رائد جرار *برغم المحاولات الأميركية تصوير الصراع العراقي ـــ العراقي المتنامي كصراع أزلي مبني على أحقاد مذهبية وعرقية، وبأن قوات الاحتلال موجودة في العراق لتحمي الأكراد من العرب تارة، والشيعة من السنّة تارة، والسنّة من الشيعة تارة أخرى، أظهرت الأحداث الأخيرة في البصرة أن الأسباب الحقيقية من وراء الاقتتال الداخلي في العراق سياسية واقتصادية، لا دينية أو مذهبية أو قومية. يحتدم هذا الصراع السياسي والاقتصادي في أروقة الحكومة العراقية منذ سنوات، فهناك قوى سنية وشيعية وعلمانية ومسيحية تسيطر على السلطة التشريعية المنتخبة، وقوى أخرى سنية وشيعية وكردية تسيطر على السلطة التنفيذية غير المنتخَبة.
تتبنّى السلطتان برامج وأهداف مختلفة ومتعارضة، فالسلطة التشريعية معارضة لتقسيم العراق إلى أقاليم ذات أساس عرقي وطائفي، بينما تدعم الأحزاب المشاركة في السلطة التنفيذية قانون الأقاليم وتوصيات بايدن ـــ براونباك. وكذلك تدعم السلطة التنفيذية قانون النفط والغاز الذي يخصخص الموارد البترولية في العراق إلى فترة تصل إلى 37 سنة، ويسمح للأقاليم والمحافظات ببيع مواردها الطبيعية من غير العودة للحكومة المركزية، فاتحاً الأبواب لتقسيم العراق اقتصادياً، بينما تعارضه السلطة التشريعية بشدّة، وتراه تهديداً لسيادة العراق ولوحدة أراضيه. وأخيراً وليس آخراً، تعارض السلطة التنفيذية أيّ مخطط يتضمن انسحاب قوات الاحتلال الأجنبي أو يعرقل تدريب القوات المسلحة العراقية على أيدي القوات الأجنبية، بينما ترى السلطة التشريعية الانسحاب الكامل لقوات الاحتلال مطلباً شعبياً مشروعاً، وحاجة ملحّة لبدء مسيرة الإعمار والمصالحة، وبناء الدولة والقوات المسلّحة غير الطائفية.
وتظهر عديد استطلاعات الرأي التي أُجريت في العراق خلال السنوات الماضية، أنّ السلطة التشريعية هي الأقرب لمطالب أغلبية الشعب العراقي، إلا أنّ السياسة الأميركيّة في العراق كانت ولا تزال مبنية على الدعم الكامل للأحزاب الخمسة الحاكمة للسلطة التنفيذية. عمليات البصرة الأخيرة كانت شاهداً عملياً على هذا الصدع السياسي بين العراقيّين، وعلى الدور الأميركي المنحاز. فالانتخابات المرتقبة لمجالس المحافظات، كانت العامل الرئيسي الذي دفع حزبي المجلس الأعلى والدعوة الإسلاميين (من السلطة التنفيذية) للهجوم على معاقل التيار الصدري وحزب الفضيلة (من السلطة التشريعية). فقد أُقرّ قانون المحافظات غير المنتظمة بإقليم في التاسع عشر من آذار المنصرم، بعد محاولات عديدة للسلطة التنفيذية لتأجيل القانون أو إلغائه خلال العامين السابقين.
ويرى العديد من المراقبين والقادة العراقيين القانون المذكور مصيرياً ومحدداً لمستقبل العراق، فإذا فازت القوى الوطنية العراقية بانتخابات المحافظات الجنوبية مثلاً، ستقرّر كلّ من هذه المحافظات البقاء كمحافظة تابعة للحكومة المركزية في بغداد، سياسياً وعسكرياً واقتصادياً. أمّا إذا تمكنت القوى الانفصالية الشيعية من الفوز في ثلاث من المحافظات الجنوبية أو أكثر، فستتاح لها الفرصة القانونية لتكوين «شيعستان»: إقليم جنوبي له حكومته وقواته الأمنية واستقلاله السياسي، بالطريقة نفسها التي يتمتع فيها إقليم «كردستان» باستقلالية شبه كاملة عن حكومة بغداد.
دفع الخوف من خسارة معظم المحافظات الجنوبية المجلس الأعلى وحزب الدعوة للعمل بسرعة على التحضير للانتخابات، فور إقرار قانون مجالس المحافظات. ولكن بدلاً من التنافس على كسب ودّ الشعب بتحسين الواقع المتردّي للخدمات، أو وضع الإعلانات في الشوارع، اختار الحزبان الشيعيان الحاكمان، بدعم أميركي وبريطاني، إرسال خمسين ألف جندي إلى البصرة خلال الأيام التي تلت إقرار قانون المحافظات، وبدأت هذه القوات يوم الرابع والعشرين من آذار هجوماً على البصرة لقتل خصومهم السياسيين من أحزاب شيعية وطنية معارضة للتقسيم.
أمّا داخل الحكومة العراقية، فالوضع كان متوقّعاً: أيّدت الأحزاب الخمسة السنية والشيعية والكردية في السلطة التنفيذية الهجوم، وتبعها بعض قادة العشائر السنية والشيعية. وعارضت الهجوم معظم الأحزاب السنية والشيعية وغيرها في اللجنة التشريعية، وتبعها عدد من العشائر السنية والشيعية، وحتى بعض التجمعات خارج العملية السياسية، كهيئة علماء المسلمين والمجلس التركماني الشيعي وغيرهما.
جاء إعلان رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي من البصرة أن التيار الصدري وجيش المهدي أخطر وأسوأ من القاعدة مفاجأة للبعض، لأن رئيس الوزراء الشيعي قد عدّ مقتدى الصدر، الشيعي أيضاً، أخطر من تنظيم القاعدة السني. إلا أن التصريحات لم تأت بجديد للعراقيين الذين يتفهمون مخاوف المالكي. فالقاعدة تنظيم سني يعمل على إنشاء «سنستان»: دولة انفصالية سنية في وسط العراق وغربه، يطلق عليها مقاتلو التنظيم اسم «دولة العراق الإسلامية».
القاعدة وبعض الميليشيات السنية الانفصالية لا تمثّل أي تهديد لـ«شيعستان» المالكي والحكيم، ولكن الصدر والفضيلة هما التهديد الحقيقي لـ«أجندة» الانفصال الجنوبية. فلا غرابة في أن يرى المالكي أبناء البصرة من الصدريين أخطر من القاعدة.
حتى الأحزاب الوطنية المقاومة للتدخل الأجنبي في شؤون المنطقة، مثل حزب الله أو حماس، تبدو ضائعة في متاهاتها الداخلية وحساباتها الخاصة. حزب الله اللبناني وحماس فلسطين قد التزما الصمت حيال الوضع الداخلي العراقي. فبينما نسمع بعض التصريحات المعارضة للاحتلال الأميركي والبريطاني، وهي تصريحات مهمة وإيجابية، لم يتخذ أي منهما لحد الآن موقفاً سياسياً واضحاً من الصراع الداخلي العراقي، أو من التدخل الإيراني في شؤون العراق الداخلية.
إذا كان سبب هذا الصمت نقصاً في المعلومات والتحليل فتلك مصيبة، فها هي الجرائد والمواقع الإخبارية العراقية على شبكة الإنترنت وعلى الفضائيات، وها هي أحداث البصرة والجنوب ومدينة الصدر تبيّن الوضع على حقيقته. أما إذا كان صمت حزب الله وحماس مرتبطاً بإشكالية العلاقة مع إيران، فالمصيبة أعظم.
الدور الإيراني في العراق يختلف عنه في باقي المنطقة. فبينما حتمت المصالح الجيوسياسية على الحكومة الإيرانية دعم تيارات المقاومة والممانعة في سوريا ولبنان وفلسطين، جاء المشهد العراقي مخالفاً لذلك. فأثناء حرب السنوات الثماني بين العراق وإيران، استضافت الحكومة الإيرانية حزب الدعوة الإسلامي بعدما حظّرته الحكومة العراقية بعد محاولة فاشلة لقلب نظام الحكم.
وأنشأت الحكومة الإيرانية المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق، ليحكم هذا المجلس العراق إذا سقط النظام العراقي، (وللسبب نفسه أنشئ المؤتمر العراقي الوطني بزعامة أحمد الجلبي من قبل الحكومة الأميركية، ليحكم العراق إذا انهارت الحكومة العراقية تحت الحصار الاقتصادي والهجمات العسكرية المستمرة في التسعينيات من القرن الماضي).
عندما سقطت بغداد في التاسع من نيسان عام 2003، جاء الجلبي والحكيم والمالكي وغيرهم من إيران وأوروبا والولايات المتحدة، متأبّطين «أجنداتهم» الخارجية. «الأجندة» المعلنة للحزب الإيراني والحزب المدعوم إيرانياً كانت ولا تزال، تقسيم العراق وإنشاء كونفدرالية طائفية شبه مستقلة في الجنوب. المفارقة هنا أن هذين الحزبين القادمين من خلف الحدود الشرقية، قد قدما بالتنسيق مع القوات الأميركية المحتلة بدلاً من قتالها، فأول ظهور علني يجمع الحزبين الإيرانيين مع حلفائهما الأميركيّين والبريطانيين، كان في عام 2002 في مؤتمر لندن، حيث جرى التمهيد للحرب وللاحتلال، واستمر هذا التنسيق مع قوات الاحتلال خلال السنوات الأخيرة، بل تحوّل الحزبان الشيعيان المدعومان إيرانياً إلى حلفاء رسميّين لحكومة الولايات المتحدة في العراق. إذا كان سبب صمت حزب الله في لبنان وحماس في فلسطين نابعاً من حساسية انتقاد الدور الإيراني في العراق، فهذه والله كارثة يندى لها الجبين، وما عوّدنا حزب الله وحماس إلا على قول كلمة الحق. لن يعتب العراقيون على الأحزاب المتأمركة والمتصهينة لصمتها على جرائم الاحتلال وعلى دعمها للتدخل الأجنبي السافر في شؤون العراق الداخلية، ولكن العتب على الشرفاء والوطنيين إذا ترددوا في قول كلمة الحق في زمن الانهيار والاحتلال، والعتب على قادتنا السياسيين الذين لزموا الصمت عوضاً من اتخاذ المواقف الواضحة التي تنير الطريق وتساعد الشعوب على التصدي لمخططات التقسيم الخارجية.
العراق بحاجة إلى مصالحة وطنية سياسية تنهي العنف والاقتتال الداخلي العراقي، ولكن مصالحة كهذه غدت مستحيلة بسبب الدور الأممي والأميركي والبريطاني والإيراني الداعم للأقلية الحاكمة ضد الأغلبية المقهورة. المصالحة بين التيارات الانفصالية في السلطة التنفيذية والقوى الوطنية في السلطة التشريعية ممكنة، والتوصل إلى حلول وسطى للقضايا الخلافية ممكن. على سبيل المثال لا الحصر، قد يتفق كلا الجانبين (الانفصاليون والوطنيون) على شكل جديد من أشكال الفدرالية، يضمن الاستقلالية الإدارية ويحافظ على وحدة العراق السياسية والاقتصادية، من غير تقطيع أوصال نسيجه الاجتماعي. ولكن التوصل إلى هذا الاتفاق مستحيل بسبب التدخل الأجنبي الذي لا يعطي للتيارات المدعومة من قبله أي سبب للمساومة والتوصل إلى حلول.
العراق بحاجة إلى المساعدة، ولو بكلمة حق. وأكبر مساعدة ليست دعم الشيعة أو السنة أو الأكراد أو المسيحيين، وليست عقد مؤتمرات للمصالحة الدينية والعقائدية، وليست حتى دعم الوطنيين أو الانفصاليين، بل المطالبة بإنهاء الاحتلال ووقف الدعم الأجنبي للأحزاب الخمسة في السلطة التنفيذية على حساب باقي الشعب العراقي، والإيمان بقدرة العراقيين، كل العراقيين، على بدء مسيرة الإعمار والمصالحة الداخلية، اعتماداً على أنفسهم حالما يعود البلد لأهله.
* محلّل سياسي مقيم في واشنطن