معتصم حمادة *أظهرت الزيارة الأخيرة لرايس إلى المنطقة (29 ـــ 30/3/2008) ـــ من دون أن تتقصد ذلك ـــ حجم المأزق الذي يعانيه المفاوض الفلسطيني. فرداً على تصريح لوزيرة الخارجية الأميركية بأن الاستيطان يعيق تقدم المفاوضات، أعلنت تل أبيب عن عشرات الآلاف من الشقق السكنية الجديدة، المنوي بناؤها في القدس الشرقية المحتلة، وفي محيطها، وفي أنحاء مختلفة من الضفة الفلسطينية، في اجتياح استيطاني للأرض المحتلة غير مسبوق، ما وضع المفاوض الفلسطيني في موقف شديد الحرج، فلم يجد ما يردّ به على القرارات الاستيطانية الإسرائيلية هذه، سوى الاستنجاد بالولايات المتحدة، في مراهنة خاسرة (مرة أخرى) على دور محايد مزعوم لواشنطن في رعايتها للمفاوضات.
ولعلّ المفاوض الفلسطيني نسي (أو تناسى) أن الرئيس بوش، في رسالته الشهيرة إلى شارون في 14/4/2004، اعترف لإسرائيل بـ«حقها» في ضم الكتل الاستيطانية الكبرى، في أية تسوية مقبلة، بذريعة التسليم بالأمر الواقع. وقد جاء جدار الفصل والضم الإسرائيلي (الفصل بين الفلسطيني وأرضه... وضم هذه الأرض لإسرائيل) لينفذ ما جاء في رسالة بوش.
وقد يبدو للوهلة الأولى أنّ أحد تجليات مأزق المفاوض الفلسطيني، أنه ربط أخيراً بين وقف الاستيطان واستئناف العملية التفاوضية. غير أن «يديعوت أحرونوت» كشفت في 30/3/2008 أن هذا الربط ما كان إلا ذراً للرماد في العيون، واستجابة لفظية لضغوط الرأي العام بعد أن بات واضحاً أن المفاوضات صارت تمثّل غطاءً سياسياً للتوسع الاستيطاني الإسرائيلي، وكشفت أن المتفاوضين الفلسطينيين والإسرائيليين لجأوا (مرة أخرى) إلى السرية في أعمالهم، وأنهم عقدوا في هذا السياق حوالى خمسين لقاءً بعيداً عن الأعين منذ نهاية تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، وأنهم استحدثوا خمسة مستويات تفاوضية، كل منها يتناول جانباً من القضايا موضع البحث.
وأوضحت الصحيفة العبرية أن اللجوء إلى السرية جاء استجابة لطلب فلسطيني، ليتحرر من ضغوط الرأي العام عليه، والتفلت من رقابة الهيئات المعنية، كاللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية التي تؤكد مصادرها الموثوقة أنها لا تتلقى تقارير عن سير العملية التفاوضية، إلا ما يكشف عنه في الصحف ووسائل الإعلام الأخرى.
لكن حقيقة المأزق التفاوضي الفلسطيني، تكمن، برأينا، في أن القيادة السياسية الرسمية في رام الله، خلطت بين خيار السلام وخيار المفاوضات، وعدّتهما خياراً واحداً، وكأن المفاوضات هي السبيل الوحيد إلى السلام، علماً بأن تجارب الشعوب تؤكد أن ثمة أكثر من طريق للوصول إلى السلام. فنظرة إلى التجارب العربية (على سبيل المثال) كالجزائر، وتونس، والمغرب، واليمن الجنوبي، توضح أنها سلكت طريق المفاوضات لنيل استقلالها ولتنعم بالسلام، لكنها تمسكت في الوقت نفسه بحقها في مقاتلة الاستعمار، حتى في ظل المفاوضات؛ في إطار عملية متكاملة، يدعم فيها الكفاح المسلح العملية التفاوضية، وتفتح هذه بدورها للكفاح المسلح أفقاً سياسياً.
وكانت حركات التحرر في الدول المذكورة أعلاه، تربط بين الأسلوبين، بحيث يتصاعد الكفاح كلما دخلت المفاوضات وضعاً حرجاً، فيتحول القتال عندئذ إلى أداة ضغط على الجانب الآخر، الأمر الذي يدفعه إلى إعادة النظر بمواقفه. فالمفاوضات، كما هو معروف، لا تعتمد على المهارة اللفظية، ولا تستند إلى الحق القانوني فحسب، بل هي أولاً وقبل كل شيء، تعبير عن ميزان قوى بين الأطراف المتفاوضة، يحاول خلالها كل طرف أن يمسك بأكبر عدد من أوراق القوة التي تعزز من قدرته على تحسين موقعه التفاوضي، وفرض شروطه على الطرف الآخر. هذه السياسة أتبعها الإسرائيليون أنفسهم ضد الفلسطينيين حتى بعد توقيع اتفاق أوسلو؛ حين اعتمد رئيس الوزراء الأسبق رابين معادلة قال فيها: «نحارب الإرهاب (أي الانتفاضة والمقاومة المسلحة في المناطق الفلسطينية المحتلة) وكأنه ليست هناك مفاوضات. ونواصل المفاوضات وكأنه ليست هناك حرب مع الإرهاب».
مأزق القيادة السياسية الرسمية في رام الله أنها تخلّت علناً عن الكفاح المسلح ضد الاحتلال الإسرائيلي، وعدّته شكلاً من أشكال الإرهاب، لم تتورع عن إدانته في تصريحاتها اليومية، وعدّته مصدراً للضرر بالمصالح الوطنية الفلسطينية. في الوقت نفسه، لم تقم وزناً للفعل الشعبي في مواجهة الاحتلال. فبعد شعار «رفض عسكرة الانتفاضة»، عملت على إفراغ الانتفاضة من مضمونها، بأساليب وإجراءات مختلفة، في مراهنة بائسة على أن المفاوضات هي السبيل الوحيد للسلام مع الجانب الإسرائيلي، تحت سقف خطة خارطة الطريق، ورؤية بوش للدولتين ومبادرة السلام العربية. لكنها أسقطت، في الوقت نفسه، من اعتباراتها أنه ليس هناك تعريف واحد لخطة الطريق أو لرؤية بوش أو لمبادرة السلام العربية. فللإسرائيليين «نسختهم» الخاصة من خطة الطريق، هي التي أدخل عليها شارون تحفظاته المعروفة، وصادقت عليها الولايات المتحدة. وما يحصل الآن من توسيع علني للمستوطنات، إنما هو تطبيق عملي «لفهم» إسرائيل لهذه الخطة. أمّا مفهوم الدولتين، فإن الإسرائيليين لا يساوون بين دولتهم والدولة الفلسطينية، التي يفترض بها ـــ حسب رؤيتهم ـــ أن تقوم وفقاً لاشتراطات ومتطلبات أمنية واقتصادية وسياسية إسرائيلية، تفرغ مفهوم الاستقلال والسيادة من مضمونهما، فتتحول «الدولة» الفلسطينية إلى كيان بإدارة ذاتية موسعة، تحفظ المصالح الإسرائيلية وتصونها، وتنوب عن الاحتلال الإسرائيلي في تحمل أعباء إدارة الشأن العام للسكان الفلسطينيين.
وعند الحديث عن مبادرة السلام العربية، فإن الإسرائيليين لا يقرأون فيها إلا الجانب الخاص بتطبيع العلاقات بينها وبين الدول العربية. وبناءً على هذا كله، تحولت المفاوضات، منذ لحظتها الأولى، إلى سلسلة من المتاهات والأحجيات، والتعقيدات التي وجد المفاوض الفلسطيني نفسه إزاءها فاقد القدرة على التأثير، وبالتالي وجد نفسه أمام خيارين شديدي التعقيد:
ـــ الأول أن يستمرّ في المفاوضات، في ظل توسيع جنوني للاستيطان، وتصاعد يومي للعدوان الإسرائيلي، فتفقد العملية التفاوضية ما تبقى لها من ثقة في عيون الفلسطينيين؛ ولا تحقق لهم أهدافهم الوطنية، وتنتج كارثة سياسية جديدة.
ـــ الثاني أن يتراجع عن العملية التفاوضية في الوقت الذي تخلو فيه جعبته من أية خيارات أخرى، فيفقد مشروعيته السياسية التي بناها على اعتماد المفاوضات خياراً وحيداً؛ ويفتح الباب للفوضى السياسية تجتاح الحالة الفلسطينية، خاصة في وضع انقسامي خطير، يمثّل للقيادة السياسية الرسمية في رام الله تحدياً تاريخياً.
لقد تعامى المفاوض الفلسطيني عن التجارب التي صنعتها الشعوب، ومن بينها المعادلة القائمة بأن من لا يجيد القتال لن يجيد المفاوضات، وبأن من يسقط خيار القتال من حساباته، يخسر المفاوضات حتى قبل أن يخوضها. فهل تستدرك القيادة الفلسطينية الرسمية الأمر قبل فوات الأوان، وتعيد النظر في استراتيجيتها لصالح استراتيجية بديلة، أم إنها باتت أسيرة مواقفها وفقدت القدرة على التراجع، كما فقدت القدرة على السير إلى الأمام؟
* عضو المكتب السياسي للجبهة الديموقراطيّة لتحرير فلسطين