جي جي كلارك يواجه إدوارد سعيد وبرنارد لويس
ماجد الشيخ
يعالج جي جي كلارك في كتابه «التنوير الآتي من الشرق» موضوعاً أثيراً يمكن اختزاله بموضوعة الاستشراق، فيما هو يشمل و/أو يرمي أبعد من ذلك، ولا سيّما لجهة مناقشة العديد من قضايا عالمنا المعاصر. من هنا توضيحه للقارئ أنّه ليس في صدد معالجة الاستشراق، باعتباره ظاهرة منفصلة، كياناً متجانس البنية، بل إنّه وثيق الصلة ومتداخل مع عدد آخر من العمليّات الفكريّة والتاريخيّة الأوسع نطاقاً، وتتضمّن هذه أوّلاً طائفة واسعة من الاهتمامات المقترنة بالنشاط التقليدي لمباحث فكريّة مثل: الفلسفة وفقه الإلهيّات وعلم النفس والعلوم الطبيعيّة في اتساق مع عوامل تاريخيّة عزّزت هذه المباحث على مدى بضعة قرون خلت.
لذا، وهو يسعى إلى استعادة دراسة الاشتباك الفكري الجاد من جانب الغرب مع الأفكار الشرقيّة، بكل ما في هذا من تعارض وتناقض، وتوخّياً للوضوح والتبسيط، يستخدم كلارك كلمة «الاستشراق» للإشارة إلى سلسلة من المواقف التي تجلّت واضحة في الغرب تجاه الأفكار والمذاهب الدينيّة والفلسفية التقليديّة في جنوب وشرق آسيا، وهذا اختيار مثير للجدل. ولهذا، أصبح الاستشراق ــ في رأيه ــ مصطلحاً إشكاليّاً إلى أقصى حدّ، بحيث بات من المستحيل استخدامه بمعنى محايد، كما أصبح، وفق ما ذهب الباحث في الإسلاميات برنارد لويس «مصطلحاً ملوّثاً بحيث يصعب تنقيته». وبالعودة إلى البحث في جذور هذا المصطلح، يقول كلارك إنّه ظهر لأوّل مرّة في فرنسا في ثلاثينات القرن التاسع عشر، وأصبح يستخدم منذ ذلك التاريخ بوسائل جدّ مختلفة؛ للإشارة إلى الدراسات الشرقيّة، ولتشخيص وتحديد خصائص نوع بذاته من الأدب الرومانسي الخيالي، ولوصف نوع من الرسم، وكذلك ــ وهذا هو الأهمّ في أيّامنا هذه ــ لتحديد معالم نوع بذاته من أفق الرؤية الأيديولوجية للشرق، والذي تولّد كنتاج للإمبرياليّة الغربيّة، وراج ارتباط هذا المفاد الأخير بإدوارد سعيد، الذي تمثّل أفكاره الأساس والقاعدة، لأيّ جدل بشأن موضوع هذا الكتاب، مثلما ارتبط بنظريّة ما بعد الاستعمار في أوسع نطاق لها.
وفي تحديد أكثر وضوحاً، يعلن كلارك أنّ كتابه، وإن كان يدين لإدوارد سعيد، فإنّه التزم نهجاً مختلفاً عنه من نواح مهمّة محدّدة، «إذ بينما صوّر سعيد الاستشراق في ألوان كابية، لتكون هذه الصورة أساساً لنقده الأيديولوجي القوي لليبراليّة الغربيّة، فإنني سأستخدمها للكشف عن نطاق أوسع من المواقف الكابية والمضيئة، واستعادة نزعة استشراقيّة أكثر ثراءً وأكثر إيجابيّة في أحيان كثيرة، في محاولة لتبيان أنّ الغرب سعى جاهداً إلى تمثّل دمج الفكر الشرقي ضمن اهتماماته الفكريّة، بطريقة لا يمكن في ظاهرها، فهمها فهماً كاملاً
تأسيساً على (التسلّط) و(الهيمنة)».
وزيادةً في التوضيح، يعود كلارك إلى استدراك آخر مفاده؛ إنّ تركيز الاهتمام على الاستشراق باعتباره خطاباً مميّزاً، يعني كذلك أنّه لن يتناول مباشرة مسألة تأثير الفكر الغربي عموماً في الشرق، وأنّه لن يكون معنيّاً بتحديد أكثر، بتأثير الخطاب الاستشراقي في وعي المجتمعات الآسيويّة وقتما كانت مستعمرات أو بعد الاستعمار، ولكن من الأهمّية بمكان أن ندرك ثراء وتعقّد ما ينطوي عليه هذا من تفاعل ثقافي وتأثير متبادل، ومن ثمّ استحالة وضع حدود دقيقة أو الفصل التام لمحدّدات الاهتمام والتأثير.
وعلى ما ذهب شوقي جلال (المترجم) في تقديمه هذا الكتاب، فإنّه مثُّل بحق أهمّية بالغة لنقد العقل الإنساني بعامة في انحيازاته وتطلّعاته أو في تقاعسه، إنّه شهادة إنسانيّة، إنّه هنا يحدّثنا عن تطوّر العقل الأوروبي وتفاعله وانحيازاته.
* كاتب فلسطيني


العنوان الأصلي
التنوير الآتي
من الشرق

الكاتب
جي جي كلارك

الناشر
عالم المعرفة