محمّد مكيإن انهيار مجتمعات عظمى كانت قائمة سابقاً يعود إلى افتقار أهلها الفكري والروحي، فهم في بداية قيامها وصعودها يتحمّسون ويجهدون. وعندما تبلغ أوجها في الازدهار يطمئنون فيسكنون ثم ينصرفون من السعي لتحقيق النجاح إلى السعي خلف الملذات والهوى لتصاب هذه المجتمعات بالركود وتبدأ حركة معاكسة للتطور مكتفية بصورة العلم والتقدم وتاركة أسس بنائها. وأصعب ما في الأمور وأكثره مرارة واقعُ الفقير فكرياً لأنه لا يدرك فقره، وخاصة اذا استوغل الفقر في روحه وبات مقتنعاً بغناه لتراه يدلك على قصوره ويطلعك على رصيده المالي، في حين أنه خطا خطاه الأولى متأبطاً ذراع مجتمعه نحو الهاوية.
فكيف حالُ المجتمعات التي تخلّت عما بنته أصلاً وتزيّنت بحلّة غيرها كأنما ارتدت رداءً استعارته ولم تحصل على طريقة إصلاحه حين تمزقه، بل كيف يمكنها أن تقوم وهي تنهار أصلاً. هذه حال مجتمعاتنا العربية جميعاً، تراها بأبنيتها العالية ومروجها الخضراء خجولة تختبئ عند أول تهديد، لا بل تستسلم قبل أي نزاع، ولا تحاول حل مشاكلها بنفسها، بل تستعين بمن يرشدها لمصلحته وأهدافه.
ومهما تلاقت هذه المجتمعات العربية وتحاورت وخلصت إلى حلول، فهي لن تحصل إلا على الأوهام، لأن السبيل الوحيد لقيامها يكون بالوعي الكامل بفقرها الفكري والروحي.
عندما يدرك الإنسان حاجته إلى العلم الذي يُكوّن لديه فكراً متيناً، يسرع إلى طلبه، وعندما يطلبه عن حاجة ملحة، فهو سيسعى جاهداً لتحصيله بنفسه لا بأخذه عن عمى وتسليم. لن تقوم مجتمعاتنا العربية بحق، ولن تواجه أي كيان غاصب إلا عندما تبدأ بمعالجة داخلها وتعود إلى جذورها وتسعى لنقد ما قلدته لتتمكن لاحقاً من مصلحة أبنائها ثم جيرانها، فعند ذلك فقط تنفعها اللقاءات والحوارات وتمسي متكاتفة غير قابلة للخرق ولن تعود هدفاً لمطامع غيرها.