ناهض حتر *الأحد 6 نيسان/ إبريل 2008، أطلّت ليلى مراد من شرفتها، لترى مَن مِن المصريين، دبّت فيه الروح، وصدحت في وجدانه موسيقى الاحتجاج على الفقر والقهر والتهميش والفوضى. حسناً، إنّها محاولة مصرية أخرى للتعبير عن رفض الموت: شباب وشابات اتفقوا، في فضاء الإنترنت، على تنظيم إضراب عام. يا للجرأة التي تعوز أساطين النضال القدامى في حزب «التجمّع» المدعوّ «يسارياًَ»، وشيوخ «الإخوان المسلمين». أولئك اعتبروا الشروط «غير ناضجة»، وهؤلاء تبرأوا من الإضراب والمضربين.
واجهت قوى الأمن ربيع مصر بالاستخدام المفرط للقوة. أغرقت العاصمة بحضورها العنيف، وحالت دون التظاهرات والاعتصامات فيها. لكن في منطقة المحلة العمّالية، كان هناك مشهد أوّل من حرب طبقية. إذاً، فالسياسات الرأسمالية الليبرالية المتوحشة لم تعد ممكنة إلا بالاستخدام الصريح للقوة. ومع ذلك أضرب المصريون! التزموا المنازل في علامة على استعداد مصر للتحرك حين تتوفر القيادة، ولو كانت فتاة مغمورة ناشطة على «الفايس بوك».
هذا يعني ــ شاء أمين «التجمع»، الدكتور رفعت السعيد أو أبى، أن الشرطين الضروريين للثورة قد اختمرا فعلاً في مصر: المجتمع لم يعد قادراً على العيش في ظل نظام لم يعد قادراً على ممارسة السلطة بالقمع الناعم. هل تصحو مصر؟
سؤال تردّده ليلى مراد مسرورةً، وهي تقرأ قصيدة حلمي سالم الذي استعان بالله والأنبياء لئلّا يقع في غرام الجثة، جثة ليلى، جثة الأمس الجميل، حين كانت مصر بلداً متحضراً ومبدعاً للفن والفكر والأدب والموسيقى والحركات التقدمية، تحلم وتبني وتشدّ الفقراء المحترمين ــ فحتى الفقر كان محترماً ــ إلى الأمل. من الواضح، بالطبع أن ميزان القوى بين السلطات والحركة الشعبية ما زال يميل لمصلحة الأولى. غير أن ذلك يبقى على مستوى القوة المجردة لا على مستوى القناعة والشرعية. فعشرات الملايين من الجائعين، ومثلهم من الفقراء والعاطلين، ومئات الآلاف من المثقفين الذين سُدّت في وجوههم سبل المستقبل، بل إمكان العيش الكريم، أصبحوا ينظرون إلى الدولة وأجهزتها باعتبارها أداة في أيدي جماعات «البزنس» التي استفادت من الخصخصة ووكالة المصالح الأجنبية والفساد وتوجيه الموارد لخدمة الأقلية الأولغارشيّة على حساب المجتمع. أي أن الانشقاق الداخلي حدث بالفعل، وسيكون له نتائجه الحتمية. النخب المستفيدة من لبرلة الاقتصاد المصري انتقلت إلى العيش في مدن صغيرة فخمة ونظيفة ومزوّدة بالخدمات، لكنها مغلقة ومنعزلة ومسوّرة ومحاطة بالحماية الأمنية، ما يعني انفصال تلك النخب النهائي عن مجتمعها اليائس، وشطب قضايا هذا المجتمع من جدول الأعمال. إنها علامة أخرى على انغلاق الأفق أمام الإصلاح أو حتى مراجعة الآثار الاجتماعية والثقافية المدمرة للنهج الاقتصادي الليبرالي.
لم يعد في جعبة الفئات الحاكمة في مصر سوى العنف المسلّح. وشعبان عبد الرحيم (شعبولا). ففنان عهد الليبرالية المصرية الجديدة يحضّر، بأوامر عليا، أغنية ضد الإضراب، تشيد بمناقب الرئيس ومحاسن نظامه، وتحمّس البلطجية للصدام مع الحركات الاحتجاجية.
كيف انحدرت مصر من ليلى مراد... إلى شعبولا؟ سؤال مطروح على الوعي التاريخي المصري، وعلى جدول أعمال مجتمع أصبح أمام ضرورة الدفع بنخب جديدة قادرة على إنقاذ البلد من الانحلال. فهل تخرج هذه النخب من صفوف جيل «النت»؟ من يسار جديد مؤلف من مجموعات صغيرة، لكنها متحررة من الوعي الليبرالي الممسوخ والمصالح الصغيرة والتواطؤ مع النظام والتمويل الأجنبي؟ أم هل يملأ ضباط أحرار، موديل 2008، الفراغ؟ أم أنها الفوضى؟
كلّ الاحتمالات ممكنة، إلا البديل الإخواني الذي استقال من العملية التاريخية بإدانته الصريحة للتحرك الاجتماعي في بلد مأزوم اجتماعياً. ولا أظن بأن هذا الموقف سوف يتغير في المستقبل. فالقضية الاجتماعية ليست موجودة على أجندة «الإخوان». وهم لا يفهمون منها سوى أعمال الخير والصدقات. وليس ذلك ــ على رغم أن القاعدة الجماهيرية « الإخوانية» هي من الفقراء والمهمشين ــ غريباً، لأربعة أسباب هي : 1ــ أن الارتباطات الرئيسية لحركة «الإخوان» هي مع الفئات الرأسمالية، 2 ــ أنه ليس لدى «الإخوان»، اعتراض مبدئي على الخصخصة والبزنس وحرية التجارة، بل يشكلون سنداً أيديولوجياً للرأسمالية الليبرالية، 3 ــ أنّ الجماهير المفقرة التي تؤيد «الإخوان» لا تتمتع بالوعي الاجتماعي السياسي، وهي تفضل حل أزماتها اليومية بمساعدات عاجلة، على النضال الاجتماعي الجماعي لتحسين مستوى الحياة، 4 ــ أن «الإخوان» يقدمون أنفسهم كرافعة سياسية شعبية وشرعية لتجديد النظام السياسي على أساس حكم الرأسمالية الليبرالية، وهو ما يفتح باب الحوار بينهم وبين الأميركيين المشغولين هم أيضاً بتشكيل تحالف محلي قادر على إنقاذ الوضع.
غير أن «الإخوان»، استناداً إلى التجربة التاريخية المصرية، سوف يخسرون المعركة في النهاية. فعشية ثورة 23 يوليو 1952 كان «الإخوان» المصريون قوة جماهيرية جبارة، لكن عبد الناصر هزمهم بسهولة، انطلاقاً من افتقارهم إلى رؤية اجتماعية وطنية. وهو خلل أيديولوجي منهجي قادهم، في الماضي، إلى التأييد الصريح للإقطاعيين والرأسماليين في مواجهة الإصلاح الزراعي والقطاع العام، ويقودهم اليوم إلى التواطؤ مع قوى السوق المعولمة.
يقدم «الإخوان» أنفسهم كمدافعين عن الليبرالية السياسية التي يأملون أنها تضمن لهم الوصول إلى الحكم ــ لمصلحة الليبرالية الاقتصادية، لا ضدها.
إلا أن ذلك الحكم لن يكون في النهاية، سوى نظام للقمع يمكّن المطوّع يوسف البدري ــ الذي أفتى، أيضاً، بعدم شرعية «6 نيسان» ــ من «مطاردة الساحرات». فالزمان عند البدري هو زمان الجهاد ضد المثقفين، حيث يقوم بغزوات مروّعة. وقد حصل أخيراً على حكم قضائي بفسخ قرار وزارة الثقافة المصرية بمنح الشاعر حلمي سالم جائزة التفوّق في الأدب، بالاستناد إلى تجريمه «بالجرأة على الذات الإلهية في قصيدته شرفة ليلى مراد».
هل سيكتفي المطوّع المشهور بهذا النصر؟ كلا. سيتابع حتى إدانة سالم بالكفر وتفريقه عن زوجته، وهدر دمه. والشيخ البدري قادر ومثابر، فهو الذي استصدر حكمين على الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي، الرائد الحداثي الكبير، ذهبا به في آخر عمره، إلى الرصيف، بعدما تم الحجز على شقته سداداً للتعويضات المالية المحكوم بها لمصلحة المطوّع الموكّل شخصياً بالدفاع عن الله تعالى.
يقول البدري: كيف تدفع وزارة الثقافة مالاً مأخوذاً من ضرائب يدفعها المؤمنون لشاعر كافر؟ ولا يسأل، بالطبع، عن أموال المؤمنين المهدورة في الخصخصة والفساد ودعم البزنس على حساب دعم الشعب الكادح، ولا يهتم بشهداء الحصول على الرغيف في المدن المصرية، ولا بملايين الجائعين... فكل ذلك يهون دون الاستعانة بالله في شؤون الغرام!
بين البدري وأمثاله وبين التراث العربي ــ الإسلامي، مسافة ضوئية، هي المسافة بين الهمجية والحضارة. فلطالما استعان الشعراء العرب بالله في قصائد الحب، في نصوص فقهاء لم يعد نشرها في القرن الحادي والعشرين ممكناً. لكن على الأقل، مَن لا يعرف الأغنية التي تؤكد أن نور جمال المحبوب، هو «آية من الله»، بها يحدث الإيمان!
حتى منظومة توزيع الدقيق والخبز في مصر المحروسة تحلّلت وسقطت تحت وطأة الليبرالية الجديدة المتوحشة. وقبلها تحللت منظومات الزراعة والصناعة والتعليم والصحة والشرطة والسكن والإعلام والفن... أليست مفارقة أن قَطَر ــ لا مصر ــ هي التي تسيطر على الفضاء الإعلامي العربي؟ وأن لبنان ــ لا مصر ــ مَن يقود استراتيجية المواجهة مع إسرائيل؟ وأن الأردن ــ لا مصر ــ مَن طوّر الخدمات الطبية الإقليمية؟ وأن دبي ــ لا مصر ــ هي التي تنجح في لعبة البزنس؟ وأن أفضل الكتب وأجمل الموسيقى وأبلغ الأفكار تأتي من كل مكان في العالم العربي... إلا مصر؟
كيف ترى ليلى مراد، من شرفتها، ذبول البلد الذي كانت هي خلاصة جماله ورقيّه ودندنة آماله، كيف تراه وهو غارق في الفقر المدقع والتعصب والعشوائيات والموت على المخابز واغتصاب النساء الجائعات في الشوارع، ولا تأمل في يوم غضب آخر في 4 أيار المقبل، حين ستؤكد مصر، ثانية، أنها ما تزال على قيد الحياة!
وكيف لا يرى الشاعر حلمي سالم بريق الماضي المصري القريب، بريق النهضة، في الجمال الأنثوي الرقيق الأخاذ المتحضر، حتى في جثة ليلى مراد... ولا يقع في الغرام، ويطلب من الله العظيم، المساعدة؟

* كاتب وصحافي أردني