27 دراسة «عربيّة» تنتزع حقّ كتابة تاريخنا من الغرب
دينا حشمت
منذ عشر سنوات، شهدت الساحة الثقافية المصرية سجالاً عنيفاً حول عزم دوائر بعينها في السلطة، وخارجها، على المشاركة في الاحتفالية بمرور مئتي عام على الحملة الفرنسية على مصر. ضمن ما قيل آنذاك لتبرير هذا الموقف، عن أنّ هذه الحملة أسهمت مساهمة جوهرية في عملية تحديث مصر، وفي نشأة الدولة المصرية. فركّزت الأقوال على ما مثّله قدوم مئة وستين عالماً من دلالات تنويرية، متناسية أنهم جاؤوا على متن أسطول حربي حمل إلى برّ المحروسة ستة وثلاثين ألفاً من الجنود الفرنسيين.
وهي الحجّة التي يردّ عليها هذا الكتاب الموسوعي، من خلال تقديم سبع وعشرين دراسة تتناول العديد من جوانب الحملة، من تحليل دقيق للوقائع التاريخية، إلى عرض تفصيلي للخطاب الدعائي الذي صاحبها، مروراً بنقد للخطاب التحليلي الذي قدّمته من خلال الموسوعة الشهيرة عن «وصف مصر».
أوّل ما يفعله هذا العمل هو تذكير القارئ بأن «الحملة» لم تكن محايدة، على عكس الإيحاء الذي قد تحمله تسميتها، بل كانت غزوة استعمارية؛ فأول أبوابه العشرة يتناول المقاومة الشعبية العنيفة التي لاقتها القوات الفرنسية عند محاولتها احتلال البلاد. تلقي دراسة نبيل السيد الطوخي الضوء على «وسائل المقاومة في صعيد مصر»، حيث واجه الجيش الفرنسي حرب عصابات شرسة من الفيوم وبني سويف إلى أسيوط وأسوان، كما واجه «مقاومة غير مباشرة»، تمثّلت في «هجر الفلاحين لقراهم، ورفض التعاون مع الفرنسيين، والامتناع عن دفع الضرائب، وسرقة أسلحة الفرنسيين»، وهي وقائع تسردها الدراسة من خلال العديد من القصص والتفاصيل الحيوية. كما يعرض مقال ناصر أحمد إبراهيم عن «المباشرين الأقباط والحملة الفرنسية» لشكل غير مألوف للمقاومة، حيث إنّه يشرح كيف حافظ المباشرون على «مقدّرات الحركة والسكون في تسيير دولاب العمل بالإدارة المالية»، وعلى «احتكارهم المعرفي لكل المعلومات المتعلقة بالنظام الضريبي»، ففشل الفرنسيون في الإحاطة بحقائق النظام المالي، مما مثّل أحد أسباب أزمتهم المالية ومن ثمّ فشلهم في «بناء مستعمرة فرنسية في الشرق».
كما يولي الكتاب اهتماماً خاصاً للبروباغندا» (الباب الثاني) التي صاحبت المشروع. ففي مقالها عن كيفية توظيف «نابليون الفن للدعاية لحملته على مصر»، تحلّل ليلى عنان (صاحبة كتاب «الحملة الفرنسية تنوير أم تزوير؟» المنشور في دار الهلال سنة 1998) لوحات عديدة، من ضمنها رسوم عن ثورة القاهرة الأولى (أكتوبر 1798)، ورسم مُعنوَن «بونابرت يهدي الوشاح ذا الألوان الثلاثة لأحد بكوات مصر» (أنظر الصورة)، يتناقض مع الجمل المسطورة تحت الرسم التي تقص كيف «ألقى الشيخ الشرقاوي وقد أحمرّ وجهه غضباً، بالوشاح المقدّم من القائد العام للجيش الفرنسي». تعدّ أسطورة هذا القائد نفسه، التي يتناولها علي كورخان، من ركائز «البروباغندا» الفرنسية. ومن ضمن ما أسهم في تشكيل هذه الأسطورة البيانات التي كان نابليون يلقيها على الشعب المصري، بدءاً بالبيان الأول الذي كتبه وهو في عُرض البحر ليعلن قدومه لتحرير أهل مصر من قبضة «المماليك المستبدّين». يتناول هنا عدد من المتخصصين في اللغويات التناقضات الخاصة بإشكاليات ترجمة هذه البيانات وغيرها من الأوامر العسكرية والوثائق الخاصة بالحملة، ويهتمون بمستويات اللغة العربية التي يستخدمها المستشرقون الفرنسيون (مديحة دس). ومن الوثائق الممتعة التي يعرضها الكتاب بعض نماذج هذه المنشورات في نسختهما الفرنسية والعربية، «من عبد الله جاك منو سر عسكر العام وأمير جيوش الفرنساوية ببر مصر». كما تتناول ورقة مها جاد الحق «قراءة نقدية لترجمة حوليات الجبرتي ونيقولا الترك حول الحملة الفرنسية»، مبلورة مواقف سياسية وأيديولوجية مسبّقة من خلال تحليل الأخطاء أو التحريف في المعنى، التي منها «تبديل كلمات «أهل البلد» و«المصريين» «بالمسلمين».
وإذا كانت الأصوات المحتفلة بالحملة قد أكّدت تأكيداً خاصاً على الإنجاز العلمي الذي مثّله كتاب «وصف مصر»، فإن دراسة منال خضر تلقي نظرة نقدية على «نظرة الآخر» الذي ينطوي عليه هذا العمل الموسوعي، كما تفعل مها جاد الحق عبر تحليلها للوحات قسم «الدولة الحديثة». فهي تعارض فكرة أن هذه الرسوم تمثّل «صوراً دقيقة تكاد تكون صوراً فوتوغرافية» للواقع المصري في نهاية القرن الثامن عشر، مدلّلة على ذلك بتحليلها لاختيار الموضوعات المرسومة، التي تحاول «الإيحاء بوجود جو من السلام والمعايشة بين الفرنسيين والمصريين»، و«تحييد الفعل العسكري مقابل إبراز الفعل العلمي للحملة»، فتنتهي إلى أن «المتخيّل تدخل في الواقع، فالتمثيل المرئي أو الصور تتخلّله القوالب والأفكار المسبّقة».
أمّا عن لوحات «قسم الآثار» في «وصف مصر»، فعايدة حسني تقدّم عنها قراءة سيميوطيقية. كما يهتم هذا الكتاب بتحليل كيفية تدريس هذه الوقائع في المدارس الفرنسية والمصرية (فريدة جاد الحق وهناء فريد). وهو ما لا يمكن فصله عن «اتجاهات التفسير» لدى المؤرخين، التي يتناولها الباب السابع بالنقد والتحليل، مهتماً بشكل خاص برؤية «بعض المؤرخين المصريين والفرنسيين خلال حكم الملك فؤاد الأول (جيهان القاضي)»، وأيضاً بـ«تفسير نتائج الاحتلال الفرنسي لمصر» (محمد صبري الدالي)، التي يتناولها الباب الثامن من «المنظور المصري المعاصر».
وما يمثّل في الحقيقة قلب الجدل حول هذه الحملة، هو طبيعتها «التنويرية» المزعومة، فتتناول ليلى عنان الندوة التي نُظّمت في فرنسا سنة 1998 تحت عنوان «الحملة على مصر ـــــ مشروع تنويري»، مستشهدةً ختاماً بحكم المؤرخ الفرنسي أندريه ريمون حينما يقول إن الفرنسيين «لم يطلبوا من المصريين إلا الطاعة ودفع الضرائب؛ والتنوير لم يترك مؤسسة أو قوانين تدل على امتداده في تاريخ الأمة المصرية»، وهو ما يؤكد تحليل المؤرخ رؤوف عبّاس في مقاله عن كيفية تأثير الحملة على خطط محمد على فيما بعد، بأنه إذا كانت الحملة قد مثّلت صدمة عسكرية وثقافية بالنسبة إلى النخبة المصرية والقيادة المملوكية على حد سواء، التي اكتشفت أن «الفرنسيين يختلفون تماماً عن أولئك «الفرنجة» الذين عرفهم أسلافهم زمن الحروب الصليبية»، فهي كانت «عاملاً مساعداً لمشروع الدولة الحديثة»، وليس «صانعة له».
* صحافيّة مصريّة


العنوان الأصلي
مائتا عام على الحملة المصرية

الكاتب
ناصر أحمد إبراهيم

الناشر
مكتبة الدار
العربية للكتاب