فايز فارسالغلاء وحش مفترس غدّار بامتياز، وله أنياب قاطعة ومخالب جارحة. من أجله أطلق علماء الاقتصاد مبادئ وقوانين تحدّ من شراسته وغدره، وتمنعه من مفاجأة الناس. لذا اعتدنا رؤيته يطلّ برأسه من حين إلى آخر، فيقضم قرشاً أبيض احتفظنا به لمواجهة يوم أسود، أو يدفعنا إلى التخلّي نهائيّاً عن اقتناء بعض ما نملك من أشياء أحببناها، أو يحرمنا شراء حاجة ثانوية اعتدنا استهلاكها في زمن عمّت فيه الحملات الدعائية التي تطاردنا دون هوادة، وكيفما اتجهنا، ومهما فعلنا وقاومنا.
لكن أن نرى وحش الغلاء وقد كسر سلاسله وانطلق من دون أي رادع في كلّ الاتجاهات، وطال كلّ مرافق حياتنا اليومية، مأكلاً وملبساً ومسكناً وطبابة وتعليماً وتنقّلاً بين مسكن ومعمل أو مكتب... فهذا أمر خطير يفرض على الجميع، رؤساء ومرؤوسين، التوقف عنده ومعالجته قبل أن يقضي على يباس الناس وأخضرهم.
وهذا ممكن في بلد يعيش أهله حياة طبيعية. أمّا في لبنان، فالأمر أعظم وأخطر ممّا هو عليه في أي بلد آخر. وذلك لأنّنا أولاً، ومنذ ثلاثة عقود، نفتقر إلى دولة راعية حامية عادلة بكل ما في الكلمة من معنى ومغزى. إذ لم يعبأ يوماً قادة هذا البلد بأمر يتعلق بمصلحة عامة. لا بل أقام أغلبية قادتنا وزعمائنا «دولتهم» بعدما نتفوا ريش شعبهم حتى الجفون، وبخاصة هؤلاء الذين «شفطوا» المال العام بحجّة الدفاع عن حقوق ومصالح «جماعتهم»، على حساب الجماعات الأخرى. فإذا بنا نرى «جماعتهم» قد بقيت على حالها، جائعة تائهة عارية طيلة أيام السنة، لأنهم أعطوها سمكة ليأكلوها في الأمس واليوم، ولم يعلّموها كيف تصطاد السمك لتوفّر قوتها غداً وبعد غدٍ. يلهث سياسيو لبنان من أجل الحصول على وزارة «سياديّة»، كوزارات الداخلية والمالية والدفاع والخارجية، ويرفضون، إذا تيسّر لهم ذلك، القبول بوزارة الزراعة أو السياحة أو التنمية الإدارية والبشريّة أو التعليم المهني على سبيل المثال لا الحصر. وحسبوا أنّ لبنان دولة عظمى تقرّر سياسات دول منتشرة في القارات الخمس، أو دولة إقليمية تتحكّم بمصير دول الجوار المحيطة بها، أو دولة غنية بثرواتها الطبيعية الاستراتيجية، نفطاً وذهباً ومعادن صلبة.
إنّ بلداً مثل لبنان لا يملك سوى إنسانه الطيّب وطبيعته الخلابة وأرضه المعطاءة وتاريخه المؤلّف من عشر طبقات حضارية، ليس أمامه سوى بناء دولة المؤسّسات، عدالة ومساواة، وتعليم إنسانه وتحصينه، والمحافظة على الطبيعة، وزراعة أرضه بكل ما لذّ وطاب، واستقبال الضيوف المحبّين الغيورين، أكانوا إخوة أم أصدقاء. وحتى يتمكن قادته من تحقيق ذلك، كان الأحرى بهم، ومنذ البداية، أن يمارسوا فعلياً سياسة حسن الجوار مع محيطهم، وأن يرفضوا الدخول في لعبة الكبار لمجرّد أن مندوباً سامياً دغدغ مشاعرهم أو سفيراً أطلق لهم وعوداً شخصية.
وبما أن الوضع الحالي لا يتحمّل كثيراً الانتظار لنرى قيام دولة حقيقيّة في لبنان، على المواطن اللبناني أن يبادر إلى اتخاذ قراره، في أقرب فرصة ممكنة، بالعودة إلى الينابيع التي تشفي الغليل والعادات التي تحفظ ما بقي له من كرامة إنسانية... عنيت بها العودة إلى أريافنا وجبالنا وسهولنا وبيوتنا المنسيّة، وأفراحنا البسيطة، من أجل عيش كريم طالما افتقدناه، وكدنا نخسره إلى الأبد، لولا بروز بعض القادة الصادقين الصابرين المؤمنين.