فؤاد مخزومي *قرأت مقالة كتبها المحامي اللبناني الأستاذ وسيم النابلسي، ونشرتها صحيفة «الأخبار» في العدد 503 يوم الخميس في 17 نيسان 2008. وبما أنّ الموضوع مهمّ ومطروح بقوة على بساط البحث والتحليل، وخصوصاً على مستوى الدور والفعّالية في النسيج اللبناني المتعدّد الأطياف الدينية والمذهبية وفي الحياة السياسية بشكل عام، وفي المعارضة على الأخص، رأيت توضيح بعض الأمور ـــــ الملفات ـــــ التي تطرّق إليها نابلسي.
لا بد بدايةً من القول إنّ الأستاذ نابلسي أحسن في عرض المشكلة ولو اختلفنا معه في الخلاصة. فالسنّة في لبنان ليسوا طارئين على العمل السياسي سواء أكانوا في الموالاة أم في المعارضة، ولا عاملين على خط استجداء المواقع، فعل إحسان يمنّ به عليهم ذوو النفوذ والقدرة من الطوائف الأخرى. فالمسألة متعلقة تحديداً بالعروبة. فطالما كان وما زال السنّة ديدنها وأربابها مهما بدا أنّ ظروفاً صعبة أيقظت خلافات من هنا أو صراعات من هناك لتقوم محاور مقابل محاور، فدور السنة في لبنان كان وما زال وسيبقى في المكان الوسط في محيطنا العربي مهما اشتدت العواصف على الأمّة وسيبقى ابن بيروت يلهج قلبه بالعروبة التي تزداد أهميتها في زمن العولمة بكل ما تتطلبه بدءاً من السوق العربية المشتركة والعملة الواحدة والتنمية المستدامة إلى ما هنالك من سكك توجبها مصالح البلدان العربية المشتركة لكي تبقى حيّة بين
الأمم.
ولكن قبل كل هذا وذاك، ينبغي تنسيق الجهود العربية في مواجهة التقسيم والتفتيت والشرذمة التي تهدّد مختلف البلدان العربية. والدليل الأكبر هو العراق، أليس التكاسل أو حتى التخلي عن العراق هو ما فتح الأبواب للأطراف الإقليمية لممارسة نفوذها وملء الفراغ في هذا البلد العربي؟ أليس التردّد هو ما سمح للصراع المذهبي بين السنّة والشيعة أن يأخذ مداه في ما بين أهلنا في العراق الجريح؟ وهنا لا يمكن بحال من الأحوال تغييب الصراع مع إسرائيل في هذه الأزمة الآنفة الذكر على أساس أن لا حل لكل الأزمات العاصفة ببلداننا ولا وصول إلى مطامحنا بالتقدم والرقي إلّا بحل الصراع العربي ـــــ الإسرائيلي ولو طال الزمن.
فأن يقف ابن بيروت إلى جانب المقاوم في الجنوب اللبناني، فهذا ديدنه منذ قامت دولة الاحتلال التي تحتفل في هذه الأيام بالذكرى الستين لاغتصابها أرض فلسطين. وأن يكون السنّة في لبنان عماد المقاومة ضدّ الاحتلال فلا غرابة وهو الطبيعي، فهذه من المسلّمات التي لا تدعو إلى الاستهجان أو السؤال. أما الإيحاء بخلاف ذلك، فهو الغريب وهو المستهجن، أمّا لو كان على رأس السنّة وفي مقدمتهم متردّد أو فاشل عَبَر إلى القمة بمناسبة ظلم كبير لحق بلبنان كله وفي ظرف مأساوي عظيم حمل البعض إلى تبوّء مناصب أو مواقع هي زائلة ولا تصمد إن لم يجر تقويمها لتعود بوصلة السنة إلى وجهتها وموقعها الطبيعي في بحر السنة العروبيين الممتد على مساحة العالم العربي. ولا مفرّ... وهل يمكن لسياسات الاحتقان الطائفي، وما أخذ يظهر من انقسام حاد في الجسد اللبناني والعربي عموماً أن تؤدّي إلى إسقاط سمة العروبة عن لبنان، وهل يسأل عن ذلك السنّة في لبنان فحسب؟ وهل من مسؤولية على قوى المعارضة بكل أجنحتها أم المسؤولية تقع على قوى الموالاة وسياساتها بمن فيهم ممثلو السنة فيها؟ أم أنّ السنّة وحدهم من بين كل الأطراف بتوجّهاتهم المتعدّدة مسؤولون حصراً عن هذه الأزمة، أعني بها إسقاط سمة العروبة عن لبنان العربي الواحد الموحّد؟ أم أنّ اللبنانيين جميعاً بمن فيهم الشيعة والموارنة والدروز وكل المِلل والطوائف الأخرى أسهمت قياداتها بهذه المصيبة؟ أوَ ليس للبلدان العربية الوازنة من دور في سحب أزمة لبنان إلى المواقع الدولية بكل تقاطعاتها الخطيرة في ظل «الحرب العالمية على الإرهاب»؟ أليس التكاسل والانتظار العربيان ـــ وهذا ما حصل ويحصل مع العراق، أم ننتظر حتى تستولد الإدارة الأميركية «قوات صحوة» أو لجاناً ما تتساقط مع أول هبّة ريح بسبب سطحية منشئيها ـــ هما من أسباب اتصال الأزمة بأزمات لا ناقة للبنان فيها ولا جمل، ينقلها حتى ببطء السلحفاة من أراضيه لتعود إلى المصدر حيث الأزمة الأم، أعني الدولة العبرية بكل طاقاتها المنتجة للأزمات العربية القائمة والمقبلة إلى ما شاء الله إن لم نستفق ونستدرك بلداننا وفي المقدّمة منها لبناننا العزيز؟
أمّا عن الحال الحاضرة في مقاربة المعارضة شيعية كانت أم مارونية للسنة ورموزها، فنحن مع الأستاذ النابلسي أن أخطاءً وقعت فيها قيادات المعارضة في النظرة إلى السنّة ككل ودورهم في النسيج اللبناني وقد يكون هذا عن قصد وقد لا يكون.
وقد تكون الأخطاء مشتركة، ولكن الأكيد أنّ هنالك مصالح سياسية تتحكّم في خطوات قادة المعارضة من غير السنة. وهي بلا شك كثيرة وليس ما تطرّق إليه الأستاذ النابلسي إلّا نماذج بدءاً بتعاطي إعلام المعارضة مع رموز السنة المتقاطعة مواقفها مع مواقف المعارضة أو العاملة أو «الذائبة» في تيارات المعارضة وأحزابها، مروراً بالاستخدامات المنتقاة لتظهير المعارضة على أنها توليفة شاملة للمجتمع اللبناني ووصولاً إلى الإيحاءات الغريبة بخروج شامل للسنة عن سكة العرب وعن قضيتهم المركزية.
ولكن نحن في «حزب الحوار الوطني» فهمنا ونفهم وثيقة التفاهم التي قامت بين حزب الله والتيار الوطني الحر على أنها وثيقة وطنية مثّلت ‏ركيزة أساسية للاستقرار السياسي والأمني في الأوقات العصيبة ووسط التحريض الطائفي، ولكنها منقوصة. فكيف يقوم لتفاهم قائمة من غير أن تكتمل «سيبة» التفاهم، فإذا كان الشيعي حاضراً في تفاهم ما والماروني أيضاً فأين السني في هذا الاتفاق، أو قل في هذه «السيبة» العرجاء التي لا تكتمل إلّا بوجوده، وهل يستوي «الموقف من العدو الصهيوني» ومواجهته حتى دحره عن لبنان واستعادة أسراه وضمان مياهه من دون وحدة وطنية عمادها السنة في لبنان.
ولا أظن أن المسألة ذات علاقة بمعضلة «تشليح» الشارع السني من زعامات من هنا أو هناك. فالمسألة سياسية بامتياز وقد يكون الجواب معقوداً على «التحالف الرباعي» الذي أشقى لبنان منذ انتخابات عام 2005 ولم تزل البلاد ترزح تحت تداعياته.
فما ذنب السنة إذا أخطأت بعض قيادات المعارضة الخيار أو هي اعتمدت مصالحها سبيلاً للاختيار الآنف الذكر؟ فهل يتحمّل هذه الخطيئة السنّة في لبنان، بموالاتهم ومعارضاتهم ومستقلّيهم، تاريخاً وحيثية لم يظهر خروجاً لها عن سكة الوحدة الوطنية أو عُرف عن رجالاتها منذ كان لبنان تأجيجاً لأزمة بين اللبنانيين أو تقوقعاً أو انعزالاً، ولا هم خاضوا يوماً في تعبئة طائفية أو مذهبية؟
إنّ إشعار السنّة بالإحباط جديد على البيئة السنية. والأشد نكاية هو أن يصار إلى تأجيج مشاعر ابن بيروت. فمن جهة، يقف القنّاص على سطوح طريق الجديدة بكل رمزيتها، ومن جهة أخرى، يصار إلى اختزال ابن بيروت ببضعة من الرموز فحسب! فإذا كان للمناطقية الوطنية من صوت فهي تنطلق من صدر بيروتي قاوم الاحتلال يوم عزّت المقاومة في اجتياح عام 1982 وأتعب الشقيق العربي حتى يصير للبناني صوت مستقل وهو الذي يعرف قيمة الشقيق عند الملمّات التي يبلوه بها العدو الإسرائيلي ولا يرضى في الوقت عينه أن يحتلّ الشقيق مكانه في القرار اللبناني المستقل.
والمطلوب من جميع الرموز والفعاليات السنية أن تكون فاعلة في مجتمعها، سواء أكانت في الموالاة أم في المعارضة أم في الوسط الذي نعتزّ بأن ننتمي إليه. فالمسألة تتطلب الجهد بين الناس والعمل الحثيث للبحث عن الأفضل لتحسين ظروف الناس الحياتية. وهذه تتطلّب في ما تتطلّب الخوض في الشأن العام الذي يمكن القول إنّ البرلمان هو إحدى بواباته، الأمر الذي يتطلّب انتخابات نيابية نزيهة بقانون عصري عادل ومجدٍ لاستبدال الطبقة السياسية لأي جهة انتمت وقد أثبتت فشلها على مدى ليس فقط السنوات الثلاث المريرة الماضية فحسب بل على مدى خمس عشرة سنة. ويتطلب ذلك أيضاً تحالفات مدروسة لا قطاراً يدهس في طريقه المبادئ والأصول الديموقراطية قبل أن يطيح حقوق المواطنين بممثلين عنهم زائفين يحملون أمانيهم إلى الندوة البرلمانية.
إن الرأي العام في الوسط السني بخير ولا تنقصه لا سمح الله شهادة في الوطنية. أليس آخر استطلاع للرأي أعطى العمل المقاوم ما يستحق، وأثبت أنّ السنة في لبنان لم يضيّعوا اتجاه البوصلة رغم كل محاولات التطييف والمذهبة وما إلى هنالك من عدّة للعمل السياسي استخدمتها المعارضة كما الموالاة؟ وهذا ليس مفاجئاً لنا في «حزب الحوار الوطني» فنحن ندرك أنه «أمّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ».
* رئيس حزب الحوار الوطني