عصام نعمان *كلام كثير ضدّ إيران يجري به لسان جورج بوش هذه الأيام. بعضه يحمل معنى التهديد، وبعضه الآخر يحمل معنى التهويل. بعضه هادف، فيما بعضه الآخر للتسلية ليس إلا.
كلام التهديد تفوّه به بوش يوم الخميس الماضي، فكان الأقسى له حيال الجمهورية الإسلامية. قال إن تنظيم «القاعدة» وطهران «يُعدّان من أخطر التهديدات التي تحدق بالولايات المتحدة». حذّر من أنّه لن يتردد في اللجوء إلى القوة إذا ما واصلت إيران تدخلها.
أين تتدخّل إيران؟ في مناطق متعدّدة. لكن تدخلها الأخطر يبقى في العراق. هذا ما استخلصه بوش من شهادتي سفيره في بغداد ريان كروكر وقائد قواته في العراق ديفيد بيترايوس أمام الكونغرس.
مساواة إيران بـ«القاعدة» قرعت ناقوس الخطر. «القاعدة» تنظيم إرهابي، فهل إيران دولة إرهابية؟ إذا كانت كذلك، فهل تشملها حرب بوش المستعرة على الإرهاب؟
شعر شاغل البيت الأبيض أن كلامه القاسي شغل الأميركيين أو كاد عن معركة الرئاسة وعن هاجس الأزمة الاقتصادية، وفتح باب الشائعات على مصراعيه. فكان أن أوعز إلى مساعديه بأن يرتّبوا له على عجل، نهاية الأسبوع، مقابلةً مع شبكة «أي بي سي» للتلفزيون. فيها سارع إلى طمأنة مشاهديه بأنه لا ينوي مهاجمة إيران: «لطالما قلت إن كل الخيارات مطروحة على الطاولة، لكن جهدي الأول ينصبّ على حل القضية دبلوماسياً». يُسأل: «إذاً، هي شائعة»؟ يجيب: «أنا أضحك في قرارة نفسي لأن هذه الشائعات تحصل دائماً... لا أقول إنها مسلّية، لكنها جزء من مهماتي على ما أظن».
لم يفهم المشاهدون ما كان يعنيه بالضبط. هل من مهماته التسلّي بإطلاق الشائعات أم بتكذيبها؟ لا يهم. المهم أن الحرب، حسبما يدّعي، ليست خياره الأول بل الدبلوماسية. حسناً، ماذا عن خياره الثاني؟ لم يجب صراحةً وإن كان قال دائماً «إن كل الخيارات مطروحة على الطاولة».
ما لم يقله بوش كان قد وشى به قبل أيام صحافي إسرائيلي معروف في صحيفة «معـاريف»، إذ استعرض عوفر شيلح زيارة المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل لإسرائيل، وبعدها زيارة نائب الرئيس الأميركي ديك تشيني، والتشويشات الغربية للبث الفضائي في المنطقة، ثم تسخين الوضع مع سوريا، وتساءل عن ارتباط ذلك مع إقالة قائد القيادة الأميركية الوسطى الجنرال وليم فالون، المعروف بمعارضته للحرب ضدّ إيران، وإرسال حاملة الطائرات «ابراهام لنكولن» إلى الخليج، ليستنتج أن هناك من يربط بينها جميعاً.
أكثر من ذلك، كشف شيلح عن «مفاجأة أكتوبر» التي تهامس بها القريبون من صنّاع القرار في إسرائيل. أوضح أنّ «مفاجأة أكتوبر» هي تلك التي يُقدم عليها الرؤساء الأميركيون قبل انتهاء ولايتهم، وهي قد تعني هذه المرة أنه «عشية رحيل رئيس فاشل ترك وراءه حرباً خادعة وأزمة اقتصادية، يقرر (بوش) في هذه اللحظة تغيير هذه الصورة برمشة عين، مهاجماً المنشآت النووية الإيرانية ومخلّصاً إسرائيل والعالم».
هل يعقل أن يفعلها بوش هكذا برمشة عين؟ كلا، ليس بالضرورة. يقولها محللون آخرون ممن يذهبون مذهب عوفر شيلح، ويكشفون أو يقترحون سيناريو آخر أكثر إغراءً لبوش لأنه يوفّر له الذريعة المناسبة لإقناع الأميركيين بشن الحرب على إيران. يقولون إنّ السيناريو يبدأ بهجمة اختراقية للجيش الإسرائيلي على غزة، مشفوعةً بهجمة أخرى على المقاومة (حزب الله) في لبنان تسلك مسار وادي البقاع الجنوبي، خاصرة سوريا الغربية، في محاولة جريئة ومكثّفة للوصول إلى طريق بيروت ـــــ دمشق الأمر الذي يستفزّ دمشق ويدفعها إلى دخول المعركة بقواتها وخوضها على أرض لبنان. إلى ذلك، تستشعر طهران أن كثافة الهجوم الإسرائيلي، براً وجواً وبحراً، يحمل نُذُرَ سحق سوريا وإخراجها نهائياً من حومة الصراع، فتبادر إلى نجدتها، إعمالاً للتحالف الاستراتيجي القائم بينهما، بقصف إسرائيل بصواريخ بعيدة المدى ومدمّرة، ما يوفّر للرئيس الأميركي الذريعة اللازمة أمام الأميركيين والفرصة المناسبة لتسديد ضربة خاطفة لإيران، كفيلة بتدمير بنيتها العسكرية وقاعدتها الصناعية وما تيسّر من منشآتها النووية على نحوٍ يعيدها عشر سنوات إلى الوراء.
الأمر ليس طبعاً بهذه البساطة، وتنفيذه لن يبدأ، في رأي محلّلين استراتيجيين أميركيين، إلا بعد أن يضمن بوش سلفاً تحقيق ثلاث مهام رئيسية:
ـــ الفراغ من تثبيت السيناتور جون ماكين مرشحاً للحزب الجمهوري في مؤتمره الوطني، واقتناع أركان الجمهوريين، بمن فيهم ماكين، بجدوى شنّ الحرب على إيران وعدم تأثيرها سلباً على حظوظ مرشحهم الرئاسي وسائر مرشحيهم للكونغرس.
ـــ اختيار السيناتور باراك أوباما مرشّحاً رئاسياً للحزب الديموقراطي في مؤتمره الوطني، لأن من شأن تكريس ترشيحه تسهيل مهمة الديموقراطيين في استغلال عنصرية الناخبين البيض ضدّ المرشح الأسود، واستغلال انتماء أبيه المرجّح إلى دين الإسلام للنيل منه بين الناخبين المسيحيين المتطرفين، واستغلال واقعة خبرته المحدودة في الحكم لترجيح اختيار ماكين المجرّب وذي الخبرة والممارسة الناجحة للسلطة.
ـــ التأكد من أنّه في مقدور القوات الأميركية المتقدمة تكنولوجياً وصاروخياً ضرب منصات إطلاق الصواريخ الإيرانية والسورية بغية شلّ قدرات العدو العسكرية قبل اندلاع الحرب.
في هذه الأثناء لا تكفّ إسرائيل عن تضخيم خطر «إيران النووية». وزيرة خارجيتها تسيبي ليفني استغلّت مشاركتها في «منتدى الدوحة الثامن للديموقراطية والتنمية والتجارة الحرة» لتدلي بحديث صحافي دعت فيه لحشد توافق بين الدول العربية ضدّ طموحات إيران النووية التي «تمثل تهديداً للمنطقة والعالم، ولا يمكننا قبول إيران مسلحة نووياً»...
أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية ذهبت إلى أبعد من ذلك. أشاعت بأن هناك خطراً آخر غير تطوير إيران قدراتها على تخصيب اليورانيوم هو احتمال أن تكون قد سارت أيضاً في طريق تطوير قنبلة نووية بطريقة إنتاج وتخصيب البلوتونيوم. بل ثمة إشاعة أعظم وقعاً مفادها أن إيران نجحت في «شراء» قنبلة نووية من كوريا الشمالية!
في إطار حملة التحريض على إيران، أعلنت إسرائيل اعتزامها إجراء مناورة لبطاريات صواريخ «حيتس» ضد صاروخ يشبه الصاروخ الإيراني «شهاب 3» بغية اكتشاف وتدمير هذا الصاروخ المتقدم الذي يمتلك قدرة التحايل على الرادارات.
مجمل هذه التحركات والمناورات والإشارات يوحي بوجود مخطط أميركي ـــــ صهيوني مضمر للنيل من إيران، وربما من سوريا أيضاً. فإسرائيل يقلقها البرنامج النووي الإيراني، لكن يقلقها أكثر وجود إيران استراتيجياً في الوقت الحاضر على «حدودها» من خلال حلفائها الإقليميّين: حركة «حماس» في قطاع غزة، وحزب الله في لبنان، ونظام البعث في سوريا المتحالف معها سياسياً وعسكرياً. مع ذلك، فإن احتمال لجوء الولايات المتحدة وإسرائيل إلى القوة لتصفية الحساب مع إيران وسوريا وقوى المقاومة يبقى ملجوماً باعتبارين بالغي الدلالة:
الأوّل، احتمال وجود أسلحة متطورة أو فتّاكة لدى محور طهران ـــ دمشق ـــ المقاومة يمثّل مفاجأة استراتيجية لأعدائه وقد يؤدي إلى تغيير وجهة الحرب ومصير المنطقة، وبالتالي يفضي إلـى طرد الولايات المتحدة منها في المدى القصير أو المتوسط.
في هذا السياق، يجري الحديث عن احتمال امتلاك إيران «القنبلة القذرة»، وهي سلاح غير نووي، لكنّ له تأثيراً مشابهاً من حيث إحداث جو صاعق من الغبار والظلام والترويع والاضطراب والشلل، ما يساعد قوى المقاومة المتربصة على اختراق جبهة إسرائيل الداخلية وإلحاق أذى بالغ بها، بشرياً ومادياً.
الثاني، أرجحية صعود معارضة داخلية أميركية واسعة لخيار الحرب ضد إيران، ما يحمل إدارة بوش على التراجع عن شنّها، وخاصة أنّها ما زالت تعاني اقتصادياً، وبالتالي سياسياً، من تداعيات إنفاق لا سابق له في حروب إقليمية مشابهة، إذ بلغت نفقات الحرب في العراق أكثر من 3 تريليونات دولار. هكذا، تترجح الاحتمالات بين «مفاجأة أكتوبر» ومفاجأة «القنبلة القذرة»، أو بين أن تكون سياسة بوش تهديداً ضمنياً بالحرب أو تهويلاً مكشوفاً بها بقصد دفع اللاعبين الرئيسيين إلى حوار جدّي بينهم يفضي إلى تسويات أو تراجعات مقبولة في ساحات فلسطين ولبنان والعراق.

* وزير سابق