أسعد أبو خليل * هناك من يتذمّر من كثرة ما نعلّق على شمّاعة الصهيونية. هناك من يريد أن ننظر داخلاً، من يحاضر دوماً أنّنا بالغنا في تحميل الصهيونية مسؤولية جلّ مصائبنا. نتذكّر أدبيّات «النقد الذاتي بعد الهزيمة»، وهذا موضوع يحتاج إلى نقاش ونقد آخرين. لا، يمكن أنّنا أخطأنا في عدم لوم الصهيونية وإسرائيل بما فيه الكفاية. اسستسهلناها، لا بل أهملناها كثيراً وتعاملنا مع أخطارها بخفة.
هي نخرت مجتمعاتنا وأوطاننا حتّى العظام، حتى وصلت إلى النخاع العظمي، من لبنان إلى موريتانيا وما بين الاثنين.

«حظّك عاثر يا فلسطين»

أذكر أنّ بياناً صدر يوم وفاة جمال عبد الناصر عن حركة «فتح»، وهو كان مصوغاً، على الأرجح، من أبو عمار نفسه، استُهلّ بالقول: «حظّك عاثر يا فلسطين». وكأن الصراع مع إسرائيل هو ضرب من النرد، أو هو لعبة ميسر. تضرب فتُصيب أو تخطئ. الصهيونية بكّرت في التآمر ــ لنستعير الكثير من اللغة الخشبية لعلنا نتنبّه حيث ينفع التنبّه ــ على المجتمع. كان مطلوباً منّا أن نصمت وأن نستكين. كان مطلوباً ألا نلاحظ آثام الصهيونية في بلادنا. انشغلنا بأشعار ركيكة عن فلسطين من طراز: «ضجّت الصحراء تشكو عريها فكسوناها زئيراً ودخاناً» للأخطل الصغير. إسرائيل كانت تفعل، بينما كنّا نغنّي وننشد. صدر في كتاب هيليل كوهين، «جيش من الظلال» عن تاريخ التعامل الفلسطيني مع الصهيونية (صدرت الترجمة الإنكليزية للجزء الأول فقط) أنّ حاييم وايزمن زار فلسطين في عام 1920 وطالب مكتب استخبارات الحركة الصهيونية بوضع خطة شاملة لمواجهة الرفض العربي للصهيونية. وُضعت الخطة، وجاء في بندها السادس ما يلي: «العمل على استفزاز الشقاق بين المسلمين والمسيحيين». (ص 17 من النسخة الإنكليزية). (كان هذا في عام 1920، أي قبل 26 سنة من توقيع الاتفاقية المشؤومة بين البطريركية المارونية والحركة الصهيونية على ما تذكر كتب تاريخ تلك الفترة المعتمِدة، لا على كتب المنهج المدرسي المُقرر في لبنان التي تزعم كذباً أنّ لبنان حارب إسرائيل في عام 1948 مع أنّ الجيش اللبناني حرص على ألا يتخطّى الحدود مع فلسطين، وذلك مخالفة للخطة العربية الموضوعة بل على الوثائق الصهيونية من تلك الفترة).
كنا عندما نتّهم إسرائيل بالإيقاع بين الطوائف، نُواجه بالاتهام بالنزوع نحو نظرية المؤامرة، وهي، أي نظرية المؤامرة نفسها، ضرورة عقلية للفهم، وللمجابهة. وجاء في الدراسة المذكورة للمؤرخ كوهين أنّ إسرائيل لجأت إلى إنشاء تنظيم إسلامي مبكراً، وذلك لمجابهة اللحمة المسيحية ــــ الإسلامية التي عبّر عنها شعب فلسطين منذ البدايات في مواجهة الصهيونية. لا، ليست المسألة مسألة حظّ، كما جاء في بيان «فتح»، ولكن مسألة تخطيط وتآمر من جانبهم، ومسألة استكانة وخمول وارتهان من جانبنا. ثم كرّت سبّحة انقلابات عسكرية في العالم العربي تكاملت في الغباء والتقصير، أو أسوأ، مع الأنظمة الرجعية بالنسبة إلى المواجهة، أو عدمها، مع إسرائيل.
من كان يتوقّع للصهيونية أن تمعن في قلب المجتمع العربي تخريباً وتأثيراً وتقتيلاً؟ من كان يظن أنّ الدولة اليهودية ستعمّر؟ من كان يتوقّع أن تعيش إسرائيل أكثر من أنظمة وحتى كيانات عربية؟ ستّون سنة وبالكاد تتبيّن معالم العالم العربي. ما بهذا وعدنا اللاجئين من فلسطين. ما كان هذا عقدنا معهم. طالبناهم بالهدوء والسكينة، وفرضنا عليهم الطاعة قسراً، ولعقود. أطعمناهم أغاني رديئة وكذباً، وادّعينا أنّنا نعمل سراً لتحرير فلسطين. يذكر موسى العلمي في مذكراته كيف أنّ الرئيس السوري أخبر وفداً جال على الدول العربية لجمع المال والسلاح من أجل الاستعداد لمعركة تحرير فلسطين في عام 1948 أنّ حدّاداً في دمشق القديمة توصّل إلى استنباط قنبلة ذرية. عاد الوفد حزيناً بائساً مسلّماً بالهزيمة. أغاني وأناشيد وأهازيج. أما اليوم، فوزيرة الخارجية الإسرائيلية تُدعى إلى قطر لتعظ العرب في شؤون الديموقراطية والاعتدال. والدعوة تلك بمثابة أن تدعو ضحية مغتصبها للمحاضرة عن الأخلاق. تهافت الضيوف العرب للسلام على الضيفة الصهيونية في قطر. وبحث الوفد الإسرائيلي مع إدارة الجزيرة في «تحسين» تغطية الصراع العربي ــــ الإسرائيلي. ماذا كان فعل أحمد سعيد، مع غوغائيته وكذبه ومبالغاته، لو تقدمت منه وزيرة إسرائيلية لمصافحته في الستينيات؟ يظنّ البعض، بإيعاز من الرجل الأبيض، أنّ ذروة الحضارة تكمن في الحديث والتطبيع مع إسرائيل. لهذا، فإنّ وليد جنبلاط ألقى التحية على نائبة في الكنيست بعد أسابيع من غزو إسرائيل للبنان.

الليبرالية العربية وإسرائيل

كم تغيّر العالم العربي. جريدة «المستقبل» نشرت على صدر صفحتها الأولى أنّ المناورات الإسرائيلية الأخيرة في حرب مفترضة على لبنان كانت «دفاعية». لم تطلق الصحافة الإسرائيلية لفظة دفاعية على مناورات جيش الاحتلال. حازم صاغية، ربما في ذكرى النكبة، جمع شلة (أو ثلة ــــ بضم الثاء طبعاً) من اليساريين السابقين في منتدى «أشكال ألوان» لتحليل ظاهرة الأعمال الانتحارية. تحدّثوا عن العمليات الانتحارية كأنها، على بشاعتها، تقتل من المدنيين والأبرياء أكثر مما يقتل جيش الاحتلال (الإسرائيلي أو الأميركي).
الليبرالية العربية لا تلاحظ أنّ إسرائيل تصطاد أطفال فلسطين كما يُصطاد البجع. بزّت الشلة اليسارية السابقة الاستشراقية المبتذلة بعض الخبراء الغربيين. لم يبدوا أنهم قرأوا كتابات روبرت بيب الذي درس ورصد كل العمليات الانتحارية على امتداد أكثر من نصف قرن ونشرها في كتابه «الاستماتة من أجل النصر» (لم يُترجم إلى العربية بعد). وأظهرت دراسات بيب بما لا يقبل الشك أنّ لا علاقة للدين وللثقافة بالعمليّات الانتحارية، وأنّها تجري من قبل منظّمات تدين بعقائد وأديان مختلفة ومتضاربة، وأنّ العامل المشترك في الحافز يكمن في وسائل لمحاربة الاحتلال الأجنبي من قبل تلك الجماعات.
استنتاجات بيب تتناقض مع استخلاصات الثلّة التي تحدثت عن «قرابين»، كأننا في العهد الفينيقي، وعن «ثقافة موت» كأنّ هاني حمود أو وليد جنبلاط هو المُحلّل، أو مفتي صور وجبل صنين. مي الشدياق لم تتورع عن أن تسأل ضيفاً فلسطينياً أخيراً عن «الانطباع» اللبناني أنّ الشعب الفلسطيني باع أرضه. لم يرد لبناني واحد من الحضور، والضيف الفلسطيني الدحلاني تلعثم. لا تعلم مي الشدياق أنّ الصهاينة اليهود لم يتملّكوا بالشراء أكثر من 7 في المئة من أرض فلسطين في عام 1948. الباقي سُرق بالقوة تحت أسنّة الحراب. لا تعلم مي الشدياق أن القليل مما بيع، بيع من جانب الملّاك الكبار المهاجرين، مثل عائلات سرسق وسلام وتيان وتويني من لبنان. مي الشدياق، مثلها مثل أكثر اللبنانيين واللبنانيات، ماذا يعلمون عن قضية فلسطين؟
ماذا بقي من شعار تحرير فلسطين في عصر الدحلانية؟ هذه الأسئلة وغيرها ضرورية وملحّة في ذكرى ستين سنة على احتلال فلسطين. ستون سنة والشعب الفلسطيني في الشتات والمنافي، وإسرائيل والأنظمة العربية والمنظمات اللبنانية، المسيحية والسنّية والشيعية ــــ لنستعمل اللغة الطائفية التي يعهدها ويستسيغها لبنان ــــ تمعن قتلاً وتشريداً بالفلسطينيين. ماذا بقي من أحزاب وشخصيات وتيارات قامت وأثّرت عبر استغلال شعار تحرير فلسطين؟ ماذا بقي من حزب البعث والناصرية، وأنور السادات يقوم من جديد من بين الأموات؟ أفلام ومسلسلات تحيي عظامه وهي رميم. انتصرت الوهابية على الناصرية، وانتصرت الزئبقية على جورج حبش، وانتصرت الحريرية ــــ الكشلية على اليسارية.

«انتظار» غودو والتحرير

طبعاً، الجميع ينتشي في العالم العربي من مقالات رئيس الكنيست السابق، إبراهام بورغ، الذي يبشّرنا، عن غير قصد، بنعي الصهيونية. وهناك عوامل ضعف وسقم أكيدة في جسم الصهيونية والدولة الإسرائيلية، وإن كان بعض الخبراء يرصد منذ عقود حركة الهجرة المعاكسة ووضع الاقتصاد في إسرائيل ليوهمنا، بتوافق غير مباشر مع المصلحة الصهيونية، أنّه لا عمل ضرورياً ضد إسرائيل، وأنها ستسقط من تلقاء نفسها نتيجة عوامل ذاتية متفجرة. هذه الاتكالية كانت تخدم فكرة الاعتماد على الأنظمة الخائبة، كما أنها كانت تهدف إلى إبطال فعل المقاومة. كان علينا الإذعان، كما في مخيم اليرموك في سوريا، بانتظار «تحديد زمان المعركة ومكانها». الآن ننتظر «عودة» الأراضي المحتلة كما جاء في صياغة بشار الأسد في خطابه في قمة دمشق. وانتظار عودة الأراضي، من دون فعل مقاومة، سيطول أكثر من انتظار غودو. ما كان علينا إلا الانتظار، سنة، سنتين، ثلاثة، لكن ستة عقود؟
لكن هناك على المقلب الآخر صعوبات جمّة تزداد استفحالاً بشأن مواءمة حركة عنصرية متطرفة مع شعارات القرن الواحد والعشرين. تبدو الصهيونية بمقياس الليبرالية الحديثة (خارج الولايات المتحدة وبعيداً عن اليمين الوهابي العربي المتدثر نفاقاً بشعارات الليبرالية) نافرة تماماً. هي خارج الزمان والمكان. أين تذهب بحكم دولة الدين الواحد وبتفوّق عنصر على آخر على أساس الأصل والدين؟ وأين تذهب بمحاولة الدولة المزاوجة بين مزاعم ضحلة عن الديموقراطية ودولة التمييز العنصري الفاقع؟ أين تذهب بدولة الاحتلال التي تمارس العنف اليومي الجماعي؟ لا بد للصهيونية من الوقوع في فخ نصبته هي لنفسها، من دون أن تدري، كما يولّد الاستعمار من رحمه حركة مناهضة الاستعمار وفق منطق الدياليكتيك الهيغلي. وعدت الدولة اليهودية بالدولة الليبرالية، لتكشف من دون قصد عمق زيف ادّعاءاتها. كانت الحرب الباردة مناسبة للتغطية على تناقضات الوعود والادّعاءات الصهيونية. قامت الولايات المتحدة، ولا تزال، بالتستر على ما يشين حلفاءها من عنصرية ومن قمع ومن صهيونية ومن وهّابية.
الصهيونية، وإن كان القول إنّ فلسطين قاب قوسين أو أدنى نفاقاً، في مأزق حقيقي على الرغم من بذل سعد الحريري وحلفائه المستحيل لمساعدة إسرائيل بعد ورطتها في العدوان على لبنان. لم تبد إسرائيل بالضعف الذي بدت عليه في عداونها على لبنان في 2006، على الرغم من تغطية عربية لا سابق لها من جانب حكومات الأردن ومصر والسعودية ولبنان. لم تبدُ فلسطين أقرب ممّا بدت عليه. كان هذا يوم ذُعرت الحركة الصهيونية. ويقول المخرج هاني أبو أسعد إنّ قادة صهاينة في الولايات المتحدة تنادوا لعقد اجتماعات ولقاءات مغلقة بعد انتهاء الحرب مباشرة. أُصيبوا بالهلع فيما كان حلفاء آل سعود في لبنان ينفون أن تكون إسرائيل قد هزمت. اسألوا الجوزو أو مفتي صور وجبل صنين. لاحظوا في الغرب كيف أن الصهيونية ترنّحت في حرب لبنان، على الرغم من محاولات جادة للمساعدة من جانب الإعلام السعودي والحريري.
من يذكر كيف أن جريدة «المستقبل» عنونت بأن جيش الاحتلال الإسرائيلي وصل إلى مشارف الليطاني فيما كانت مارون الراس منيعة على الصهيونية؟ كانت حنة أرندت (وهي صهيونية جاء في سيرتها التي كتبتها اليزابيت يونغ برويل أنها كانت تمد منظمة صهيونية متطرفة بالمال قبل وفاتها، مع أنها كانت أول من تعرّض بالنقد الحاد لفكرة الصهيونية، وكان هذا قبل صدور كتابها عن «أيخمن في القدس») تقول باستحالة الجمع بين القوة (أو السلطة) والعنف. أي إنّ من يملك سلطة (حقيقية) لا يحتاج إلى العنف، والعكس صحيح.

العنف في العقيدة الصهيونيّة

تدرس تاريخ الصهيونية فترى أنّ وتيرة استعمال العنف من جانب الصهاينة لم تخف عبر العقود. لا بل إنها تزداد، مما يعني، وفق معادلة أرندت على الأقل، أن هذا الاستعمال الشامل للعنف دليل عجز عميق عن الحصول على السلطة الحقيقية. وكانت أرندت قد علّقت على فكرة رائجة في أوساط الصهيونية (وبعض الاستشراق) مفادها أنّ العرب لا يفهمون إلا منطق القوة (وكان فؤاد عجمي وبرنارد لويس قد قالا الشيء نفسه لبوش لزيادة إقناعه بجدوى غزو العراق)، بعد عدة سنوات فقط من إنشاء دولة إسرائيل. أرندت قالت إن الناظر إلى تاريخ الصراع العربي ــــ الإسرائيلي، حتى حينه، يستخلص أن اللغة الوحيدة التي لا يفهمها العرب، هي لغة العنف.
لكن الصهيونية حقّقت نجاحات. ترصد البدايات. هي نمت في رحم معاداة السامية. لم يكن تيودور هرتزل هو المؤسس الحقيقي. كان هناك سابق له (حتى لا نتحدث عن صهيونية جنينية كانت تسعى وفق شعارات مبهمة لزيادة هجرة اليهود إلى أرض الميعاد بدعم من بعض المتموّلين من اليهود)، يدعى ليو بنسكر. كتب كتاباً بالألمانية بعنوان ما ترجمته «التحرير الذاتي». حاول أنّ يحلّل ظاهرة معاداة السامية، وأن يقوّض دعائم فكرة ما يُسمى بالعبرية «الهاسكالا»، أي الفكرة الليبرالية التي تعتمد على وعود عصر التنوير من أجل تحقيق المساواة.

من دولة اليهود إلى الدولة اليهوديّة

أدورنو وهوركايمر في كتابيْهما، «ديالكتيك عصر التنوير» (ظهر في ترجمة عربية أخيراً)، أظهرا خطورة التنوير. عصر التنوير باهر في إشعاعاته وفي حروبه ووحشيته وفعالية عنفه). لم يضع بنسكر مداميك حركة سياسية. زعم هرتزل أنه لم يقرأ كتابه. هرتزل كتب كتابه الشهير، «دير يودنشتات»، والاسم بالألمانية يجب أن يُترجم «دولة اليهود» لا «الدولة اليهودية» كما درجت الترجمات حتى بالعربية. والفارق بين العنوانين كبير. لم يكن هرتزل ليكترث بيهودية الدولة. حتى إنّ رواد ما يسمى الصهيونية الثقافية، مثل أحد حاآم، الذي وجه انتقادات مبكرة إلى وحشية تعاطي المهاجرين اليهود مع السكان الأصليين ــــ شعبكِ يا فلسطين، انتقدوا ما رأوه من معالم أوروبية علمانية لطبيعة الدولة المرتجاة في كتاب هرتزل.
كان هرتزل يؤمن بضرورة إيجاد دولة ما في مكان ما لإيواء المهاجرين اليهود الهاربين من المجازر في أوروبا. وكان عنوان الفصل الخاص بمكان «دولة اليهود» في الكتاب المذكور «الأرجنتين أو فلسطين؟». ويسأل الطلاب في أميركا عند دراسة هذا الجانب من تاريخ الصهيونية عن سبب هذا الاستخفاف بوجود، حتى لا نتحدث عن مشاعر، السكان الأصليين. السبب واضح. فقد نبتت الحركة الصهيونية، التي أرساها هرتزل على أسس سياسية تنظيمية، في أوروبا، حيث لم يكن الاستعمار والاستيطان سُبّة. لم يكن الاستعمار سُبّة حتى لكارل ماركس، فما بالك بمؤسّسي الصهيونية؟. لم يُمثّل ذلك حرجاً. فقد سوّقت الصهيونية ذاتها كحركة أوروبية متحضّرة مقابل الشرق المتخلّف. هذا ما وعد وايزمان الغرب به.
تستطيع أن تسجّل انتصارات الصهيونية، الواحدة تلو الأخرى. بعد أن نشر هرتزل كتابه، جال على الجاليات اليهودية في أوروبا. وُوجه برفض مطبق من جانب اليهود المتزمّتين، وخصوصاً في أوروبا الشرقية. أمروه بأن يحزم أمره إلى جانب أرض الميعاد التوراتية إذا ما كان يودّ أن يحضروا مؤتمره. رضخ رجل السياسة. حضروا زرافات زرافات، وإن كانت اليهودية الأميركية، إما لاصهيونية، أو ضدّ الصهيونية لسنوات تالية. عُقد المؤتمر الصهيوني الأول في سويسرا في عام 1897. صدر الأمر باستعمار فلسطين، ووردت الكلمة في البيان الرسمي. لم تحمرّ وجناتهم خجلاً. على العكس، عاد هرتزل إلى الفندق مذهولاً ومبهوراً بظفر وشيك. كتب في يومياته أنّه يكاد يرى الدولة اليهودية (تحولت من «دولة اليهود» إلى «الدولة اليهودية» في أقل من سنة لاجتذاب المتدينين) تخرج إلى الوجود في خمسين سنة.
كادت النبوءة أن تصدق بالسنة. ليس صحيحاً أن هرتزل لم يتحدث عن أهل فلسطين من العرب. هو استشهد لما سُئل عنهم بالمثل الفرنسي: «من يسع وراء الختام، يسع وراء الوسائل». وهو كتب عن العرب في كتاب له ليس شهيراً (نُشر في عام 1902 قبل سنتيْن من وفاته) بعنوان «الأرض القديمة ــــ الجديدة» (نشر مقالة عنه الزميل محمد علي الخالدي في مجلة الدراسات الفلسطينية بالإنكليزية). كان القائد الثاني الفعّال بن غوريون، وإن كان وايزمان قد أدى دوراً دبلوماسياً مهماً في تاريخ الصهيونية، قد شبّه العرب بالأطفال. ترك البولشفية وراءه واعتنق الصهيونية. كان قراره استراتيجياً عندما قرر عقد المؤتمر الصهيوني في نيويورك في عام 1942. نقل مركز الثقل من أوروبا إلى عاصمة القرار الغربي. سوّق الصهيونية كما لم تُسوّق عقيدة من قبل: باعها اشتراكية لستالين والمعسكر الاشتراكي، وباعها غربية ليبرالية في معسكر «العالم الحر»، كما جاء في بيان بيلتمور للولايات المتحدة.
كانت الحكومات العربية لا تبيع إلا نفسها آنذاك. لم نكن نملك دموع السنيورة آنذاك، لكانت قد غيّرت وجه التاريخ. هي أفعل من الصواريخ، كما قال في واحدة من خطبه المذهبية الحماسية.

العرب الصهاينة

عرف بن غوريون كيف يقرأ متغيّرات الحرب العالمية الثانية، فيما كان الحاج أمين الحسيني لا يزال يعتمد على وعود نازية. لم يكن العربي الوحيد الذي تأمّل خيراً من الصهيونية. كان الملك عبد العزيز، على الرغم من تحالفاته المعلنة، معجباً بهتلر هو الآخر. وكان مستشاره الرحالة فيلبي مشكوكاً في ولائه البريطاني آنذاك. (لا نعلم الكثير عن محاولات فيلبي في لندن لإقناع قادة يهود بإعطاء مبلغ 20 مليون جنيه مقابل تأييد سعودي لإسرائيل). يذكر لي سفير أميركي سابق في السعودية أنه رأى على مكتب الملك الحالي خنجراً مهدى من هتلر إلى عبد العزيز. لكن، خرج شعار تحرير فلسطين من أيدي الأنظمة. خرج متأخراً ستين سنة بالتمام والكمال. لم يعد هناك من يعوّل على الأنظمة (مثل أحمد فتفت ــــ ما غيره ــــ الذي قال في عام 2003 إنّ خطاباً لبشار الأسد يعبّر «بصدق وعقلانية» عن موقف الشعب العربي، أو مفتي صور وجبل صنين، علي الأمين، الذي قال إن خطاب الأسد كان «تاريخياً» وأنّه «يحدّد مسؤوليات المرحلة»)، (السفير، 3 آذار 2003). المقاومة، الناجحة منها والفاشلة، انتقلت إلى أيدي منظمات غير حكومية، كما يدرج القول. البعض منها يعاني ثقل تحالفات مع أنظمة لا تكترث بالتحرير، وهي مستعدة لأن تبيع تلك التنظيمات بالسهولة نفسها التي باعت فيها عائلات لبنانية أراضي في فلسطين لليهود. شعب فلسطين، ومعه شعب العالم العربي، ضاق ذرعاً بوعود الأنظمة. انكشفت اللعبة، بعد ستة عقود طويلة، ذاق فيها شعب فلسطين مرارة الاحتلال وقمع المنفى.
تحاول الصهيونية النفاذ من باب الأنظمة. تقدّم آل سعود للنجدة. عرض الملك السعودي أن يراقص في رقصة العرضة (التي تفتن عقول الليبراليين العرب وتسحر ألبابهم، وخصوصاً في مهرجان الجنادرية العظيم في ذكوريته) كل زعماء الصهيونية إذا ما قبلت إسرائيل مبادرة توماس فريدمان.
لم ترضَ إسرائيل طبعاً. استجدى أكثر، وهو لا يزال يستجدي. شارك إسرائيل في حروبها، في فلسطين ولبنان وضد سوريا. عرض الفتنة المذهبية لعلها تساعد. هتف مرتزقة الدحلان في غزة قبل اندحارهم: «شيعة شيعة» ضد خصومهم من «حماس». لم تنطلِ. طُرد الدحلان ومرتزقته شرّ طرد. حاولت جيزيل خوري نجدة «أبو فادي» في مقابلة ألقت فيها باللوم على أسباب تقنية لهزيمته الشنيعة، على الرغم من المال الوفير.
تدخل إلى المخيمات. ترى الطريق... إلى فلسطين. تتحدّث إلى شابة لم ترَ عيناها فلسطين قط، لكنها متعلّقة بالوطن أكثر من تعلّق أهل لبنان بوطنهم المسخ هذا. ويتحدّثون في لبنان عن التوطين. وكلّ من يتحدّث عن التوطين في لبنان لم يدخل مخيّماً في حياته. (والحديث عن التوطين يذكّر بوعود سمير جعجع أثناء زيارته لأميركا بأنّ الإدارة الأميركية ستصدر ــــ بعد لحظات ــــ بياناً ضدّ التوطين. عاد جعجع إلى ربوعه ولم يصدر البيان. على العكس، صدر قرار «غير ملزم» عن الكونغرس ــــ وحدها مجلة «إيكونوميست» الرصينة أشارت إليه ــــ يحثّ على توطين الفلسطينيين في البلدان العربية المضيفة، كما شرح عضو الكونغرس جيرالد نادلر). ويظنّون في لبنان أنهم يقدّمون عظات عن الوطنية لشعب فلسطين؟ لكن، تدور الدورات، تتغيّر الشعارات والقيادات، يرث الأبناء العروش من آبائهم، يبقى شعار أبو إياد (وهو كان قد اقتبسه من العظيم جورج حبش) صائباً على الرغم من مرور الزمن: إن طريق فلسطين لا بدّ أن تمرّ من بيروت ومن كل عاصمة عربية، وخصوصاً في دول ما كان يُعرَف بالمواجهة.
أمّا البديل الوحيد الآخر فهو قد ورد صراحة في مقالة لرضوان السيد في جريدة الأمير خالد بن سلطان آل الإذعان (وهي غير جريدة الأمير سلمان، وهي غير جريدة الأمير خالد الفيصل، إلخ)، فهو قال: «المطلوب أن يحاول الأميركيون، وأن يستجيب الإسرائيليون». فبئس المحاولة وبئس الاستجابة. و«رمزي سعد» (وهو اسم مستعار ليساري سابق، لكن يمكن أن يختار «رمزي سعد» اسماً خاصاً بكل أمير يكتب في جريدته صاغراً). كتب في جريدة الأمير المذكور نفسه أن إسرائيل هي نموذج لـ«التعايش والمثابرة»، وهو دعا عرب فلسطين إلى «التصالح» مع تاريخ الصهيونية.
«رمزي سعد» هذا يتمثّل بعزّام عزّام، مثله الأعلى على ما يبدو، إذ إنه دعا عزمي بشارة إلى التمثّل به، وإن جَبن واختبأ وراء اسم مستعار ليلهج بحمده. اليساريّون السابقون يحتاجون إلى الصهيونية لعلّها تنقذهم من أهواء الرأي العام العربي. الصهيونية هي ملاذهم الأخير وأملهم. لكن من حظّ الشعب الفلسطيني أنّه في منأى عن كل السجالات. هو لا يكترث لكتابات فوضوية عربية آتية من كاليفورنيا، ولا يكترث أيضاً لكتابات دعاة «التنوير» العربي من أتباع يوحنا فم... التنك والشيخ ابن باز وعزّام عزّام. الفلسطينيون منصرفون إلى ما يجيدون: التصدّي والمقاومة والصمود حقاً، حتى الرمق الأخير ــــ رمق الصهيونية الأخير.

* أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة كاليفورنيا
(موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com)