تعقيباً على بيان أصدره ثلاثة من قادة الحزب الشيوعي العراقي (عزيز محمد، عبد الرزاق الصافي، كريم أحمد) تبرئةً لذمّة فخري كريم وتأييداً له في دعواه على مجلة «الآداب» بسبب افتتاحية رئيس تحريرها د. سماح إدريس ربيع عام 2007، ننشر ردّاً بقلم أقدم مسؤولي الحزب، السيد آرا خاجادور

آرا خاجادور *
لم أتوقّّع أن يُزَجَّّ الرفيق عزيز محمّد وسط معركة قضائية ضدّ مجلة «الآداب» (البيروتية موقعاً، والعربية والتقدّمية والإنسانية فعلاً ودوراً) بهذه السهولة، وبصفته الأمينَ سابقًا على أسرار حزبنا قبل مهادنة الاحتلال.
ولم أتوقّع أن يُجرجِرَ معه اثنين من أعضاء المكتب السياسي السابقين، وأن تُنتزَع منه شهادةٌ عجلى، وخاصةً أنه يَعلم أنّ الهدف من الدعوى التي أقامها فخري كريم على «الآداب» مجردُ محاولة بائسة لإخراس الأصوات الحرّة المساندة للشعب العراقي المحتل، ومجرّدُ محاولة فاشلة لتخويف بقية الأصوات المتألّمة على شعبنا. هذا إلى جانب أنّ الشكوى انطوت على محاولة تبرئة شخص من دون وجه حقّ، وبما يضرّ بمصلحة الحزب وسمعته وعلاقاته وتاريخه. وقّع الدفاعَ المشؤوم معك يا عزيز عضوَا المكتب السياسي السابقان (كريم أحمد وعبد الرزّاق الصافي). لم أتوقّع اعتراضًا من «أبي سليم» عندما طُلب منه الإدلاء بشهادته، ولم أستغرق كثيراً في البحث عن أسباب موقف «أبي مخلص». ولكنكم بدفاعكم المستميت (ربما إكراهًا) عن فخري كريم، قد نقلتم القضيةَ بأكملها إلى المستوى السياسي بحكم المواقع التي شغلتموها أنتم الثلاثة في الحزب في ذلك الحين. وهنا أصبحت مقولةُ «التمسّك بقواعد الصراع الفكري» في حالة يُرثى لها، وبات صمتي يعني المشاركة في حالة شائنة من جرّاء تزكية فخري كريم.
يا عزيز، هل أنت غير مطّلع على الخروق المالية في الحزب؟ على الأقلّ أستطيع أنا التحدث عن بعض التحقيقات التي تعرفها جيداً، والتي طالب أصحابها بإيداع رسائلهم عندي شخصيّاً. وللتاريخ عند الضرورة، ومن واجبي الأخلاقي، أن أصرِّح اليوم بذلك، ولا سيّما في ما يخصّ تلك الرسائل المتبادلة مع فخري.
وهل فخري، يا عزيز، هو الذي حصل على تعاقد لدعم «الثقافة الجديدة» من «مجلة السِّلم والاشتراكية»؟ وماذا عن سحب مسؤوليته عن «الثقافة الجديدة» في دمشق نتيجةً لضغوط من داخل الحزب؟ وقد أظهر ذلك الإجراء ضعفَ فخري، وقلة شطارته، وتحوّلَ إلى عاطل عن العمل. وكان حبل نجاته هو الاحتراف الحزبي، الظاهر لنا على الأقل، إذ لا مورادَ معلنة عنده. وأنتَ أعطيته الضوء الأخضر لتأسيس مجلة «النهج»، الناطقة باسم الأحزاب الشيوعية العربية. ولكنّ تأسيس «النهج» أطلق يد فخري من دون حسيب أو رقيب، الأمرُ الذي أثار استياء الأشقاء. إلّا أن المشاكل حـُلّت نتيجة لسمعة الحزب الجيدة، وأيضاً على طريقة سوق الحميدية وشارع الحمرا.
هناك ظروف ساعدت على تكدّس الأموال: فقد أغدقت موسكو الأموال على «النهج» بفعل تطابق المصالح بين التحريفية «الغورباتشوفية» و«البيريسترويكا» من جهة، و«المستعدّين» لاستبدال النجمة الخماسية بالنجوم المتعددة على الضفة الأخرى من الأطلسي من جهة أخرى. وقد أقيمت الندوات لنشر مفاهيم غورباتشوف التحريفية من أجل تدمير الحركة الشيوعية في كل مكان. وهذه الأموال وصل رذاذُها إلى بعض أعضاء اللجنة المركزية في اجتماع برلين الاستثنائي للحزب.
كنتُ قد كتبت نصّاً منذ انفجار الأزمة الأخيرة بين الكاتب والمناضل العربي سماح إدريس الذي يهمّه مصير العراق وكرامة شعبه، وبين أطراف لم تُقِم وزناً للوطنية العراقية ولا لشرف الأمة ومستقبلها.
نعم نازعتني رغبةٌ شديدة في إدانة نقل الصراع على تقدير المواقف والآراء إلى القضاء، كما فعل فخريكم: فعوضاً عن مقارعة الحجّة بالحجة، والرأي بالرأي، هرول إلى المحاكم. ونقول له إنّ أصحاب الفكر شجعان في الدفاع عن أفكارهم؛ وهذا ينطبق على القائمين على مجلة الآداب المعروفة والمرموقة، التي لم يقدِّم إليها البنتاغون بنساً واحداً.
نعم، لقد شعرت بواجبي تجاه الشهداء والثكالى والأرامل، وكلّ من انتُهكت كرامته وحقوقه. وعلى أساس ما تقدّم، فقد اتّخذت قراراً بالاعتذار من السيد سماح سهيل إدريس، باعتباري من أكبر الشيوعيين العراقيين سنّاً، وأقدمهم بين الأحياء في عضوية الحزب على الإطلاق، لأقول له: إنّ أحرار العراق والشيوعيين الحقيقيين، الفهديين منهم تحديداً، يشعرون بالامتنان لتعاطفك مع شعبهم، وهو في الوقت ذاته شعبُك كما شعبُ لبنانَ شعبُنا؛ وهذا بعد إعلان التقدير البالغ لدور مجلّتك المناضلة، التي خدمت الفكر والإبداع التقدميين، وخدمت نضال البلاد العربية عامة من أجل التقدّم والحرية والسيادة.
لم أتعرّف شخصيّاً إلى السيد سماح. ولكنّ ما أعرفه يقيناً هو أنّ أجيالاً من المناضلين في حزبنا وحوله كانوا يحتضنون مجلة «الآداب» وكأنّها من متطلّبات مدرستهم الثورية، التي تقوم على مبدأ صيانة حرية واستقلال الشعوب، صغيرِها وكبيرها، وعلى قيم التضامن. ولقد تردّدتُ في إرسال اعتذاري للأخ سماح كي لا يبدو الموقف كأنه خوض معركة ضدّ فخري كريم، علماً أني لا أشعر بتقصير في كشف مواقف هذا الناشر وتصرّفاته في الصحافة الوطنية وفي نشرنا الداخلي منذ عقدين على الأقل. ولقد وصلتني مناشداتٌ من عدد مرموق من الرفاق والمقاتلين السابقين في حركة الأنصار يطالبون فيها بشهادتي في الأزمة الأخيرة مع «الآداب». ووصلتني رسالةٌ من الكاتب العراقي التقدّمي جمعة اللامي، يطلب فيها شهادة صادقة ونزيهة حول ما تعرّض ويتعرّض له المثقفون في وحول حركتنا وحزبنا من بعض قادتنا الحزبيين. ولولا أنّ السيد اللامي نفسَه شاء أن يضعنا على المحكّ لنقول الحقّ حلواً أو مرّاً، أو هذا وذاك معاً، وعلناً (ويقيناً أنكم اطّلعتم على هذه المطالبة ومطالبات أخرى كثيرة غيرها منشورة في أماكن عدة)، لما كتبتُ مساهمتي الأولية هذه.
على الصعيد العامّ، تعرّض الوطن لاحتلال غاشم باعتراف المجتمع الدولي والمحتلّ نفسه. وليس هناك بشاعة على المستوى الفردي أو العامّ أبشع من بشاعة الاحتلال نفسه... طبعاً ما عدا محاولات تسويقه، أو التستّر عليه، أو خدمته. وعلى الثلاثة (عزيز وأحمد والصافي)، بل على رابعهم (فخري)، أن يعرفوا أنّ الشعب، ورجال الفكر الذين هم مصابيحُ رائعة تضيء طريق الشعب والطبقة العاملة، يقارنون بين الحميّة المتوقّدة من أولئك الثلاثة على كرامة فخري كريم وتناسيهم كرامة ومصير الشعب العراقي كلّه. مشكورةٌ مساهمةُ مجلة «الآداب» في مجال الإضاءة المذكورة، ولا يقلِّل من أهمية مساهمتها الشريفة قولي إنّ الشعب العراقي وجميع الشعوب الحرة تعرف الكثير الفادح عمّا يحلّ بالشعب العراقي، وتعرف أدوار الخونة، بل وأجورهم، بما لا تستطيع أية مجلة استيعابه!
اطّلعتُ على شهاداتكم المجروحة، وحزنتُ عليكم ولأجلكم. وكان من الأنسب أن تطالبوا فخري بأن يقدِّم شهادة ملموسة، لا على غرار تلك التي طرحها عبر قناة «العربية»، وخاصةً في الجوانب المالية. فقد تحدّث عن دعم مالي من هذه الجهة وتلك، ولكنه لم يحدّد الفترة التي يغطّيها المليون دولار. فهل هذا المبلغ عائدُ شهر، أم سنة، أم هو مجرّد أعلى رقم وصلت إليه ماليةُ الحزب على الإطلاق؟ أنا في تلك الفترة، موضوعِ الحديث، كنتُ في موقع يفرض على مَن كتبوا تلك «الشهادة» إطلاعي على العوائد المالية، بما فيها التي صرّح عنها فخري لتلفزيون «العربية» وغيره. وإنّ مجرد عدم علمي وعدم علم بقية المسؤولين في القيادة بها يعني أنّ ثمة شيئاً وراء الوراء أو خلف الزاوية... لقد فضحتُ قضية السياسة المالية للحرب، وذلك في رسائل علنية قبل 19 عاماً وإلى اليوم. ولمّا كانت هذه المسألة تُطرح الآن، وبهذا الحجم أمام الناس، فقد بات من قبيل المسؤولية الفردية والأخلاقية لفخري وللحزب رسميّاً أن تُطرح الحساباتُ أمام أعضاء الحزب والشعب. فشرفُ الحزب أغلى من كشف بعض الأسرار المالية، وخاصة أنّ فخري تحدّث في مقابلة «العربية» عن هِبات لا يعرف بها المكتب السياسي للحزب نفسه، أو على الأقل أهمّ غالبية أعضائه.
إنّي أسعى إلى إيقاف هذه المهزلة (الشكوى) الآن وفوراً. وأقول للثلاثة ولرابعهم: هل تريدون أن تأتوا على آخر ما تبقّى لحزبنا من شرف ومجد ومآثر؟ لو صارحتم أنفسكم بشأن هذه «الدعوى»، لسارعتم إلى إيقافها، ليس من أجل السيد سماح إدريس وتصحيح العلاقة معه ومع عامّة المثقفين غير المأجورين في آلة العدوان، ولا من أجل الحفاظ على الذكريات الطيبة لتضامن المبدعين في البلاد العربية معنا، بل على الأقلّ من أجل ألّا يحتلّ السيد سماح هذه المكانة الكبرى في ضمير كلّ مَن يناضل من أجل حرية الكلمة!
إنّ خطوة فخري استكملت رسم خطّ الدائرة الشيطانية للحطّ من مكانة الحزب عربيّاً. هل تليق بتاريخكم، وبكم، ممارسة الدعوة إلى الديموقراطية من خلال محاكمة الفكر عبر القضاء، لا عبر الحوار بين الجماهير؟ هل يليق بكم أن تصلوا إلى هذه الديموقراطية عبر المحتلّ المتحالف مع القوى الظلامية؟ وهل هذا ممكن أصلاً؟ وهل يمكن حزباً يدّعي أنه حزبُ الطبقة العاملة أن يتحالف مع بورجوازية الطوائف ولصوصها ضدّ الكادحين ومدنهم؟
لو كنتم حقّاً لا تريدون الانتقام من فخري لطلبتم منه سحب شكواه؛ فهي دعوى خاسرة على الصعيد الشخصي. ولكنّ الكارثة الكبرى هي على الصعيد العامّ، إذ أسهمت في تشويه حزبنا في نظر المبدعين العرب ـــــ وأنا هنا طبعاً لا أضع بينهم كتّاب البترودولار الرخيص، ولا المترجمين المرافقين للاحتلال. وأرجو ألّا ترفعوا دعوى ضدّي بتهمة الإسهام في تشويه سمعة «المحرِّرين». وعلى أية حال، فإنّ الوثائق في هذا الصدد وغيره كثيرة، حتى لو رفعتم الدعوى في واشنطن، لا في رمز حرية الكلمة العربية، بيروت العظيمة، على رغم كلّ مصاعبها. وسوف تظلّ بيروت عصيّة على كلّ غاصب ومحتلّ ومحتال، وذلك بأبنائها من أمثال سماح.
في الختام، أطلب بحزم سحب الشكوى ضدّ مجلة «الآداب» ومسؤوليها فوراً، وإلّا فسأكون في حِلّ من التقيّد بقواعد مسك اللسان، وذلك من أجل المصلحة العامة، وإلى حدٍّ ما من أجل المصلحة الحزبية الضيقة. إني اليوم أتريّث من أجل الرفاق ذوي النوايا الطيبة، الذين ما زالوا يعتقدون بأنّ التواطؤ مع المحتلّ والقوى العرقية والطائفية مجردُ شَطَطٍ وليس منهجاً، وذلك على الرغم من قناعتي بأنّ الأمر أبعدُ من ذلك، وأنّ الزبد يذهب جفاءً، ويبقى الحزب الذي هو من طراز فهديّ ثابتاً في الضمائر والقلوب، بل ونسعى إلى أن يكون في الساحات أيضاً مع الفقراء والكادحين: من زاخو إلى الفاو.
وأخيراً أسأل الثلاثة: أين موقع ترّهات الدفاع عن فلان من محنة الشعب العراقي؟ يا حسرتاه على حال مَن غرقوا في صغائر همومهم وفقدوا الإحساس بمعاناة الضحايا من أبناء شعبهم!

* قيادي سابق في الحزب الشيوعي العراقي