الأميركية، حتى في آخر أيام بوش، حتى في آخر دقائق حكمه. لا ندري إذا ما كان حكّام الخليج سيهرعون إلى واشنطن لمراقصته بالسيف عند رحيله من البيت الأبيض (وهم كعادتهم سيغدقون العطايا على مكتبة بوش، مثلما فعلوا لرؤساء من قبله. لمَ لا إذا كان الشيخ حمدان بن محمد بن راشد آل مكتوم قد دفع مبلغ 2.7 مليون دولار مقابل ناقة؟ ولكنّها ناقة لا كالنياق). هم يتوقّعون أن بوش، الذي لم يعد يخيف ذبابة في أميركا، يستطيع أن يبادر في آخر ولايته إلى شنّ حروب جديدة تعود على حزبه بالهزيمة الساحقة. وسركيس نعوم يجزم أنّ أميركا لن تبيع لبنان، لأنّ موسم البطيخ على الأبواب. والنظام السعودي يوظّف الهجوم والحروب الأميركية لمصلحته. لا يود أن تبقى معارضة واحدة ضدّه. والخلافات العربية ـــ العربية تغيّرت عن الزمن السابق. كان العرب يختلفون وينقسمون حول معارضة أو مماشاة الحلف الغربي في المنطقة، أمّا اليوم، فهم يختلفون على درجة الطاعة، أو على درجة الانحناء أمام بوش، أو على طريقة الرقص بالسيف أمامه. يختلفون ويتنافسون في ما بينهم على دور القيادة في الانصياع. تجد أنّ قطر والأردن لا يختلفان، مثلاً، على السياسة، بل على المنافسة في خدمة الحليف الأميركي. وهم يختلفون على الريادة في التطبيع، وهذا ما يفسّر بعض التوتّرات في العلاقات العربية ـــ العربية. والحكم السعودي يؤمن باحتكار الانصياع المطلق للمشيئة الأميركية. السعودية اليوم لا تعاني من خصوم يختلفون معها على توجهاتها في السياسية الخارجية، بل من حلفاء يودّون لو يسمح لهم الملك السعودي بتملّق وانصياع أكبر.
والخلاف السعودي السوري لم يأتِ هكذا من فراغ، ولم يكن كما يُقال لنا نتيجة التفجّع السعودي من جراء اغتيال رفيق الحريري. فآل سعود يضحّون بالغالي والثمين من أجل تدعيم الحكم، وهم يفعلون المستحيل لمدّ سيطرتهم على كل المنطقة العربية. هم نجحوا في استعمال الشحن المذهبي الحادّ في المنطقة، بالاتفاق مع الحليف الأميركي. وخطّة الشحن نجحت، لكن ليس في كل العالم العربي. هي نجحت في تأليب رأي عام سنّي على حزب الله في لبنان، مثلاً، لكنها فشلت في استخدامها في فلسطين بالرغم من هتافات «شيعة شيعة» ضدّ حركة «حماس» من جماهير محمد دحلان.
أمّا في العراق، فالخطّة لم تنجح إذا ما قِيسَت بعواقبها. وسلاح الشحن المذهبي السعودي سلاح ذو أكثر من حدّ: فهو يضيف إلى معسكر السعودية فرقاء وحركات بن لادنية قد تخرج في ما بعد عن السيطرة. (يمكن إدراج غزوة الأشرفية المظفّرة وتمرد «فتح الإسلام» تحت هذا الباب، بالرغم من فتاوى للوزير الأكثر نباهة، عنينا حسن السبع الخبير في أمور الانشقاقات التنظيمية الفلسطينية). كما أن هذه الخطة دعمت، من حيث لا تريد، تراصّ الفريق الإيراني ـــ السوري. إذ إنّ سياسة الشحن تضمن فشل الحصول على حلفاء وأصدقاء من المذهب الآخر. كيف يمكن مثلاً أن يحظى فريق «المستقبل» السعودي على حلفاء شيعة بوجود شحن الجوزو وغيره من تيار المستقبل الذين يستعملون لغة لم تشهدها العلاقات السنية ـــ الشيعية في لبنان. لم نكن نتحدث عن علاقات سنية شيعية في لبنان قبل قدوم رفيق الحريري إلى ربوعنا. (فليُضِف الفنان بصبوص إنجازاً آخر للحريري إلى مسلّته المقتبسة). كل هذا نتاج حديث لسياسة حديثة تلت التعثّر والتخبط الأميركي في العراق. ولا ننسى، ثالثاً، أنّ سياسة الشحن الطائفي تنعكس سلباً على العلاقات الاجتماعية بين الطوائف في داخل دولة مثل السعودية والتي لديها مواطنون (ومواطنات ـــ عورات بمفهوم رجال الإفتاء هناك) من الشيعة. لكن خيار الشحن المذهبي كان حيلة بيد المستعمر الأميركي الذي اضطر إلى استخدام شتى الوسائل من أجل تدعيم موقفه في العراق.
أوطان وعشائر للإيجار
نسي المحتل أن حلفاءه في العراق من الطرف المذهبي الآخر. استعانت السعودية وسلطة الاحتلال بمن توافر من قيادة العشائر الرجعية: هؤلاء الذين خدموا صدام، قبل أن يخدموا «القاعدة»، قبل أن يخدموا في ما بعد سلطة الاحتلال. لكنهم مجاهرون بمبادئهم من أعلى السطوح. فهم هدّدوا، على ما روت جريدة «الحياة» (الناطقة باسم الأمير خالد بن سلطان، إذ إنّ لكل مطبوعة أو وسيلة إعلامية عربية أميراً يرعاها ويوجهها مخافة الخطل) بالعودة إلى صفوف «القاعدة» إذا لم يحصلوا على مخصّصاتهم الشهرية، وهي زهيدة بالفعل، تتراوح بين ثلاثمئة وستمئة دولار. مبادئ ومواقف للبيع، وأوطان. قبائل وعشائر للإيجار. والتنظيم العشائري والقبلي من مخلّفات الماضي. لكن دعاة الدولة المدنية من محتلين ومستعمرين وحريريين، حتى لا ننسى السنيورة، يهرعون لإنعاش التنظيم العائلي والعشائري والمذهبي مع أنّه يعزز عناصر الذكورية بالإضافة إلى تعزيز كل عناصر التخلف في المجتمع. ولقيادات العشائر والقبائل (بالإضافة إلى قيادات العائلات «العريقة») باع طويل في عون المستعمر. رأينا كيف جمع الاحتلال الإسرائيلي مخاتير القرى في جنوب لبنان وأنعشهم بعدما دخلوا في سبات مُستحقّ بعد حرب السنتين.
والكلام على الحقبة السعودية الثانية مرتبط بما تلى اندثار الحرب الباردة من عوارض في العلاقات الدولية. تخلّصت مملكة الرجم السعودية من أعداء كثيرين: الشيوعيّة، وعبد الناصر، والبعث، وكل الحركات العلمانية. وتزامن الصعود الثاني للحكم السعودي مع تغيرات هامة تضمنت الوصول الأميركي الأهوج إلى منطقة الشرق الأوسط والحرص، لا بل الهوس، السعودي على إرضاء الولايات المتحدة بعد 11 أيلول لما أحدثته من تصدّعات في العلاقات الأميركية ـــ السعودية.
ولترميم العلاقات أحكامها الصهيونية. عندها، زال الخلاف بين جناح الملك عبد الله (الذي يعاني في علاقاته داخل العائلة المالكة من عدم وجود أشقاء له) وجناح السديريّين السبعة الذين عقدوا أمرهم على التحالف الوثيق مع الولايات المتحدة منذ السبعينيات، إن لم يكن من قبل. زال الخلاف بين الجناحين في أمور السياسة الخارجية ولم يعد يتحدّث أحد عن قومية الملك عبد الله (باستثناء أزلام السعودية في لبنان مثل السنيورة وغيره). هذا لا يعني أن الخلاف بين الجناحين لن ينعكس في أمور الحكم، لكن من المرجح أنّ الخلاف سينحصر في أمور داخلية. وأعدّ الملك عبد الله مبادرته (استقاها من اقتراحات لتوماس فريدمان في جلسة معه) وذلك لتوثيق العلاقة مع أميركا.
بقيت سوريا خارج الحظيرة الأميركية. والتمنّع السوري لم يكن مبدئياً من حيث رفض التحالف مع أميركا أو التطبيع مع إسرائيل بالرغم من ادعاءات حلفاء سوريا في لبنان. كان النظام السوري منذ عهد حافظ الأسد ينتظر شروطاً أفضل للتطبيع، لا للتفاوض، إذ إنّ النظام السوري يقبل التفاوض مع العدو الإسرائيلي من دون شروط. والنظام في سوريا لم يكن يؤمن بأنّ الولايات المتحدة تستطيع أن تلبّي طلباته من حيث تطبيق الانسحاب الكامل من الأراضي السورية المحتلة. وسوريا كانت ستقبل بالقيادة السعوديّة لمعسكر الأنظمة التسلطية العربية لو كانت ستحظى بما كانت تحظى به في عهد حافظ الأسد من عطايا ومن تلزيمات ومن تقدير.
لكن الصعود الثاني للحقبة السعودية أتى مختلفاً تماماً. لم تعد العائلة السعودية الحاكمة تتصرف بنفس القلق والتردد وعدم الثقة الذي وسم الحقبة الأولى ــ هنا، في هذا المجال تحديداً، تستطيع أن تذكر جمال عبد الناصر بالخير لما كان يفعله بأنظمة الشخبوطية قبل هزيمة 67.
وكان الملك فهد يزعم أنّه يدعم الإجماع العربي ضدّ مبادرة أنور السادات الذليلة، في الوقت الذي نعلم فيه اليوم أنّه كان يرسل له رسائل دعم سريّة. ولم تعد السعودية تشعر بأنها بحاجة إلى إغداق الأموال على أنظمة تختلف معها عقائدياً. إذ إن السعودية ومعها الولايات المتحدة كانت تفترض، لا بل تصرّ، على أن على سوريا الانضمام إلى حظيرة الطاعة المطلقة، هكذا من دون مقابل، كما فعل القذافي الذي حصل على علاقات دبلوماسية مع حكومات الغرب لا أكثر، بالإضافة إلى عطف على نظامه الديكتاتوري.
سوريا تريد أن تحصل على «عودة» الأراضي المحتلة (استعمل بشار الأسد في خطابه أمام القمة العربية في دمشق عبارة «عودة» الأراضي المحتلة، إذ إن كلمة «تحرير» تزعج الخاطر الأميركي والإسرائيلي، كما أنها تحتمل معنى العمل العسكري الفعلي لتحقيقه، وهذا ما لا تريده سوريا التي كانت في الماضي تقول بانتظار تحديد «زمان ومكان المعركة» وهي تقول اليوم بـ«عودة» الأراضي المحتلة، أي بسقوطها هكذا من السماء في الحضن السوري من دون فعل أو علم غير دعم الفعل المقاوم في خارج سوريا).
وشروط النظام العربي الجديد تتوضح باستمرار. هي لا تقبل معارضة أو حتى مشاركة في دفة القيادة، وهذا يفسر سبب إصرار السعودية على السيطرة الاحتكارية التامة والكاملة على كلّ وسائل الإعلام والتعبير في العالم العربي، ويساعدها في ذلك أقلام الليبراليين والليبراليات العرب. هذا يفسر الانزعاج المصري المتكرر من الإهمال السعودي للدور المصري الذي أصبح هامشياً. أمّا النظام الأردني فهو عريق في الهامشية وفي القبول بصغر الدور ما دام قد توافق دوره مع المصلحة الإسرائيلية التي أدت دوراً أساسياً في إبقاء هذا النظام على قيد الحياة. والحكومة القطرية تبيّنت معالم المرحلة الجديدة، والصحافي الأميركي ديفيد مارش، الذي استقال لتوّه من الجزيرة الإنكليزية لكونه مذيعها الرئيسي، صرح بالكثير عن المرحلة الجديدة في مقابلته أخيراً مع «كولومبيا جورنالزم ريفيو». هو قال إنّ جولة لنائب الرئيس الأميركي في منطقة الخليج كانت حازمة في أوامرها، وإنّها أدّت إلى المصالحة السعودية ــ القطريّة، التي غيّرت منهج تغطية المحطّة للسياسة الأميركيّة.
مستقبل الحقبة السعوديّة الثانية
الصعود السعودي الثاني لن يموت بانتهاء ولاية بوش. قد يصاب بالدوار والاهتزاز. لكن توقّع أن تهتم الإدارة الأميركية الجديدة بخروق حقوق الإنسان الدورية في المملكة لا يستند إلى قراءة دقيقة للتاريخ المعاصر للسياسة الأميركية الخارجية نحو الشرق الأوسط (شهدت المملكة السعودية في هذه السنة وحدها أكثر من 33 عملية قطع رأس في الساحات العامة، ويبدو أنّ المملكة ستتخطى رقم 137 عملية قطع الرأس في السنة الماضية، حتى لا نتحدث عن عمليات الرجم والجلد التي لا ترد حتى عرضاً في الصحافة العربية المشغولة دوماً بسجن ميشيل كيلو، وهو ضحية أكيدة للنظام، لكن من الصعب أن يقنعنا ملحق «النهار» بأنّه الضحية الوحيدة للقمع في العالم العربي، بطوله وعرضه).
وتظهر في الإعلام العربي السعودي بوادر تبرّم من أية أصوات نقدية لا تتماشى مع مصلحة المملكة. ولا تتورع راغدة درغام عن وصف جريدة «الأخبار» بـ«الموالية» لحزب الله. وإذا كانت «الأخبار» (التي تنشر مقالات تنتقد حزب الله وإيران وسوريا والتفاهم الأميركي ـــ الإيراني الخبيث في العراق) موالية لحزب الله، فماذا تكون جريدة «الحياة»؟ هل نقول إنها، وهي لا تجرؤ على نشر كلمة نقد واحدة للسعودية وسياساتها، مستميتة في التعبير عن أصوات أمراء العائلة المالكة؟ أم نقول إن «الحياة» هي أداة دعائية للنظام السعودي؟ هل نصف جريدة «الحياة» بأنها مستشرسة في الدفاع عن مصالح العائلة المالكة؟ من المفارقة أن تعيّر جريدة الأمير خالد بن سلطان جريدة أخرى في استقلاليتها، كأن يقوم الإعلام الحريري بتعيير وسائل إعلام معارضة في «تمويلها» وكأنّ الإعلام الحريري مُموّل من قبل مساهمين صغار ومستقلين.
لكن المرحلة الجديدة تتطلب إسكات كل الاصوات المعارضة. تطمح العائلة المالكة إلى أن تنقل إلى العالم العربي ما تمارسه من خنق الأصوات وقمعها داخل المملكة. (أصدر الملك فهد في الثمانينيات بياناً ملكياً نفى فيه أن تكون هناك اختلافات في الرأي في داخل المملكة. هذا ما يُراد تطبيقه في العالم العربي). لا مكان لاختلاف في الرأي مهما كان طفيفاً، لهذا فإنّ اختلاف التغطية بين محطّتيْ «الجزيرة» و«العربية» سيضمحلّ مع مرور الوقت. والمحطّتان تتجنّبان الإشارة إلى قوات الاحتلال الأميركي بأنّها قوّات احتلال. هم سيّاح مدجّجون بالسلاح أتوا إلى ربوعنا لنشر الحب والوئام والقنابل والصواريخ. وثقافة «حب الحياة» تملأ الإعلام الوهابي. وثقافة «حبّ الحياة» تزاوج بين رفض المقاومة، أيّة مقاومة، ضدّ الاحتلال الأجنبي ونشر السلام بين العرب وإسرائيل، وثقافة قطع الرؤوس، عندما تينع فقط، ورجم العشاق والمحبين، وجلد من يجرؤ على مخالفة قوانين من مخلفات القرون الوسطى.
ستفتقد الحقبة السعودية حكم بوش. كان التدخّل الأميركي المباشر عبر الجيوش الجرّارة من أعمدة الصعود السعودي الثاني. لهذا، فإنّ الحكم السعودي يبدو ملحاحاً في تطبيق إرادته في إعادة تكوين النظام العربي قبل نهاية حقبة بوش، وقبل انسحاب الجيوش الأميركية من العراق.
تبدو المهمة عاجلة وملحاحة. والحقبة السعودية الثانية متحالفة جهاراً مع الدولة اليهودية، ويتعاون الاثنان في لبنان وفلسطين، وضدّ النظام السوري الذي لا يزال يحاول أن ينفي الخلاف السعودي ـــ السوري. يحاول النظام السوري الإيحاء بأنّ غيمة عابرة تشوب العلاقات بين الطرفين. لا يبدو أنّ السعودية ستكفّ عن محاولاتها لتطويع كل المنطقة العربية، بنظامها الإقليمي، وثقافتها، تحت إرادة العائلة الحاكمة. ومهرجان الجنادرية الذكوري بات يحظى بتغطية لم تحصل عليها أم كلثوم في أغنية «انت عمري». لكن عميد الكتلة الوطنية في لبنان (التي تحالفت أخيراً مع تيار أحمد الأسعد الجماهيري، والتياران الجماهيريان يمثلان الأمة اللبنانية جمعاء) يمثل نقطة ضوء أكيدة في هذا الظلام الدامس. فهو استطاع أثناء ظهور تليفزيوني أن يلجم مناصريه المنتشرين في طول البلاد وعرضها ـــ وفي المنافي والمهاجر، وأن يمنعهم من أن يعبّروا عن بهجتهم لرؤيته عبر إطلاق الرصاص في الهواء. والقمة العربية في دمشق (التي نجحت لأنها لم تفشل وفق معادلة مبتكرة لسليمان فرنجية) قرّرت إيلاء إحياء اللغة العربية أهمية كبرى، وهي أوكلت لكارلوس إدة مهمة تلقين أصول اللغة العربية لملك السعودية ولسعد الحريري. فليبدأ الدرس: ألف. أميركا. باء. بوش...
* أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة كاليفورنيا
(موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com)