سوف تَكْشف الأيام يا صديقي ايريك ما تدين لك الصحافة الحديثة بعد أن شاء قدرك ان تواكب حقبة بكالمها في تاريخنا المعاصر بدأت مع التحرر من الاستعمار المباشر فيما كان يتناسخ، يا للمفارقة، في فلسطين وبصيغة كارثية، كيان هو الوليد الأخير لمرحلة كانت تنقرض وتزول.كما ستكشف الأيام ما هو فضلك على الصحافة الحقيقية مع رفاق جيلك في صحيفة «اللوموند» أمثال هيغ غيرزيان (جان غيراس)، قبل أن يصيبها الانحلال مع خروج المجموعة التي حملت روحها ونفسها التأسيسي بعد تحرر فرنسا من الاحتلال وصعود إرث المقاومة الفرنسية بعد التحرير رغم الشوائب والأخطاء.

في لحظة غيابك يا عزيزي اسمح لي ان أستذكر البعض القليل من ذكرياتنا المشتركة في مسار صداقة بدأت عام 1972 ولم تنتهِ مع رحيلك الأليم الأسبوع الفائت.
في السادس عشر من شهر أيلول 1972 اجتاح لواء من جيش العدو الاسرائيلي ارض الجنوب وتمركز في بنت جبيل محاولاً التقدم باتجاه مدينة صور وبلدات جويا وقانا وغيرها من القرى الجنوبية، بهدف الوصول الى بعض مواقع المقاومة الفلسطينية. تصدّت آنذاك وحدات من الجيش اللبناني للمهاجمين على محاور البيّاضة وجويّا وقانا وصدّيقين، حيث تم تدمير أكثر من 37 دبابة وآلية للعدو بالإضافة إلى تكبيده خسائر بشرية كبيرة، فيما تم إفشال خططه للتقدم السريع نحو أهدافه ما أرغمه على تغيير حساباته والتراجع باتجاه بنت جبيل، وذلك رغم التفاوت الهائل في القدرات والإمكانيات، كنت شاهداً آنذاك على المعارك بصفتي صحافياً في يومية «الاوريان ــــ لوجور». في ليلة السابع عشر من أيلول، بدأ العدو بالتراجع فيما تمركزت وحدة مؤلفة من دبابتين إسرائيليتين على مدخل بلدة جويا الشرقي لجهة تبنين، حيث وقعت مجزرة من أبشع مجازر الجيش الصهيوني. أوقفت المجموعة الإسرائيلية سيارة مرسيدس 180 كانت تقل تسعة أشخاص من عائلة عوالي كانت تنقل جريحين سقطا بسبب القصف على المدنيين بينهم طفل وعجوز.
أوقف الحاجز السيارة على طرف الطريق ثم أمر الضابط احدى الدبابات بالتحرك لدهسها وهو ما حصل بدم بارد.
كنت آنذاك في مهمة صحافية ميدانية لتغطية العدوان. اكتشفت المجزرة ومنظرها الدموي المروع مع وصولي إلى البلدة في الصباح، حيث روت لي سيدة ما حصل بعد ان شاهدت الجريمة من وراء نافذتها. قرأ ايريك رولو المقالين المنشورين وتفاصيل الجريمة فاتصل بي قائلاً: «أريد الاستشهاد بما كتبته عن المجزرة. هل لديك مانع؟ إنها جريمة حرب».
استوقفتني لكنته بالفرنسية. سألته إن كان إيطالي الاصل، فأجابني بالعربية: «أنا من مصر». توافقنا ان نلتقي في باريس في أول مناسبة.
اصبحت لقاءاتنا دورية على مدار أكثر من اربعين سنة. نقاشات واختلافات في الرأي توافق في التحاليل، كانت عيناه تلمعان عندما يتكلّم عن جمال عبد الناصر، من اجمل ذكرياته مناسبة تكريم الرئيس المصري لتشي غيفارا ومنحه وساماً رفيعاً، حيث أصر «الريّس» على مشاركة ايريك المناسبة شخصياً.
عندما وضع مؤلفه الأخير تحت عنوان «في كواليس الشرق الأدنى ــــ مذكرات صحفي دبلوماسي» اتصل طالباً كتابة عرض للكتاب. ذكرته مصارحاً بموقفي من طروحات نعوم غُولدْمان التي كان يعوّل عليها للبحث عن ارضية للسلام، لأن غولدمان خارج السياق الصهيوني. وكان قد اشتهر بمعارضته لحرب «الساعات الست» كما كان يحلو لايريك تسميتها ومعارضته لدبلوماسية كيسينغر، ولاجتياح لبنان عام 1982 ورافضاً للدعم الأعمى الأميركي لدولة إسرائيل وللسياسات الإسرائيلية منذ نشوء الدولة الصهيونية. قلت له يا ايريك، يا عزيزي جوهر دولة إسرائيل هو جابوتنسكي وفكره العنصري الراديكالي المتطرف والملهم الفعلي للزعماء الصهاينة، ان الاساس اليوم هو صعود ثقافة المقاومة في مواجهة ثقافة الانكسار والهزيمة. قال: اكتب ما تشاء. نُشر الموضوع في مجلة افريقيا ـــ آسيا الشهرية التي اسسها كبار المناهضين للاستعمار بعد الحرب العالمية الثانية، التونسي الأصل سيمون مالي.
كاتبني ايريك قائلاً: «لا تستغرب اذا قلت لك ان ما كتبته هو افضل ما نشر عن مذكراتي حتى اليوم، فلقد اعدت لي كامل حقّي وأنصفتني. اشكرك من أعماق قلبي».
هذا الحق والإنصاف يعودان في الحقيقة إلى جوهر الرسالة التي اخترقت الكتاب من الصورة المختارة للغلاف، صورة جمعتهُ مع الرئيس جمال عبد الناصر، وصولاً إلى السطر الأخير. رسالة وكأنها صرخة تقول بصمتٍ هذا الحب العميق والعشق الحميم الذي كان يكنّه إيريك رولو لأرض مصر، وهو ربما ما حمله على اختيار مراسم دفنٍ سمحت للرياح التي هبّت في هذه اللحظة المهيبة بأن تحمل روحه إلى أرض الكنانة.
إليك أيضاً يا إيلي رفّول... يا إيريك رولو، الشكر العميق لهذه الصداقة المديدة التي انبنت على الاحترام المتبادل والمودّة والإخلاص.
* أستاذ جامعي وعالم اجتماع