عزمي بشارة رغم فشل الدول العربيّة في بناء الأمّة على أساس المواطنة أو على الأقلّ على أساس هوية محليّة إثنيّة متخيّلة مثلاً، يستمرّ اتهام دُعاة القوميّة العربية بانشغالات رومانسية. والفشل بادٍ بشكل خاص من انهيار الدولة مع انهيار النظام في العراق، والخوف المنبعث منذ الحرب على العراق، من تحوّل الخلاف السياسي في كلّ دولة عربية إلى احتراب طائفي أو الخوف المعاكس من تسييس الانتماءات الطائفية و«تذوّتها» أو «استبطانها» وتحوّلها إلى «مصلحة الطائفة»، يتماهى معها الأفراد ويتبنّونها كأنها مصالحهم فعلاً، كـ«أبناء طائفة».
ومؤخّراً، تحوّل حتّى الخوف من الحرب الخارجية والاحتلال إلى مجرّد خوف من أن تؤدّي إلى احتراب داخلي. لا يمكن الادّعاء أن هذه الوقائع تقدّم دليلاً على نجاح ما في تثبيت الهوية القُطرية كهوية قومية. أين هي الهوية القُطرية، والهوية الدولتيّة في خضمّ هذه المخاوف في العراق والسودان ولبنان وفلسطين وسوريا والأردن فضلاً عن الصومال؟

القُطريّة... الرومانسيّة

لقد تحوّلت الأمة التي يفترض أن تُبنى على أساس الانتماء إلى الدولة بحيث تعيد صياغتها برامج التدريس الرسمية، وكتابة التاريخ مجدّداً، كتاريخ مشترك واقتصاد مشترك وتجربة مشتركة وغيرها... تحوّلت هذه الأمة إلى هوية قطرية فولكلورية ورومانسية إلى حدٍّ بعيد، بما فيها من محاولات لتجذيرها تاريخيّاً في مهرجانات بابلية وفينيقية وكنعانية وفرعونية بُودر إليها من أعلى لتنفيذ مآرب سياسية وإعادة تشكيل الانتماء والولاءات على أساسها.
وربما لو نجحت الدولة القطرية في تكوين أمّة مدنيّة على أساس الانخراط في مواطنة حقوقية تمثّل ضماناً مدنياً ضدّ الاستبداد، بدل أن تمثّل العشيرة أو الطائفة مثل هذا الضمان، لنشأ إمكان تحوّل هذه المواطنية إلى هوية وطنية فعلية. ولكان قد وقع، ربما، فصل محمود، مهما بدا غريباً، بين قومية عربية ثقافية تنتمي إليها غالبية المواطنين في الدول العربية من جهة، وأمّة سياسية قائمة على المواطنة في الدولة القُطرية من جهة أخرى: هي مجتمع مدني نحو الداخل وأمّة سياسية نحو الخارج. ولكن هذا لم يحصل.
وأحد الأسباب برأينا هو وجود المسألة العربية غير المحلولة. فقد بقيت احتمالات الانتماء قائمة بين قومية عربية ثقافية وسياسية في آن واحد، وبين انتماءات سياسية عشائرية وطائفية بعضها عابر وبعضها غير عابر لحدود الدول.
في مثل هذا الظرف، الذي تتجلّى فيه واقعية الطوائف والعشائر وتشظّي الدولة وعدم قدرتها على بناء أمّة قطرية، لم يعد ممكناً التعاطي مع القومية العربية كرومانسية إلّا كسوء نيّة سياسي يعبّر عن موقف. نقول هذا رغم إدراكنا أن جزءاً من القوميين العرب وغير القوميين من الجيل الجديد نسبياً وجّه نقداً لاذعاً إلى التيارات القومية بصفتها رومانسية الطابع تستند إلى افتراض ماضٍ عربيّ موحّد ومجيد (1). والحقيقة أنه رغم صحة هذا النقد، وهو صحيح في حالة كلّ القوميات، إلّا أنه يكاد ينطلق في نقده من أنّ الأيديولوجيا القومية نظرية علمية تحتاج إلى تصحيح. وهذا هو النهج نفسه الذي يتّبعه نقّاد الدين الإلحاديّون، كأنّ الدين نظرية، تتميّز بكونها نظرية خاطئة. والواقع أنه لم يكن هناك يوماً قومية في الشرق أو الغرب (بمفهوم قومية الدولة أو حتى القومية ضدّ الدولة) إلّا وافترضت وحدة من هذا النوع وأسقطتها على ماضٍ غابر. لا أيديولوجيا قومية من دون عناصر رومانسية. هنالك فرق بين القومية وتجلياتها كثقافة وسياسة وكظاهرة اجتماعية، وبين نظرية القومية التي تبحث في ماهيّة القومية بما في ذلك الأساطير التي تقوم عليها.
فالقومية العربية قبل الاستقلال وبدء مرحلة بناء أمة المواطنين هي بنظرنا حاجة عملية لتوحيد غالبية الشعب حتى في الدولة القطرية لكي لا ينهار إلى طوائف، وهي من هذا المنظور، ومن منظور نظرية القومية أيضاً ليست مجرد «إثنية» مختلفة مركّبة مصنوعة. فهي ليست مصنوعة أو متخيّلة من لا شيء، بل هي جامع ثقافي من الدرجة الأولى يقوم على اللغة المشتركة، وجامع سياسي وتعبير عن تطلعات سياسية لها تاريخ حديث وقديم. الطموح السياسي لإقامة دولة ومصالح وثقافة مرتبطة به، يصنع من هذه العناصر حالة قومية حديثة.
حتى بعناصرها الرومانسية، وهي قائمة طبعاً، ليست القومية العربية مجرد حالة رومانسية بل حاجة عملية ماسّة وبراغماتية في الوصول ليس فقط إلى مجتمع حديث قائم على الانتماء الفردي، بل أيضاً لتزويد المواطن بهوية ثقافية جامعة تحيّد غالبية الطوائف والعشائر، العربية على الأقل، عن التحكّم في انتماء الفرد السياسي.

التكامل بين القطريّة والقوميّة

ورغم معرفتنا بالفرق المهمّ بين منظّري القومية العربية في المشرق والمغرب العربيّين في نظرتهم إلى أهمية الدولة القطرية العربية وشرعيتها وجذورها التاريخية بين التقسيم الاستعماري والتبرير التاريخي القائم (2)، نقول إنّه فوق ذلك وحتى لو لم تقم على أساسها دولة عربية واحدة فدرالية أو غير فدرالية، فإنّ الدول العربية القطرية لا تستطيع الاستغناء عن العروبة كقومية في عملية بناء أمّة مواطنية للعرب وغير العرب. كما أنها تمثّل أساساً لتعاون ووحدة دول عربية في المستقبل على نمط الاتحاد الأوروبي. وبين دولها من المشترك والموحّد أكثر بكثير مما بين دوَلِهِ التي لا تجمعها لغة قومية، ووقعت بينها في الماضي غير البعيد حروب دينية وحروب قومية وحروب عالمية. كما أن وجود تيار عروبي فاعل يطرح المشترك ويلحّ عليه ويعارض التجزئة الطائفية ويطرح بدائل ديموقراطية ويندمج في الحركة الثقافية والجماهيرية في كل بلد على حدة هو ضمانة أكيدة ضد هيمنة الفكرة الطائفية أو الانتماءات التجزيئية الأخرى للأمة.
من أين يأتي انطباع الرومانسية هذا عن القومية، الذي يجترّه السطحيون من حلفاء المرحلة الأميركية ويبصقونه بعدمية باتجاه القوميين وغيرهم من نقّاد المرحلة؟ ونقول «العدميّون» لأنهم لا يحاربون كل رومانسية. ولا نتحدث هنا عن تبنّيهم رومانسية التنوير والكثير من الأساطير غير الصحيحة عن نشوئه ومؤسّسيه كفكر لم يكن دائماً متنوّراً، بل المقصود هو إعجابهم بالتطرف القومي والرومانسية القومية الإنكليزية وأساطيرها المؤسِسة، أو إذا تجلّت الرومانسية على نمط خطب بوش في كاتدرائية في واشنطن، أو إذا كرّرها اليسار الإسرائيلي في صراعه ضد حق العودة الفلسطيني ومع قانون العودة الإسرائيلي ومع يهودية الدولة بنبرة قومية لافتة يحترمها العدميون العرب، لأن اليسار الصهيوني يعدّ متنوّراً لا رومانسياً. وفي الواقع، لا تخلو الطقوس والخطب الأميركية والإسرائيلية الرسمية من رومانسيات وأساطير قومية ودينية، بل تعجّ بها.

تأخّر في التطوّر الرأسمالي 2

ربما هم لا يدركون جذور هذا الانطباع لديهم عن القومية، ولكننا ندركه. ويجب أن ندركه إذا أردنا أن نقوّم تاريخ الفكر القومي العربي وغير العربي تقويماً نقدياً. فالقومية كتجاوز الانتماء المجرد إلى أيديولوجيا رئيسية، وكتيار مركزي في المجتمع نشأت في الدول التي تأخرت في التطور الرأسمالي، وغالباً ما جاءها تحديثاً قسرياً من أعلى. وحلّت فيها القومية كردّ فعل رومانسي على انحلال الجماعة العضوية ومحاولة إعادة تأليفها كـ«جماعة متخيّلة» ضدّ الفردية و«الانحلال» التي ميّزت المجتمعات الرأسمالية المتقدّمة، وذلك في القومية القائمة على الثقافة أو الانتماء الإثني.
طبعاً هذا لا يعني أن هذه المظاهر لم تجد لها موطئ قدم في الدول الرأسمالية المبكرة، حيث قام الشعور القومي تدريجاً على دول الملكية المطلقة التي تحوّلت مبكراً إلى دول رأسمالية دون دور توحيدي وحدوي للحركات القومية. ولكن ثقافتها وبرامجها التدريسية ومسرحها وصناعة السينما فيها تعجّ بالأدب الرومانسي وبالأساطير التي تتناول نشأة الأمة وتأسيسها ووحدتها من مراحل ما قبل التاريخ.
ومع هذه الرومانسية، نشأت في الأيديولوجيات والحركات القومية في الدول المتأخرة رأسمالياً، مظاهر تقديسية للانتماء والوطن والجماعة، ثم للانضباط والطاعة والتنشئة على قيم قومية، والرغبة في تنظيم التحوّل الاجتماعي بشكل شبه عسكري للتعويض عن التخلّف والتأخّر في التطور الرأسمالي، وللتعويض عن ضعف قيم الحداثة في المجتمع بالتخطيط الصارم والهندسة الاجتماعية.
وقد ولّدت هذه الأفكار ما ولّدته من عمليّات تحديث في إيطاليا وألمانيا وبولندا وروسيا، لكنها أنجبت أيضاً أنظمة شمولية من أسوأ نوع.
لم تسنح الفرص للقومية العربية للوصول إلى هذه المراحل من إقامة الأنظمة الشمولية، ولكن لوحظ عند مفكّريها الرومانسيين مثل زكي الأرسوزي وحتى المحدثين والحداثيين بينهم من أمثال قسطنطين زريق وساطع الحصري تأثّر شديد بالرومانسية القومية الألمانية والإيطالية. وقد اختلط في هذا التأثّر ـ الإعجاب بسرعة التوحيد والتنظيم والتحديث والضبط ونشر العلم والتصنيع في مجتمعات كانت حتى مرحلة قريبة مجزّأة إلى إمارات ومتخلّفة، اختلط مع العداء للمستعمر الإنكليزي والفرنسي في ما بعد.
ولكن في رأينا، يجب عدم الخلط بين هذه الميول التي بقيت أيديولوجية، وتشديد القوميين الأوائل على التربية والنهضة بالشباب والتثقيف القيمي والأخلاقي ومنح الشباب حلماً وقيماً ومعنى. فهذه ليست بالضرورة رومانسيات، وحتى لو تضمّنت بعض الرومانسية إلّا أنها عبّرت عن حاجة ماسّة. ولذلك تولّت عملية إعداد البرامج للتربية والتعليم نُخَب تلك المرحلة مثل ساطع الحصري بنفسه (وطه حسين بنفسه في حالة التثقيف بالوطنية المصرية). وأدّى غياب مثل هذه النُخَب عن التربية والتعليم ليس فقط إلى انهيار التعليم بل أسهم أيضاً في مفاقمة الأزمة الأخلاقية التي تعيشها الثقافة والسياسة العربية في المرحلة الراهنة.
يذكر عزيز العظمة في كتابه عن المفكر العربي قسطنطين زريق سخرية رئيف خوري الماركسي من القيم التربوية المتضمنة في كتاب الوعي القومي لزريق، إذ يشبّهها بالوعظ الكنسي الإنشائي.
ورئيف خوري ماركسي لامع، وكاتب مجيد. وقد ترك بعض الماركسيين العرب تحليلات جيدة جداً لحال المجتمعات العربية وحتى القضية الطائفية. ولكن سخرية الماركسيين عموماً وحتى الأخلاقيين من بينهم من القضية الأخلاقية والتربوية والقومية، واعتمادهم نسبية الأخلاق، بدل نسبية العلم، والتساؤل الدائم عن أي مصلحة (طبقية؟!) تخدم القيمة الأخلاقية، واتهام القومية بالرومانسية هو مثال على تهافت هذا النوع من النقد. فقد أدّى إلى ما أدّى إليه في دول المنظومة الاشتراكية من هدم الإنسان في ما يتجاوز حتى آثار انهيار الديكتاتورية الشمولية. كما أدّى إلى إرسال الأساس إلى تحوّل بعض اليساريين العرب من اتهام القومية بالرومانسية من اليسار إلى اتهامها بالرومانسية من موقع اليمين، أو من داخل المعسكر الأميركي الإسرائيلي الذي يعج بالقوميين الرومانسيين من المحافظين الجدد، وحتى اليسار الصهيوني. هذا مثال فقط على ما تؤدي إليه نسبية الأخلاق من سهولة الانتقال من معسكر إلى آخر من دون المرور بالمرجعيات الأخلاقية للجماعة المحلية، ودون التوقف قليلاً عند قيم العدالة والمساواة والإنصاف التي لا تتحقّق بمجرد تبني العقل والمنطق، بل تحتاج إلى قرار حر.
وأنصار تكريس الوضع القائم على أنواعهم يرون أن النظر إلى العامّ من خرم إبرة مصالحهم الضيقة الطائفية أو العشائرية أو غيرها هو الواقعية... وقد يثبت أنها رومانسية مقلوبة كما هي حال العدمية دائماً. وفي حالة هؤلاء إنها رومانسية حول الدور التنويري للغرب في الشرق بعد رومانسية حول دور الطبقة العاملة والجماهير، فضلاً عن الرومانسية السابقة في العلاقة مع روسيا، وحالياً الخطاب الخشبي المؤيد لتسوية غير عادلة مع إسرائيل دون توافر أي أساس واقعي لمثل هذه التسوية.

المواطنة، الديموقراطيّة، وجماعات الهويّة والتوافقيّة

انتشرت في السنوات الخمس الأخيرة عربياً ظاهرة المجاهرة في تسييس الانتماءات الطائفية والمذهبية والعشائرية وغياب الحرج عند تسييسها كجماعات هوية. ولبنان الذي تسمع من داخله شكاوى من تدخل الدنيا في شؤونه عندما يلزم، وتتمتع وتستمتع نخبه بمثل هذا التدخل عندما يلزم أيضاً، يتدخل هو الآخر من حيث يدري ولا يدري في الثقافة السياسية للدول الأخرى عبر إعلامه وإعلامييه وسياسييه وتقليعاته. فهو إضافة إلى نشره ثقافة حوار سياسي (في زمن السلم الأهلي على الأقل) أرقى مستوى من كل الدول والمجتمعات العربية المحيطة. واستعراضه الصحي لبعض الوعي المدني (المواطني إذا صحّ التعبير) الذي يشمل ثقة فردية بالنفس، بات يستخدم دون حرج ويجاهر بشكل غير مسبوق بمصطلحات الطائفية السياسية التي كان الفرد المتوسط يجهد في إخفائها. وهي تبثّ عربياً فيستمع الإنسان في فلسطين وغيرها عن «الموقف المسيحي» أو «الالتفاف الشعبي» أو «توحيد السنّة» خلف قيادة واحدة، وعن «النائب المسيحي» فلان، و«الوزير السنّي: فلان... تقال بأناقة وهدوء. وهيمنة لبنان في نشر التقليعات تسري كما يبدو أيضاً على التصنيفات السياسية و«الموضة» السياسية.
ولا شك أن الطائفية والعشائرية موجودة في حالة كمون في كل بلد عربي تقريباً، ولكن الطائفية السياسية كظاهرة ونظام سياسي قائمة في لبنان فقط، وفي العراق أيضاً تفترض الطائفية كفرضية سياسية في فهم بنية العراق السياسية والاجتماعية ويجري تطبيقها كمنهج احتلالي مثل نبوءة تحقق ذاتها. ومن خلال خوض الرأي العام العربي بكثافة في قضايا العراق ولبنان يجري تسويق الطائفية السياسية وثقافة تحويل الروابط الوشائجية إلى هويات سياسية عربياً، فتنتشر مثل عدوى فتّاكة.
وتُعدّ التجربة العراقية الحالية مشكلة للوعي الطائفي السياسي العربي أكثر من حالة لبنان لأنها كانت دولة يهتدي نظامها بالقومية كأيديولوجيا. ولأن حالة لبنان كانت تعدّ استثنائية، وتكاد استثنائيته تكون مفروغاً منها. والتجربة العراقية تمثّل هذا الوعي السياسي الطائفي وتنشره مجتمعياً في العراق نفسه، حيث لم تكن الطائفية السياسية منتشرة كوعي سياسي، وتبثّه عربياً. ورغم كل النفور من دموية التجربة العراقية إلّا أن التقسيم الطائفي للمجتمع عدوى تلوّث ويصعب التحرّر منها بعد الإصابة بها. فبعد أن تكسو غشاواتها العيون تزداد التهاباً بعد فركها، ويُرى كلّ شيء من خلالها ويتلوّن بلونها. حتى الحلول المقترحة لتجاوزها تُبثّ بلغةٍ، لكنها تستوعَب من جانب المصابين بالعدوى بلغتهم. فيجري تحويل السلم الأهلي مثلاً إلى تعايش بين الطوائف، والمساواة إلى محاصصة، وفي أفضل الحالات إلى طائفية توافقية.
والتوافقية تعددية هوية، كما أنها تمثّل حماية من الاستبداد، وتحوي مجموعة آليات رقابة وموازنة. لكنها ليست ديموقراطية بالمعنى الحديث، أي ليست ديموقراطية ليبرالية قائمة على المواطنة. لأنها تُنصّب فوق الأمة وفوق المواطنة جماعات هوية مسيّسة، وتفقد المواطنة الفردية معناها في هذه الحالة، كما يفقد التنافس الديموقراطي معناه ويتحوّل من تنافس برامج شاملة لمجمل مصالح الوطن، إلى تنافس داخل كل طائفة أو مذهب على مَن يمثّلها في مقابل الطوائف الأخرى عند تقاسم الكعكة الوطنية.
وعندما تُطرَح مواقف تمثّل مصالح مفترضة لكل جماعة هوية كما تمثلها نخبها، لا ينشأ بينها تنافس أو حوار، بل إمّا صراع نفوذ أو توافق من نوع المحاصصة، إذ ليس هناك أرضية مشتركة للتنافس، فهي لا تمثّل مواقف من الموضوع نفسه، لكي تتنافس فيما بينها، بل هي تمثل أصلاً هويات جزئية مختلفة.
وقد تطوّر الفكر الديموقراطي، وحتى الليبرالي منه، بحيث بات يعترف بجماعات هوية ذات حقوق جماعية وإدارات ذاتية وغيرها، ويشمل ذلك الطوائف والمذاهب وغيرها. ولكن هذه لا تقوم على مستوى الديموقراطية الأكثرية القائمة على المواطنة، بل على مستوى آخر بعدما أُرسيت المواطنة الفردية وحقوقها كأساس، ويرى أن الحقوق الجماعية مشتقّة من حقوق المواطن الفرد، الذي ينتمي إلى جماعة وهوية. وهذه لا تتوافق في عملية حكم، بل يمْنَحها الحكم ودستوره الديموقراطي كحقوق إدارية جماعية. وهذه حقوق مدنية لا علاقة لها بحسم مسألة السلطة.

دروس عراقيّة

مصيبة أن يستنتج ديموقراطيّون عرب من التجربة العراقية ضرورة اتّباع النظام التوافقي، لأن هذه التجربة أثبتت أن ولاء العربي هو أوّلاً للجماعة العضوية المباشرة، ولأنّه في أي انتخابات ديموقراطية سوف يقرّر أن يصوّت بموجب الانتماء وجماعة الهوية. وهذا طبعاً لا يؤسّس لنظام سياسي حزبي نسبي. كما أنه يحوّل الأكثرية إلى أكثرية طائفية أو مذهبية أو عشائرية، أو إلى تحالف جماعات يحرم جماعات أخرى إلى الأبد المشاركة في الحكم، فيحوّلها في الواقع، أو في تصورها للواقع، أو في كليهما، إلى أقليات مضطهدة.
لكن التجربة العراقية هي تجربة في دكّ دولة من الخارج ومواجهة مباشرة بين المحتل الأجنبي والمجتمع العاري من الدولة (ومن حركة تحرّر). والمجتمع المجرّد أو المتجرّد من الدولة لا ينتج ديموقراطية ولا مواطنة ولا مجتمعاً مدنياً، بل ينتج «حرب الكل ضد الكل»، وجماعات مباشرة أوليّة عضوية يحتمي بها الأفراد. ولا تثبت هذه التجربة عدم إمكان بناء الديموقراطية على أساس المواطنة، بل يثبت أن الدولة العربية لم تنجز مهمة بناء الأمة الوطنية. وهي لم تنجح في بناء أمة لا على أساس قومية محلية إثنية بديلة للقومية العربية، ولا على أساس المواطنة المشتركة في الدولة.
كما تثبت هذه التجربة أن الاحتلال من الخارج تحت شعار الديموقراطية وفي عملية تصادم مع عملية بناء الأمة لا ينتج ديموقراطية.
والتخلّي عن القومية العربية القائمة في وجدان الناس وثقافتهم ومتخيّلهم واهتماماتهم كانتماء عربي واهتمام بالشأن العربي ارتياحاً أو تذمّراً، هو تخلٍّ عن طاقة وحدوية علمانية حداثية من الدرجة الأولى. ولا معنى للنقاش هنا، هل فهمنا للقومية العربية ماهوي أم غير ماهوي؟ فكل هوية هي هوية مصنوعة ومتشكّلة، وهي ماهوية في مرحلة معينة قبل أن تتغيّر ويُعاد تشكيلها.
السؤالان الأهم هما: أولاً، هل يجري تبني القومية كأيديولوجيا تقدّم حلولاً، من نوع: العروبة هي الحلّ على نمط الإسلام هو الحل؟ وهذا هو التوجّه الذي فشل، لأنه قام كردّ فعل أيديولوجي على واقع التجزئة. القومية العربية هوية حداثية تشمل تسييساً للانتماء الثقافي، وتمثّل جماعة متخيّلة مثل كلّ القوميات الحديثة. ولكنها كأيديولوجيا تقع في خطر الفكر الشمولي مثل أيديولوجيات قومية أخرى، تحوّل القومية إلى مجرد هوية وتعفي نفسها من تقديم أفكار وبرامج سياسيّة اقتصادية واجتماعية للدول العربية القائمة. يمكن أن يكون القومي العربي ديموقراطياً أو فاشياً، يسارياً أو يمينياً، ولا تعفيه القومية من اتخاذ موقف في قضايا البلد الاجتماعية والمشاكل التي تشغل المواطنين. وثانياً، هل تفسح القومية المجال بعد تثبيت قومية الأغلبية في الدولة لأن تكون المواطنة أساس العلاقة مع الدولة، أي هل تسمح بالفصل بين الانتماء للقومية والانتماء للدولة.
لقد سبق أن جّرُؤْنا على استخدام عبارة الفصل بين القومية والدولة، والدولة / الأمّة، على نمط الفصل بين الدين والدولة، كمقدّمة ضرورية لقيام دولة المواطنين الديموقراطية. (ذكرنا ذلك قبل أكثر من عشر سنوات وبحثناه بتوسّع في كتاب المجتمع المدني ـــــ دراسة نقدية، كما لجأنا إلى الفصل بين أمة المواطنين والقومية، واستخدمناه أيضاً في نقد الصهيونية الكولونيالية).
ولكن هذه العبارة وهذه التعريفات ليست ما قبل قومية تسهم في تفتيت المجتمع إلى طوائف وعشائر تتصارع وتتوافق، بل هي ما بعد قومية، أي تُبنى على مساهمة القومية التاريخية في تثبيت وحدة الأكثرية في الدولة ممّا يسمح بتعددية مواقف (لا هويات) ديموقراطية فعلية داخلها، وتوسّع مفهوم الأمة حال قيام الدولة ليشمل كل المواطنين بغض النظر عن قوميتهم ما دامت تحقّق حق تقرير المصير
للقومية.
إنّ مَن يتنازل عن القومية العربية بحجة أنها هوية أخرى مثل الهوية المذهبية والطائفية وغيرها مدّعياً أنها يجب أن تُفصل عن الدولة مثل الهوية الطائفية والمذهبية والعشائرية، لا يميّز حداثية القومية، ولا يرى أنها جماعة يمكن تخيّلها بأدوات الحداثة. فهي ليست جماعة هوية مباشرة. وهو بتحييدها يحرم صيرورة التطور عنصراً أساسياً في تكوّن الدولة الحديثة، ومرحلةً هامة في عملية بناء الأمة، وصولاً إلى فصل القومية عن الدولة في أمة المواطنين.


* جزء من ورقة قُدّمَت في مؤتمر «تجديد الفكر القومي»
الذي يُختَتَم يوم السبت المقبل في دمشق