بولس الخوري *درج استعمال لفظة «الأصوليّة» fondamentalisme للدلالة على موقف مجموعات متطرّفة تتوسّل بالدين الإسلاميّ كما يزعمون، لممارسة ما يسمّونه الإرهاب المؤدّي إلى زعزعة الأمن في بعض المناطق، بل في العالم.
بدايةً، ماذا تعني الأصوليّة؟
في المبدأ يميّزون، في معطيات الدين، بين الأصول والفروع. وقد يرادف هذا التمييز، التفريق بين الحرف والروح، أو بين الظاهر والباطن، أو بين نصّ الشريعة ومقاصدها. وقد يطابق هذا التمييز، التمييز بين روح الدين أو جوهره والتعابير المختلفة عنه. فيكون لدينا طلب المطلق ممثّلاً روح الدين، والأنظومة الدينيّة ممثّلةً التعبير عن هذا الطلب. واستناداً إلى هذا التمييز، يمكن القول إنّ طلب المطلق هو هو في أيٍّ من الأديان والثقافات، لكونه هو إيّاه في كلّ إنسان يجهد في تجاوز حدود وضعيّته، أي واقعه البشريّ، لكي يقترب ما أمكن من تحقيق معنى الإنسانيّة المثاليّة في واقعه. إذاً ما كانت الأديان، بما كانت أنظومات عقائد وعبادات وأخلاق ونظم، إلّا تعبيراً عن هذا الطلب الواحد، طلب المطلق. وما اختلفت إلّا لاختلاف الثقافات، أي لاختلاف وسائل التعبير الخاصّة بهذه الثقافة أو تلك. ووسائل التعبير هذه يمكن قصرها على تصوّرات وكلمات بها يتعرّف المجتمع إلى ما عاشه من اختبارات، خبر بها ما يرغب وما يرهب.
فلمّا كان الدين في شكل أنظومة ثقافيّة، صار إلى أن كيّف حياة الناس، فكيّفه الناس وفق حاجاتهم الحياتيّة. ومن حاجات الناس الحياتيّة الأكثر ثباتًا أن يعيشوا وفق نمط العيش الذي تعوّدوه وتميّزت به خصوصيّتهم. وهذا يعني أنّ القيم الدينيّة التي نشأوا عليها صارت هي المكوّنة لما يشعرون بأنّه هويّتهم
الإنسانيّة.
فإذا ما أحسّ الناس في مجتمع ما، أنّ يداً غريبة امتدّت فأصابت هذه الهويّة وكادت أن تستبدل بها غيرها من الهويّات الغريبة، كان ذلك على غرار ما يُعرف في علم النفس بالفعل أو الحافز وردّ الفعل، أو بالكبت والإطلاق. معنى ذلك أنّ التمسّك بالهويّة يشتدّ على قدر طاقة النيل منها. ويحدث ذلك إذا كان هناك صدام عنيف بين هويّتين، بدلاً من أن يكون بينهما تفاعل سلميّ يجعل كلّ واحدة منهما تفيد من الأخرى.
والتاريخ غالباً ما كان تسلسل هجوم ودفاع، محاولة الأقوى افتراس الأضعف تقابلها محاولة الأضعف الصمود والمقاومة في سبيل الوجود. ممّا يعني أنّ الرهان، في المسيرة التي يسمّونها التاريخ، إنّما هو أن تكون أو لا تكون to be or not to be. عندها أمكن التساؤل عمّا قد يميّز عالم الحيوان الناطق من الحيوان غير الناطق، سوى التفنّن في عمليّة الافتراس وفي عمليّة المقاومة. فلا يخفى أنّ الإمبراطوريّات تكوّنت بإخضاع المجتمعات الضعيفة قهراً وكرهاً، حيث ليس أحد من هذه المجتمعات أرسل، فطلب إلى المسيطر أن يجود عليه بمجيئه فيتحكّم في مصيره.
ومن أشكال هذا التفنّن تطويع الدين وإلباسه دور المبرّر للافتراس وللمقاومة بل الجاعل لكلّ منهما فريضة دينيّة من عند الله. فمثلاً، نقرأ في التوراة أنّ الله أمر بني إسرائيل أن يفنوا الأمم القاطنة في «أرض الميعاد» كي تكون لهم هذه الأرض طاهرةً من كلّ نجاسة. وقد يأخذ المسيحيّون على المسلمين قولهم بالجهاد في سبيل الله، وفي المقابل قد يأخذ المسلمون على المسيحيّين حملاتهم الصليبيّة تحت شعار «هكذا يشاء الله» Deus vult.
هكذا في القديم. أمّا الجديد، فيبدو نسخةً طبق الأصل عن القديم. فلدينا دولة إسرائيل العبريّة تكوّنت في الغالب بمصادرة الأرض وطرد السكّان الأصليّين، بل بمحاولة ما يشبه إفناءهم، على غرار ما عانى اليهود أنفسهم من الهمجيّة النازيّة. وكذلك «العالم الغربيّ» يسعى إلى إرساء الديموقراطيّة وحقوق الإنسان والأمم في العالم عنوةً، وإلى الدفاع عنها بقوّة السلاح الأكثر تقدّماً وفتكاً تكنولوجيّاً. وفي مقابل هذا الفعل، لدينا، ردّ للفعل، مقاومةُ «العالم الإسلاميّ». هكذا، بكلّ بساطة، القول بالغرب والإسلام جملةً من دون تفصيل. وهكذا، بكلّ بساطة، القول بالغرب الديموقراطيّ المؤتمن على حقوق الإنسان، وبالإسلام الإرهابيّ السفّاح المنتهك لهذه الحقوق.
لا عجب في ذلك الخلط والخداع والانخداع. فالناس فُطروا على استبدال الأشياء بالكلمات. فكان عندهم ديموقراطيّاً ومدافعاً عن حقوق الإنسان من قتل مليون إنسان جزائريّ ثمناً لمطالبة الجزائريّين باستقلالهم. وكذلك من قدّم مليونين من الفيتناميّين على مذبح الديموقراطيّة وحقوق الإنسان. وكذلك من قتل، حتّى الآن، ما يفوق المليون من العراقيّين، والحبل على الجرّار، إرساءً للديموقراطيّة وحقوق الإنسان. وكذلك من قتل ما تيسّر في أفغانستان دفعاً لإرهاب «القاعدة». والله أعلم بما يحدث في بعض السجون الديموقراطيّة غير الخاضعة لقوانين معاملة المساجين...
ماذا لو عاد الوعي وصار الاعتبار للأشياء دون الكلمات؟ قد تكون الحالات جميعها حالات إرهاب. وقد لا يكون «الإرهابيّ» أشدّ إرهاباً من خصمه. وقد لا يكون للدين ولا للديموقراطيّة وحقوق الإنسان أيّ دخلٍ في أيّ إرهاب. بل الأصحّ أن لا دخل البتّة للدين ولا للديموقراطيّة وحقوق الإنسان بهذه المسرحيّة الدامية. بل قد يكون الخروج من المخادعة ومن المعاناة بإحياء القيم الإنسانيّة التي يختزنها جوهر الدين والأديان والثقافات. ويعني هذا رفع الكبت والإكراه والتسلّط والجشع، أي بمختصر التعبير وقف الإرهاب فعلاً، فيقف الإرهاب ردّاً للفعل. ومتى كانت العودة إلى القيم الإنسانيّة، كانت العودة إلى «الأصول».

* كاتب لبناني