سلامة كيلة * إنّ حملة القمع التي تمارسها السلطة ضدّ أعضاء «إعلان دمشق»، والتي يجب أن تُدان، تجعل الحوار في إطار المعارضة في مسائل الخلاف، مربكاً من جهة النقّاد، ومتوتّراً من قبل بعض أطراف الإعلان. حيث يبدو أن الحوار بين أطراف المعارضة، والنقاش حول مسائل الخلاف، في ظل السياسة القمعية، ليس في مكانه. أو هكذا يظنّ البعض. لهذا يستهجن، ويحمّل كيل اتهامات. وأخشى أن نعود إلى منطق السلطة ذاته، الذي كان يؤجل كل شيء ضروري بحجة المواجهة. وأنه «مش وقته».
في الصراع السياسي، وحيث يتحدَّد التناقض الرئيسي، تبقى تناقضات أخرى ثانوية فاعلة، ولا يمكن تجاهلها، وإن كانت تتخذ أشكالاً أخرى في التعامل معها، هي أشكال الصراع الفكري. ومن هذا المنطلق يجب أن تُفهم النقاشات في إطار المعارضة، وخصوصاً أن الخلاف يطال المسألة الأساسية، التي هي هل تحقيق التغيير يكون عبر هذا الشكل للتحالف وهذه السياسات؟ وهل يستطيع التأثير في الشعب وتوحيده لتحقيق التغيير؟ لكن لا بد من أن أشير إلى أنها تأخذ، مع كل أسف، بعداً اتهامياً. وتخضع لتحديد المواقع بشكل ميكانيكي في إطار ثنائية سلطة/ أميركا.
لا أودّ أن أتهم أحداً، لكن أرجو أن يكفّ الذين يرفضون الاتهامات عن اتهام الآخرين. وأخشى أن أقول إنّ العقلية واحدة: «العقل الأحادي» الذي لا يستطيع إلا أن يصنّف المختلف في خانة العدو.
هذه مقدمة يبدو أنها باتت لازمة ضرورية قبل كلّ نقاش ونقد، لأنه ليس من حوار عقلاني يجري. وأحياناً تنهال الشتائم والأحكام والتوصيفات بشكل «شوارعي».
رغم ذلك، قررت أن أناقش في المسائل المطروحة، لأن الوضع يفرض الحوار العميق من أجل توضيح السياسات الضرورية للمعارضة، وخصوصاً أن التغيير المطروح من قبل «إعلان دمشق» هو تدرجي وسلمي وهادئ كما يشار في الوثائق والتصريحات، وبالتالي أمامنا وقت يسمح بالحوار ما دام التغيير ليس «صبح غد»، وبالتالي ليست المسألة مسألة «وقف التغيير» كما يشير صديقي بكر صدقي.

تشريح «إعلان دمشق»

أنطلق بداهة من اختلافي مع السياسة التي قررها «إعلان دمشق». ولقد اعتبرت بأن التيار الليبرالي هو الذي انتصر في اجتماع المجلس الوطني الأخير. لماذا؟
في افتتاحية العدد الأخير (74) من نشرة الرأي التي يصدرها حزب الشعب الديموقراطي، ردّ على هذا الحكم بالإشارة إلى أن الإعلان يتشكل من تيارات مختلفة قومية ويسارية وإسلامية معتدلة وعلمانية وليبرالية. توافقت على أهداف مرحلية مشتركة، أو على برنامج مرحلي انتقالي، من أجل التغيير الديموقراطي.
في التسميات (والأدقّ: في الوسمات)، نعم. لكن في الرؤى لا. حيث إنني لا أبني التصنيف على ما كان قبل عقود، بل أبنيه على ما هو قائم الآن، لا أبنيه على انتماءات سابقة وأيديولوجيات كانت، بل أبنيه على ما تطرح القوى ويطرح الأفراد من رؤى وسياسات. فما هي سياسات القوى وهؤلاء الأفراد؟ ما هي كتل القوى المشاركة؟
لقد أُبعد الاتحاد الاشتراكي العربي الديموقراطي، وحزب العمل الشيوعي. وبالتالي لن أدخل في تصنيف هذين الحزبين، رغم أن الميول الليبرالية ليست بعيدة عن بعض من أعضائها. وربما كان حجمها كبيراً، لكن سماتها أنها قومية وشيوعية. لكن حين نتناول القوى «المهيمنة» سوف نجد أن أغلبية كبيرة في المجلس الوطني تنطلق من أحد موقفين:
الأوّل: وهي تلك التي كانت شيوعية سابقاً، تنطلق من إمّا التخلي عن الشيوعية وقبول الرأسمالية بشكل معلن، وهي تقبلها وفق وضعها الراهن، أي في إطار الليبرالية المتوحشة. أو أنها، وانطلاقاً من الماركسية ذاتها، وتأسيساً على وعيها الشيوعي التقليدي، تعتبر بأن المرحلة هي مرحلة التطور الديموقراطي الرأسمالي. وبالتالي فإن السياسات الاقتصادية يجب أن تقوم على الحرية واقتصاد السوق، والتخلّي عن دور الدولة الاقتصادي.
ومن يطرح هذه المسائل كتلة كبيرة شاركت في المجلس الوطني. وعديد منها متوتر ضد الاشتراكية ودور الدولة الاقتصادي، ويدعم العولمة دون تحفظات.
والثاني: وهي تلك التي تمحور كل ذهنها حول الديموقراطية، لتبدو أنها لم تعد معنية، أو أنها ليست معنية الآن ولحين تحقيق الديموقراطية، بأي هدف آخر، أو مسألة أخرى. وبغضّ النظر عن نيات أصحاب هذا الرأي، فإن الديموقراطية لا تتحدَّد بذاتها، بل تتحدَّد بالأساس الاقتصادي الاجتماعي الذي تقوم عليه. هل هو الليبرالية الاقتصادية أم دور الدولة التدخلي، أم الاشتراكية؟ فهي تقوم على تكوين اقتصادي اجتماعي مهما حاولنا الهرب من هذه المسألة. حيث إنّ للاقتصاد آليات يجب أن يُدار وفقها، وهو ما يؤسّس لتكوين اجتماعي محدَّد. لهذا حينما تطرح الديموقراطية بذاتها فإنها تخضع لما هو سائد في الاقتصاد. وما هو سائد هو الليبرالية الاقتصادية التي عمّمتها السلطة ذاتها، وبتسارع منذ سنوات. وهو ذاته السائد عالمياً. وبالتالي، فإن طرح الديموقراطية يأتي في ترابط مع الليبرالية الاقتصادية.

ليبراليّة طاغية

من هذا المنطلق فإن كل هذه الكتلة، وبغضّ النظر عن النيات، هي كتلة ليبرالية. وليست خلفيات الأشخاص، أي انتماءاتهم السابقة، هي التي تحدّد طابعهم الراهن. وحتى يمكن ملاحظة أن الحزب الشيوعي السوري، وعموم الأحزاب الشيوعية العربية، كانت ليبرالية رغم تسميتها بالشيوعية، حيث ظلت معلقة في حبل انتصار الرأسمالية، وعملت كمستشارة للبرجوازية (وإن كانت تتخذ سمات الاشتراكية الديموقراطية). وباتت المسألة الآن أوضح، لأنه لا خيار سوى الخيار الرأسمالي. وربما ينشأ خلاف حول طابع هذا الخيار الرأسمالي فقط، أي هل يجب أن يتحقّق في إطار الاندماج بالعولمة أو في إطار الصراع ضدّ «المشاريع الأميركية»؟ لهذا فليس رياض سيف فقط هو الليبرالي، وربما يكون أكثر تماسكاً في هذا المجال من كثير من الشيوعيين السابقين، الذين اندفعوا دون تدقيق في دعم الليبرالية وتبنّي أطروحاتها.

الليبراليّة ليست فلوساً

افتتاحية «الرأي» تردّ بشكلٍ فرض عليّ استحضار الياس مرقص (الذي سوف يدعم كشاهد لما تقول الافتتاحية). حيث إنها تساءلت: «أين هي الطغمة الليبرالية؟»، وردّت بالإشارة إلى «ما يملكون من ثروات». وهي تقصد هنا المتهمين بأنهم ليبراليون. استحضرني الياس لأنه كان يشنّ حرباً ضدّ هذا المنطق الحسّي، الذي يرى الليبرالية في «المادي»، «الملموس»، أي الثروة. بمعنى أن الليبرالية كما كان يمكن أن يقول، هي تجريد، فكر ومنطق. الليبرالية ليست فلوساً. فحين نشير إلى تيار ليبرالي لا يندغم ذلك مع القول «الأغنياء»، «أصحاب الثروة»، وحتى البرجوازية. بل نشير إلى فكر، إلى تصوّر فكري. فالليبرالي ليس فقط من يملك، وسنجد ممن يملكون من هم اشتراكيون.
الليبرالية أفكار يمكن أن يعتنقها أغنياء، وأيضاً فقراء، ومتوسّطو الحال. ولقد ركض خلفها طيف ممن هم من أصول فقيرة، كان يعتبر أنه شيوعي حتى نقيّ العظام. وكثير منهم كان مدافعاً عنيفاً عن الاشتراكية، إلى حدّ رفض أي انتقاد يمكن أن يوجه إليها. وبالتالي فالمسألة ليست مسألة «فلوس»، بل مسألة مصلحة، أو ميل لتحقيق مصلحة، أو كما يشير الياس كذلك، خطأ معرفي.
وهذا الفهم هو مشكلة قطاع كبير من الماركسيين، أو ممن كانوا ماركسيين. كان، وهُم ماركسيين، ولا يزال حينما أصبحوا ليبراليين أو ديموقراطيين. الفهم الحسي الذي لا يقوى على التجريد. ولقد أشرت إلى هذه المسألة لا لتثبيت نقطة في الحوار، وإن كان مهماً التوضيح بأن العقل السياسي ما زال يدور في «الحسي»، لم يمتلك التجريد، لهذا يلمس سطح الواقع (أي الأحداث والأشكال)، بل للقول إنّ التكتيك الذي يمارَس، يمارَس انطلاقاً من هذا الفهم. لهذا يطرح التحالف الذي يمكن أن يكون ضرورة في لحظة تحقق التغيير ولتحقيقه، أي في اللحظة التي يكون بناء التحالف ضرورة لتحقيق التغيير لا بشكل تدرجي... بل الآن. أي إنّ هذا التكتيك مبنيّ على اللحظة، رغم أن نصّ الإعلان يشير إلى التدرج، والسلمي، والهادئ.
وهنا يبرز التناقض الذي لا يجعل لهذا التكتيك أي معنى. ولأنه يفهم كذلك تختصر كل الأهداف في هدف وحيد، ويطلب وقف النقاش والبحث في كل القضايا الأخرى، وهذه سمة التغيير الآن وليس بعد. وبالتالي يتقلص فعل الأحزاب وينحصر في شريحة ضيقة بعيداً عن واقع الطبقات الشعبية. وبهذا أقول إنّ التحضير لتغيير طويل المدى، وسلمي وتدرجي وهادئ، يفترض صيغة أخرى للعمل. وبهذا أيضاً سوف يبدو هذا السعي للتغيير بعيداً عن مواقع الصراع الأساسية، أي الطبقات الشعبية (هذا التعبير الذي استثار صديقي بكر صدقي)، والتحلق حول البرجوازية. لأنه بات يتجاهل مشكلاتها، رغم أنها هي قوة التغيير.

ماركس وبوخارين مجدّداً

إنّ تجاوز الحسي يفترض التجريد، العقل والجدل، كما ظل الياس يصرّ في العقد الأخير من حياته. ولأنه ما زال هو «العقل»، تبدو المعارضة وكأنها تخوض صراعاً انفعالياً، ويعاني من الفصام: من جهة تطرح التغيير كهدف راهن، لحظي، ومن جهة أخرى تقول إنّه تدرجي وهادئ.
إنّ انفعاليتها تجعلها لا تتحمل التفكير في تأخّر التغيير، لكنها تقول إنه تدرجي، وطويل. لكن الانفعالية تلك تجعلها تختصر كل الصراع في هدف واحد، هو مشكلتها. وبالتالي فهو لا يؤسس لتغيير، لا تدرجي ولا طويل. لأن التغيير يفترض تغيير ميزان القوى عبر زجّ قطاعات شعبية في الصراع، تطوير صراع الطبقات الشعبية. وحدود هذا التحالف بعيدة عن ذلك، ولا تهدف إليه. حيث إنها تقوم على توحيد «الأحزاب السياسية»، كل الأحزاب المعارضة. لكن ما تمثيل هذه الأحزاب؟ هنا العمل ينحصر في «السياسي»، في «السطح السياسي»، في «النخبة السياسية». بينما تكمن المشكلة في انقطاع هذه «النخبة» عن القاعدة الاجتماعية التي تقول إنها تمثلها (الشعب)، ولن يحلّها التعلّق بشرائح من البرجوازية، أو حتى في الطبقة الرأسمالية بمجملها.
وككلّ فهم حسي، ينفرض الاتكاء على ماركس، إنجلز وبليخانوف وروزا لوكسمبرغ وبوخارين وآخرين، وكذلك لينين. بماذا؟ بأنهم «ثمّنوا في كتاباتهم المحتوى التاريخي الحداثي والتقدمي لليبرالية». وأنا كذلك أثمّن هذا المحتوى، مثل الياس مرقص وياسين الحافظ. لكن ما علاقة ذلك بالنقاش الدائر؟ هل هو القول إن انتصار الليبرالية في المجلس الوطني مسألة «تاريخية»، لأن هذا الاتجاه هو الذي يجب أن ينتصر، لأنه العقلاني والواقعي و«الماركسي»؟
طبعاً في هذا الطرح مستويات يجب مناقشتها. فأولاً الليبرالية كفكر وكاقتصاد (الرأسمالية) هي مرحلة تطور تقدمية، أسّست لمنجزات هائلة، وهي أساس الحداثة الراهنة. وهو كمفهوم فكري فلسفي، ثانياً، لم يبقَ مجرداً بل تبلور في سياق تطور الرأسمالية إلى أن تحدَّد في الليبرالية الاقتصادية من جهة والديموقراطية من جهة أخرى، وبالتالي لم تبقَ الحرية المجردة. وبالتالي ليس صحيحاً أن ينظر إليه كمفهوم فلسفي الآن، إلا كتجريد، بمعنى أن هذا «التعبير» هو تجريد. بمعنى دفقة الليبرالية الأولى، الفلسفية، اتخذت سياقاتها، تطورت وتحددت.
ولقد غدت الديموقراطية جزءاً من المشروع الماركسي، لكن ضد الليبرالية كما يؤكد مكرراً الياس مرقص: الديموقراطية ضد الليبرالية. بمعنى أن الماركسية غدت ضد الليبرالية رغم أنها تضمنت ما هو ضروري فيها. وأيضاً بمعنى أن الديموقراطية غير الليبرالية، والماركسية مع الديموقراطية ضد الليبرالية. وأن الليبرالية باتت هي الليبرالية الاقتصادية، ومجمل القيم المرتبطة بها، ومنها الحرية الفردية، وتقديس الملكية الخاصة. وهذه ما تدافع عنه الرأسمالية.
ثالثاً، هل ركز ماركس وإنجلز في البيان الشيوعي على أن حرية المجتمع تبدأ من حرية الفرد؟ لقد تأسست الماركسية على نفي هذه المسألة، التي كانت في أساس الليبرالية، وكل الفكر البرجوازي. لكن نفيها قام على تضمّنها. لهذا ركز ماركس (وفي البيان الشيوعي) على صراع الطبقات وحرية الطبقات. بمعنى أنه وضع الفردي في إطار الكلي. أعاد صياغة العلاقة بين الفردي والكلي، بعد أن كانت الليبرالية تضع الفردي بالضد من الكلي. قاتل الله النسيان!
أمّا لينين فيبدو أن الوعي الذي كان سائداً (والمعمم عبر الماركسية السوفياتية)، والذي كان يقول إنه بدأ منذ ثورة أكتوبر «الاشتراكية العظمى» بتحقيق الاشتراكية، هو الذي لا يزال قائماً. لهذا يشار إلى «تراجعه» مع السياسة الاقتصادية الجديدة «حينما نشأت لديه شكوك كثيرة حول إمكان انتصار الاشتراكية»، إلى الحدّ الذي فرض أن تنشأ لديه شكوك في إمكان انتصار الاشتراكية في الاتحاد السوفياتي كما تشير الافتتاحية.
مَنْ يراجع كتابات لينين منذ شباط 1917 إلى وفاته، سيلمس بأنه كان يدعو لتحقيق المهمات الديموقراطية (الإصلاح الزراعي، كهربة الريف، التحديث وبناء الصناعة) ولم يدعُ إلى تحقيق الاشتراكية. ولقد أتت خطوته الاقتصادية تلك في هذا السياق، حيث كان يبحث في الظروف التي يمكنها أن تنقل روسيا من تخلفها الإقطاعي إلى الحداثة، التي هي الخطوة الضرورية للانتقال إلى الاشتراكية. وهو مسبقاً كان يعرف بأن تحقيق الاشتراكية غير ممكن في مجتمع أقرب لأن يكون إقطاعياً. لهذا فهو لم يتراجع، بل ظل مصرّاً على تحقيق المهمات الديموقراطية، وفي ظل اقتصاد السوق كذلك. وبالتالي لا فائدة هنا من التشكيك، إلا للقول بضرورة الرأسمالية.
لكن إلامَ يهدف إيراد كل هذه الأفكار؟
هل للقول بضرورة الديموقراطية، أم بضرورة الليبرالية؟ أم ما هو موقع الديموقراطية في الماركسية؟
الخلاف ليس حول الديموقراطية، والماركسية تتضمن الحرية (لكن المحدَّدة) والديموقراطية، لكنها ضد الليبرالية. رغم أنها لا تفرض إلغاء اقتصاد السوق تماماً في سوريا وكل البلدان المتخلّفة. أي لا تدعو لتحقيق الاشتراكية الآن.
إذاً، هل الهدف هو إعادة تكرار الصيغة القديمة التي كانت أساس سياسة الحزب الشيوعي السوري (إلى حين نشوء سلطة البعث)، والقائمة على تحقيق التطور الرأسمالي؟ على دعم البرجوازية لتحقيق انتصارها، والديموقراطية؟ لن أدخل في نقاش بالاستناد إلى تلميح، رغم أن الوعي الشيوعي التقليدي ما زال متمسكاً في هذه الصيغة التي «هرهرت»، وأفضت إلى تفكك الحزب الشيوعي بعد نشوء سلطة البعث، وانهيار القاعدة الاجتماعية التي كانت له. وهي بالأساس كانت خاطئة، وتعبّر عن رؤية ستالينية. ولقد أوضح القرن العشرون مدى خطئها، وفشل كل الأحزاب التي التزمتها.
وحزب الشعب الديموقراطي يؤسّس رؤيته للديموقراطية على اقتصاد السوق في المستوى الاقتصادي، حيث إن طريق التنمية يرتبط «في الظروف الحالية باقتصاد السوق، وبفتح الأبواب للقطاع الخاص والاستثمار الرأسمالي، ودخول المغامرة المحتومة في منظمة التجارة العالمية والشراكة الأوروبية والمناطق الحرة المختلفة، رغم ما يرتبه ذلك من مصاعب وتحديات وآلام» (البرنامج السياسي).
والبرنامج لا يتضمن فقرة واحدة تطرح مشكلات ومصالح الطبقات الشعبية. وهذه «النغمة» هي نغمة أساسية عند أحزاب أخرى في الإعلان، ما يوضح بأنه ليس «النوايا» هي التي ننتقد، بل الرؤى المطروحة علناً من هذه الأحزاب وكتلة أساسية ممن حضر المجلس الوطني. وبالتالي فإن المسألة لا تقف عند رياض سيف كرأسمالي، بل إن هذه السياسات هي سياسات انتصار برنامجه، وبقيادته.
بالعودة إلى الياس وياسين الحافظ، اللذين يُذكران في السياق، أي في الموقف من الليبرالية، ويستحضران كشاهدين على تمجيد الليبرالية. إن الفكرة الأساسية التي بنيا تصورهما بخصوص هذه القضية عليها، هي تلك التي استمداها من عبد الله العروي، والتي تقول باستيعاب المرحلة الليبرالية دون المرور فيها. أي استيعابها في الوعي كمقدمة لوعي ماركسي تاريخاني (كما كان يسميه عبد الله العروي)، من دون أن تكون مرحلة ضرورية في التطور الواقعي. أي دون المرور بالرأسمالية. بمعنى أنهما، مع عبد الله العروي يقدران المحتوى التاريخي للرأسمالية (وليس لليبرالية فقط) دون أن يريا أنها قدر يجب أن نمرّ به. وبالتالي فالمطلوب هو استيعاب الليبرالية في الوعي في سياق تشكيل الوعي الماركسي، وليس التمسّك بإجبارية المرور فيها في الواقع. ولهذا فقد كانا يطرحان ما هو مناقض لسياسة الحزب الشيوعي قديماً، ولكل طرح ليبرالي، دفاعاً عن الاشتراكية. حتى وهما يطرحان مفهوم الثورة القومية الديموقراطية، الذي تأسس في الضدّ من الليبرالية، ومن المرحلة البرجوازية.

تهميش المعاكسين للتيّار

الليبرالية ليست سبّة، بل هي خيار اقتصادي سياسي. وبالتالي، ولكي يكون الحوار ذا منطق، ليس من ضرورة للمناورة، ولكيّ أعناق الكلمات. فالمسألة التي باتت واضحة إلى حدّ الفجاجة هي أن كتلة «النخبة» الثقافية السياسية تخلت عن شعاراتها الاشتراكية، وباتت تميل إلى اعتناق الليبرالية، من شكلها «العقلاني» إلى شكلها الفجّ. وهذا التكتل هو الذي صاغ «إعلان دمشق» منذ البدء. وإذا كانت هنا أحزاب متمايزة عن ذلك، رغم أنها لم تسلم منه، فقد جرى تهميشها في الاجتماع الأخير لإعلان دمشق، الذي بات مهيمناً عليه من قبل الليبراليّين، الذين يفصحون في الحديث الشفوي أكثر ممّا يكتبون، رغم أن كتاباتهم واضحة كذلك. لكن ربما ميلهم للقول إنهم هم المعارضة في الداخل يفرض عليهم هذه المناورة، حيث يتمسكون بماضي المشاركين، لا بواقعهم الراهن. وهذا التمسك سوف يفرض صراعاً مربكاً، ما دام الأصدقاء في الإعلان يعتبرون أنهم يمثلون كل طيف المعارضة (رغم الإشارة الواردة في البيان الختامي). بينما هذا الطيف أوسع ممن شارك في الإعلان. رغم أن الإعلان ضمّ كتلة أساسية من المعارضة بمشاركة الاتحاد الاشتراكي وحزب العمل.
لكن يجب أن يكون واضحاً أن المعارضة هي أوسع، وخصوصاً في صفوف المستقلين، حيث لم يمثل ــ في الغالب ــ سوى الليبراليين، لأن الآخرين رفضوا المشاركة لاختلافهم مع الإعلان، وهؤلاء كتلة كبيرة أيضاً.
لكن الأهم هنا هو التمثيل الرمزي للطبقات في المجتمع، حيث إن الوجود الأساسي هو لممثلي البرجوازية، أو الذين يطرحون برنامجها. وليس من ذكر للعمال أو الفلاحين أو حتى الفئات الوسطى، وليس من طرح لمطالبهم، حتى من قبل الأحزاب المشكّلة للإعلان. والسخرية من هؤلاء بادية من كل الكتلة الليبرالية. وإذا ما جرى التطرق إلى وضع معيشي يربط بالاستبداد فقط، وليس بالنهب الذي تمارسه الفئات الحاكمة والتجار الكبار، والسياسات الاقتصادية المتبعة. ويطرح تحت ضغط النقد وليس اقتناعاً وانتماءً في الغالب.
إذاً، هو تحالف الليبراليين الممثلين لفئات رأسمالية، والذين يسعون لإعادة صياغة العلاقة الطبقية من خلال إعادة صياغة بنية الدولة. بعيداً عن مصالح الطبقات الشعبية، تحت شعار الديموقراطية أولاً. هذا هو جوهر البرنامج المطروح في السياق الواقعي.

* كاتب سوري