ياسين تملالي *سبع سنوات مضت على «انتفاضة الربيع الأسود» التي قُتل فيها في المنطقة القبائلية (الناطقة بالأمازيغية) ما يناهز مئة وعشرين متظاهراً. واليوم في ذكراها وذكرى ما تلاها من اضطرابات دامت قرابة سنتين، لا يزال البعض يتحدث عنها كانتفاضة «إثنية»، كثورة «القبائليّين ضدّ الحكم المركزي»، ضاربين عرض الحائط ببعدها الاجتماعي الصارخ، وأكثرهم مبالغة في ذلك فرحات مهني رئيس «حركة الاستقلال الذاتي القبائلي».
وعلى رأي فرحات مهني في حوار صحافي منشور على www.kabyle.com، فإن «الربيع الأسود» قرع أجراس انتماء المنطقة سياسياً إلى الجزائر، وفتح مرحلة جديدة في «معركتها ضدّ السلطة»: مرحلة «الكفاح من أجل الحكم الذاتي». ولا حجة له على ذلك سوى الزعم بأن باقي الجزائريين (سواء «عرباً» كانوا أم «أمازيغ») تركوا القبائليين وحدهم في مواجهة آلة الحكومة القمعية، وأن القبائليين أكثر وعياً والتزاماً سياسياً من باقي مواطنيهم! هكذا إذاً، يواصل المغنّي المبدع، والسياسي المبتدئ، دعوته إلى انسحاب أهالي بجاية والبويرة وتيزي أوزو، لا من الأمة الجزائرية فحسب، بل كذلك من مجموع إخوانهم الأمازيغ!
وليست البراهين على خطأ هذا الموقف بالنادرة. وأبرزها أن جهات البلاد الأخرى (سواء منها الناطقة بالعربية أو الأمازيغية) عرفت، وما زالت تعرف إلى اليوم، انتفاضات مماثلة قوبلت هي أيضاً بالقمع والاعتقالات والمحاكمات الجائرة. أضف إلى ذلك أنه لا شهادة واحدة تفيد بأن القبائليين الغاضبين وضعوا رهن التساؤل انتماءهم إلى الوطن الجزائري. بالعكس، فكل تصريحاتهم لوسائل الإعلام، وما أكثرها في تلك الفترة، تفيد بأنهم ثاروا على مظالم «قوات الأمن»، وطالبوا بنصيبهم مما تحفل به خزائن الدولة من ثروات لا يفيد منها سوى النظام وزبائنه المقربين.
ويمكن القول إنّ مزاعم فرحات مهني تشويه للأحداث في حدّ ذاتها، وقفز على طابعها المعقّد، وأنها، في النهاية، لا تختلف عما روّجت له بعض وسائل الإعلام الغربية بهدف تصوير الجزائر على أنها «أرض لشعبين» متقاتلين: العرب والأمازيغ، أي تحديداً كما صوّرها لأنفسهم روّاد الاستعمار. ومثلما ردّ الأمازيغ على سياسة «فرّق تسد» الاستعمارية بتصدرهم الحركة الوطنية المطالبة بالاستقلال، فقد ردّ شباب «الربيع الأسود» على فرحات مهني في حينه بالإلحاح على انتمائهم الوطني، وحمل العلم الجزائري في التظاهرات والاعتصامات.
والحقيقة أنّ ما سوّل للبعض وصف أحداث نيسان / أبريل 2001 بـ«الانتفاضة الإثنية» فلا يعدو وقوعها في منطقة ناطقة بغير العربية، ومطالبة لوائحها بالاعتراف الدستوري بالأمازيغية. لا شيء آخر يوحي بأن الشباب الغاضب كان يرى النظام «إثنياً عربياً»، فالقبائليون يعرفون أن الكثير من قادة الجيش والاستعلامات العسكرية والوزراء ورؤساء الحكومة منذ الاستقلال، ينحدرون من منطقتهم. وبالطبع، فقد خشيت السلطة أن تنتقل عدوى الاحتجاج إلى ولايات أخرى، فألحّت على بعض مطالب الحركة دون غيرها، وكلّفت أبواقها بالتلميح إلى طابعها الانفصالي.
لنسأل: من كان المحتجّون؟ لم يكونوا على الأقل في البداية، عمّالاً ولا طلبة جامعيين ولا مثقفين. كانوا شباباً عاطلاً لفظته مقاعد الدراسة وطلبة مدارس اقتنعوا بأن لا مستقبل لهم غير البطالة في بلد يزداد فيه الأغنياء غنى والفقراء فقراً. لم يكونوا من اللامبالين بالاعتراف بثقافتهم، إلا أن الاعتراف بها لم يكن هدفهم الوحيد، ولا الأساسي، ولا أدل على ذلك من أن الاحتجاجات تواصلت بالحدة نفسها بعد تعديل الدستور، بما يجعل اللغة الأمازيغية لغة وطنية. ذلك أن «اللغة لا تطعم خبزاً»، كما قال أحد المتظاهرين للصحافة، فضلاً عن أن «دسترتها» لا تمنع قوات الدرك من البطش بسكان منطقة لم ينجح الحكم القائم في استمالتها، وإن استمال بعض نخبها بالتصدق عليها ببعض المناصب الوزارية وغير الوزارية.
ما كانت مطالب المتظاهرين في 2001؟ الكثير منها كانت اقتصادية واجتماعية بحتة، كإنشاء مشاريع تنموية في المنطقة، وفك عزلة القرى النائية، وتوفير فرص العمل، وصرف منح بطالة للعاطلين، وهي إلى اليوم مطالب تحركات الشباب العفوية في مدن أخرى، بما فيها مدن الجنوب النائية. من هذا المنظور، لم يكن الشبان القبائليون أكثر من طليعة راديكالية لملايين من الجزائريين يعيشون تحت خط الفقر، و30 في المئة من العاطلين عن العمل، و70 في المئة من ضحايا التسرّب المدرسي، حسب إحصائيات بداية العشرية الحالية. ولم يكن صوتهم سوى صوت كل المحرومين من اغتناء الدولة الفاحش، بفضل ارتفاع أسعار النفط لا بفضل حكمة الحاكمين.
أجل، طالب المتظاهرون بطرد قوات الدرك من منطقتهم (وفعلاً أجبروا الحكومة على إغلاق العديد من الثكنات التي أعيد افتتاحها أخيراً)، إلا أنهم، عكس ما يذهب إليه فرحات مهني، وعكس ما ألمحت إليه السلطة بخبث كبير، لم يفعلوا ذلك لمجرد أنهم «أمازيغ» لا يريدون عرباً في جوارهم. وهنا يحق السؤال: هل الدرك «قوة قمع عربية ـــ إسلامية» بحتة؟ وهل رئيس الحكومة آنذاك، بن فليس، بالأساس «عربي»؟
لم يكن من مصلحة النظام، ولا من مصلحة فرحات مهني، الاعتراف بأن «الربيع الأسود» ثورة اجتماعية ألقت إلى الشارع بعشرات الآلاف من الشباب المهمَّش المحروم، وأنها جديرة بأن يُنظر إليها، لا كامتداد لاحتجاجات «قبائلية» سابقة فحسب (نيسان/أبريل 1980، إضراب المدارس في 1994 ـــ 1995)، بل أيضاً كحلقة من مسلسل الحركات الاجتماعية الجزائرية، بما يميزها منذ عقدين من انتقال مركز ثقلها من العمال والحركات الطلابية إلى شرائح لا اندماج لها في نظام الإنتاج، ولا أمل لها في الاندماج فيه في ظل سياسة الحكم الليبرالية.
لا ينفي أحد إذاً خصوصية المنطقة وتفرد بعض مطالبها، إلا أن الاضطهاد الثقافي الذي عانت منه لمدة طويلة لم ينتج لحسن الحظ سوى أقلية قليلة تمقت النظام «لأنه عربي ـــ إسلامي»، فمعظم نشطاء المعارضة القبائليين، بالرغم ممّا قد يُعاب على بعضهم، يمقتونه لأسباب أكثر وجاهة، ولا ينشدون الديموقراطيّة أو العدالة أو الحرية لأهاليهم دون باقي الجزائريين. وقد كان فرحات مهني أحدهم قبل أن يختار لعب ورقة التدخل الأجنبي ويستجدي، لـ«حماية الأقلية القبائلية»، البرلمان الأوروبي وحلف شمال الأطلسي.
* صحافي جزائري