حسام تمام *عاد الجدل مجدداً إلى المشهد السياسي في مصر، بعد تصريحات لرئيس البرلمان فتحي سرور قال فيها بضرورة أن يكون للإخوان المسلمين حزب سياسي يمثّلهم. ورغم أن التصريح اعتُبر لاحقاً رأياً شخصياً لا يمثّل النظام، أو أنّه انتُزع من سياقه، إلا أنه أعاد طرح السؤال مجدداً عن العقبات التي تقف دون وجود حزب للإخوان. وهو ما يحاول هذا التحليل الإجابة عنه. منذ تأسيس الشيخ حسن البنّا جماعة الإخوان المسلمين سنة 1928، حدّد خيارها برفض الحزبية على مستوى الفكرة والتصور أو على مستوى البناء والتنظيم. أفتى البنا بعدم جواز الحزبية والتحزب، على الرغم من طبيعة الحقبة الليبرالية التي شهدت حضوراً فاعلاً للأحزاب، لكن البنا رفض التحالف مع هذه الأحزاب باعتبارها مسؤولة عن أزمة البلاد، وبنى جماعته على طراز الجماعات الشمولية الشائع في عصره: أكبر من حزب وأقل من دولة!
استمرّ الموقف الرافض للأحزاب والحزبيّة طوال عهد المرشد المؤسس (من 1928 إلى 1949)، وكان طبيعياً أن يتعزّز مع ثورة يوليو 1952 التي كان من أهم قراراتها إلغاء الأحزاب. ورغم أنها استثنت الإخوان من الحظر باعتبارهم جماعة، لا حزباً، ثم لم يلبث أن طال المنع والإلغاء الإخوان لتبقى الحقبة الناصرية (1954-1970) حقبة الحزب الواحد. ولمّا اختار الرئيس أنور السادات لعهده (1970 ــ 1981) تعددية مقيدة، لا نظام الحزب الواحد، (بدأت بالمنابر ثم انتهت بالأحزاب)، لم يتغير موقف الإخوان. فالجماعة كانت في طور إعادة البناء والتعافي من آثار السجون التي استمرت طيلة عقدين، إضافة إلى تأثير دخول مكوّن سلفي جديد على بنيتها عزّز حالة الرفض للحزبية على أسس اعتقادية فضلاً عن السياسية.
بدأت إعادة النظر في الموقف من الأحزاب والحزبية مع عقد الثمانينيات الذي شهد تصاعد حضور الجماعة ونشاطها السياسي؛ غير أن هذه القضية لم تشغل الجماعة إلا من زاوية برغماتية تتّصل بإدارة علاقتها مع بقية المكونات السياسية الأخرى وتهدئة قلقها، ولم تكن واردة وقتها من باب البحث في الشكل أو الإطار الذي يمكن أن تؤول إليه مستقبلاً. تعدّلت رؤية الإخوان تجاه الأحزاب والحزبية من خلال الممارسة الواقعية لا المراجعة النظرية، وكانت البداية تحالفها عام 1984 مع حزب الوفد الليبرالي في الانتخابات البرلمانية، ثم تعزّز التعديل عام 1987 بالتحالف الثلاثي الشهير الذي ضمّ إليها حزبي العمل الاشتراكي، والأحرار الليبرالي الذي دخل عبره 36 نائباً إخوانياً في البرلمان، وكرّت السبّحة ليتعزّز واقع قبول الإخوان بالأحزاب والحزبية، وصاغت الجماعة أكثر من مشروع لتأسيس حزب سياسي تابع لها فكانت مشروعات أحزاب الأمل والشورى.
لكن تطوّراً مهمّاً جرى في الفكر السياسي للإخوان انتهى بهم إلى القبول بالأحزاب والحزبية في العمل السياسي على المستوى النظري وليس مجرد الضرورة العملية، وهو ما تبلور في الوثيقة المشهورة التي صدرت عام 1994 في شأن الشورى والأحزاب والمرأة لتحسم الجماعة الجدل وتقبل نهائياً بواقع الأحزاب. وكان حزب الوسط الذي تقدّمت به إبان ذروة صدامها مع النظام عام 1995 المبادرة الأولى في هذا الصدد قبل أن يتطوّر الأمر بخلاف، ثم انشقاق تنظيمي انفصل فيه عدد من قيادات جيل الوسط واستقلوا بالتجربة وقطعوا بها مسافة في تطوير رؤية للعمل الحزبي على أساس ما صار يسمّى الرؤية الحضارية الإسلامية.
كانت الثمانينيات عقد انتشار المدّ الأكبر الذي شغل الجماعة بسؤال المكاسب الآنية عن سؤال المستقبل، وكانت التسعينيات عقد الصدام مع النظام بما جعل الأولوية لسؤال البقاء والحفاظ على الوحدة مقدماًً على سؤال الصيرورة. ولكن مع تصاعد جدل الإصلاح في العقد الحالي وبدء الانفراجة السياسية عام 2005 التي عرفت بربيع القاهرة، ووصلت قمتها في الانتخابات البرلمانية التي نال فيها الإخوان خُمس مقاعد البرلمان، أصبح سؤال مستقبل الإخوان على رأس الأجندة؛ هل نحن جماعة شاملة أم حزب سياسي؟ بل صار السؤال مادة للنقاش ليس بين الفرقاء السياسيين فحسب، بل داخل الجماعة نفسها، وخاصة بعد إعلان الجماعة مشروع برنامجها للحزب، وهو الأمر الذي كان طرحه من قبل بمثابة إعلان بالخروج على واحدة من أهم ثوابت الانتماء للإخوان المسلمين.
في سؤال الحزب، أنّ هناك إجابتين تمثّلان جناحي الإخوان: السياسي والدعوي.
الجناح الدعوي التقليدي يرى أن تحول الجماعة إلى حزب هو خروج على المشروع الإسلامي الذي بدأه مؤسسها، وأن العمل السياسي على أهميته لا ينبغي أن يكون وحده مهمة الجماعة، فهي «هيئة إسلامية شاملة، هي دعوة سلفية وطريق سنية وحقيقة صوفية وهيئة سياسية وجماعة رياضية ورابطة علمية وثقافية وشركة اقتصادية وفكرة اجتماعية...»، ولا مانع لدى هذا الجناح في تقنين وضع الجماعة، لكنه يؤكد على أن شرعية الجماعة وقانونيتها تستمدهما من شرعيتها الدينية وشرعية الأمر الواقع، لا من موافقة النظام، وخاصة مع غياب قواعد واضحة لمنح الشرعية القانونية أو حجبها. كما أنّ هناك شكّاً دائماً لهذا التيار في نيات النظام، فهو يراهن على أن ضمانة المشروع الإسلامي هي في بناء تنظيم قوي ومتماسك خارج سيطرة النظام ومن ثم قدرته على تفكيكه أو توجيهه، ويرى أن على الجماعة أن تأخذ العظة من وضعية الأحزاب المصرية «الكرتونية» الفاقدة للاستقلالية والفاعلية والتي لا تمثل أي وزن في المعادلة السياسية في البلاد.
وينتمي هذا التيار الرافض للحزبية أو المشكّك فيها إلى ما يعرف بالتيار التنظيمي التربوي في الجماعة وهو الذي ينتشر في الأقسام المسؤولة عن التربية والتكوين ونشر الدعوة، ومعظم أبنائه هم ممن دخلوا الجماعة من بوابة الدعوة ولم يعرف لهم حضور مميز في العمل السياسي.
أمّا جيل الوسط الذي يقود العملية السياسية داخل الجماعة فيرى أن الوضع الطبيعي للجماعة هو أن تتحول إلى حزب سياسي يخضع للقوانين والأطر واللوائح التي تنظم العملية السياسية وتخضع علاقات أفراده وتصرفاتهم لما يحكم علاقات وسلوك المندرجين في الأحزاب السياسية. وهو يراهن على ضرورة الدفع باتجاه إصلاح النظام السياسي وإجباره على القبول بدمج الحركة الإسلامية داخله، ويرى أن الحركة الإسلامية نفسها هي التي يجب أن تأخذ بزمام المبادرة، وأن تدفع بالنظام وبقية الفرقاء السياسيين إلى هذا الخيار وتمهد لذلك، وهو يؤمن بأن قوة الحركة الإسلامية الحقيقية تكمن في أن تكون جزءاً من النسيج الاجتماعي والسياسي في البلاد، لا أن تظلّ استثناءً أو خروجاً عنه.
ويُعَدّ هذا التيار الأكثر تسيّساً في الجماعة وينتمي معظمه إلى جيل الوسط الذي بدأ العمل الإسلامي في الجامعات المصرية في حقبة السبعينيات ثم قاد حركة دخول الإخوان إلى العمل العام في المجالس المحلية والنيابية.
الخلاف بين الدعوي والسياسي أو تيار الجماعة وتيار الحزب ما زال داخلياً ويدار بطريقة هادئة، وخاصة أن القبول بالإخوان ـــــ جماعة أو حزباً ـــــ ما زال محل رفض من النظام، الذي يستطيع حسم هذا الخلاف، فهو المسيطر تماماً على لجنة شؤون الأحزاب التي تمنح الترخيص بالحزب؟ كما أن هناك الكلفة السياسية التي سيتحمّلها الإخوان إذا قرروا التحول من جماعة خارج بنية النظام السياسي ورقابته إلى حزب سياسي.
والقناعة أنّ تياري الدعوة والسياسة سيتعايشان داخل الإخوان، حتى تتغير المعادلة السياسية ويصبح حقّ تأسيس الأحزاب مكفولاً للجميع، وساعتها فقط يمكن أن يحسم مستقبل الإخوان المسلمين ما بين الحزب والجماعة، وربما نشهد أحزاباً وجماعات للإخوان للمسلمين.
* باحث مصري متخصّص في شؤون الحركات الإسلاميّة