حتى لا تكون شخصيتنا قناعاً في مسرحيةرهيف فياض

1
الشخص والشخصيّة وشخصيّتنا في الثقافة وفي الفنون


«الشخص»، هو كائن بشري فردٌ، له من الخاصيَّات ومن الصفات، ما تجعل منه إنساناً، عضواًً في جماعة. ومن هذه الخاصيات والصفات، ما ورثه الشخص مع ولادته، ومنها ما اكتسبه خلال وجوده.
و«الشخصية»، هي مجموعة السمات، المادية والروحية والأخلاقية، التي تجعل شخصاً ما، يتميَّز عن الأشخاص الآخرين. وكما نجد في الشخص سمات موروثة، وأخرى مكتسبة، كذلك نجد في الشخصية، مُكوِّنات موروثة، وأخرى مكتسبة. وفي بعض المكتسب، ما هو أساس، في تكوين شخصية الشخص. ومفردة «شخصيتنا»، المقصود بها شخصية الاجتماع اللبناني، هي شخصيَّة شمولية، إنسانية، أولاً، وشخصية وطنيَّة لبنانية ثانياً، إذ إننا نتحدَّث عن اجتماع لبناني يتمتع بميِّزات أكيدة، وهي شخصية قومية عربية أخيراً، يكفي للدلالة عليها، تجذُّر اللغة العربية فوق الأرض اللبنانية، ووضوح ارتباط المصير اللبناني، بالمصير العربي الواحد. فالتخصيص إذاً، في مقولة «شخصيتنا في الثقافة»، إنما يدلُّ على انتمائنا. وهو انتماء مركَّب أكرِّر، وطنيٌّ لبناني، وقومي عربي. و«شخصيتنا في الثقافة»، هي بدورها، في الموروث منها وفي المكتسب، وطنية لبنانية، وقومية عربيَّة. وربما ساعدتنا بعض التعاريف للثقافة، على أن نرى في ثقافتنا الوطنية والعربيَّة، ما يجسِّد شخصيتَّنا.
فالثقافة وفق هذه التعاريف، هي ذلك المركَّب المتجانس من الذكريات، والتصوُّرات، والقيم، والرموز، والتعبيرات، والإبداعات، التي تحتفظ لجماعة بشرية...، بهويتها الحضارية، في إطار ما تعرفه من تطورات، بفعل ديناميكيتها الداخلية، وبفعل قابليتها للتواصل، والأخذ والعطاء. والثقافة، بهذا المعنى، هي المعبّر الأصيل عن الخصوصية التاريخية لجماعة بشرية ما. والخصوصية التاريخية، هي ديناميكية متحوِّلة، فيها الأصيل الموروث، وفيها الجديد المكتسب.
تختصر الثقافة إذاً، الشخصية الوطنية. و«شخصيّتنا في الثقافة، في العمران وفي العمارة وفي الفنون»، هي جزء من ثقافتنا الوطنية، أو هي جزء من «شخصيتنا الثقافية». وما مواجهة «شخصيتنا الثقافية للعولمة»، سوى جزء من مواجهة شخصيتنا الوطنية لها.


2
شخصيتنا في العمران وفي العمارة ومواجهتها للعولمة


نشير في هذا السياق، وقبل الكلام عن العمران وعن العمارة في لبنان:
- إلى أن العُمران هو البنيان، أو ما يعمَّر به المكان وتُحسَّن حالتُه من كَثرة الأهالي فيه. أما العُمران عند ابنِ خلدون فهو المجتمع، إذ يعرِّفه بكونه التساكُن في (مصرٍ) أي في مدينة، أو في (حِلّةٍ) أي في قرية، للأنُس واقتضاءِ الحاجات، لما في طباعهم من التعاون على المعيش.
- والعِمارة (بكسر العين) في اللغة العربية، هي (السكن، الإقامة، الأهل). فالفعل عَمَر المكان (بفتح الحروف الثلاثة) يعني سكنَ المكان، أو أقام فيه، وبذلك يكون المكان قد عمُر بمن فيه (بضم الميم)، والبيت معمورٌ، أي مسكونٌ، أو آهل.
- والعِمارة في الموسوعات الغربية المعاصرة، هي فنُّ البناء، وفق قواعد جمالية وهندسية محدَّدة. إنها فنُّ جماعي ينِّظم المجالات المبنية، لتحتضن حياة الناس، ولتكون إطاراً لأعمالهم، ولهوهم، وترفيههم، ومجالاً، لا ينحصر في الصروح، بل يتناول الملجأَ والكوخ والأثاث، وكل ما يستعمله الناس في حياتهم اليومية.
- والعمارة، هي متانةٌ، وفائدة، وجمالٌ، والقولُ (لڤيتروڤيوس)، في العقد الثاني قبل الميلاد. أو إنها في قول «حديث»، وليدة التقنيات والمهارات، والمواد المستعملة، أو إنها تلبي حاجات ثلاثاً متأصِّلة في الإنسان، هي الحاجة الانتفاعية، والحاجة الجمالية، والحاجة الرمزية، والقول (للجادرجي). أو إنها، في رؤية أخرى معاصرة، ناتج السيطرة المطلقة للتكنولوجيا المتقدِّمة، على طرق البناء. وعلى المعماريين، كي يحافظوا على موقعهم المهني، أن يسيطروا على طرق بناء التكنولوجيات، والقول (لبرنار تشومي).
- مُعظم المفاهيم إذاً، ترى في عِمارة اليوم، ناتجاً اجتماعياً، تصنعه التكنولوجيا، والتقنيات، والمهارات، والمواد. إنها فعلُ مجتمع، تشهدُ على المجتمع الذي أنتجها في زمنه وفي مجالاته. إنها تشرحُ المجتمعَ وتفسِّره، في الوقت ذاته، الذي يفسِّر فيه المجتمعُ العِمارةَ ويشرحُها.
- فالعُمران والعِمارة، ليسا فناً. والعمارة تحديداً، ليست فناً كاملاً أو فناً فقط، وإن قال البعض بأنها تقترب من الفن بكونها تختزن قيمة جمالية، أو إنها تثير فينا المشاعر كما يقول (لوكويوزبيه)، أو إنها تلامس الموسيقى بتجانسها، وبتناغمها، وبالإيقاع العذب فيها. العِمارة ليست فناً فقط. وهي، في مواجهة العولمة، جزءٌ من مواجهة الاجتماع اللبناني والعربي بكامله، لها. والمواجهة هذه، هي في مضمونها، مواجهةٌ قديمة، استمرت طيلة سنوات القرن العشرين، وإن اتسمت عولمةُ اليوم، ببعض الخصوصيات.
2ــ 1ــ بداية القرن العشرين
- لقد فرض الانتدابُ الكولونيالي الفرنسي علينا، والانتداب للتذكير هو عالمي، فرض الانتداب علينا في بداية القرن العشرين بالعنف العسكري، تنظيماً مُدُنياً منقولاً، يفترض باسم الحداثة، هدم النسيج المُدُني التقليدي القائم، والبناء فوق الركام، واعتمد سياسة الأرض المحروقة. والأمثلةُ ظاهرة في بيروت، وفي أماكن أخرى في لبنان وفي الوطن العربي. لم يكن لنا رأي في ذلك، إذ أتوا بمهندسيهم، وبمنظمِّي المدن عندهم. جاء الأخوان (دانجيه) في الثلاثينات، وتبعهم (إيكوشار) بمهمة عسكرية خلال الحرب العالمية الثانية. كان للانتداب، الاحتلال، والسلطةُ، فغيَّب الاعتراضات الحاسمة على ممارساته في حقل تنظيم مدننا، إلا أن الدلالة على مقاومة النسيج التقليدي للتنظيم المُدني المسقط بالمظلّات، تظهر اليوم في معظم مدننا التاريخية. وأكتفي هنا بالإشارة، إلى أن مقاومة النسيج المُدني في بيروت، منعت ساحة النجمة من أن تكتمل.
- أما في العِمارة فاستطعنا أن نواجه. ربما لأن المحتل الكولونيالي أظهر بعض الليونة في هذا المجال، أو لأن عِمارة الطرز الدولي لم تكن قد سيطرت على العالم بعد. فاستطاع بعض معماريينا، بالمقاومة وبالمهارة، أن يحافظوا على ملامح من شخصيتنا في عِمارتهم. فأنتج بعضهم عِمارةً حافظت على خصائص محلية، فعُرِفت باسم «العمارة الكولونيالية المستعربة»، إذ ظهرت فيها سمات، لهوية عربية اسلامية في العمارة. وأنتج بعضُهم الآخر عِمارةً مهجَّنة، عُرفت بـ«العمارة المشرقية». والتهجين فيها، هو تلقيح هيكل عمارة السكن، المصنوع من الخرسانة المسلحة الوافدة حديثاً، بعمارة البيت البورجوازي ذي اللغة المعماريَّة المركَّبة، (العثمانية، العربية، الإيطالية)، الذي انتشر في بيروت وفي بعض المناطق، ابتداءً من منتصف القرن التاسع عشر، وعُرف تجاوزاً بـ«البيت اللبناني». تراكمت المساكن طوابق تستلهم نموذج «البيت اللبناني» كما عرَّفناه، وتستلهم نموذج واجهته. وتكرّرت إيحاءات الأقواس الرخاميّة الثلاثة في وسط الواجهة، بصياغة جديدة، وبتعداد الطوابق فيها. فبدا التهجين ناجحاً. وبقيت شخصيتُنا واضحة، رغم الأعمدة المشغولة والتيجان المعقدة، ورغم الزخارف الكثيرة، وقد نُقِلت كلُّها عن أنماط معماريَّة غربية متعددة. كانت اللغة المعمارية هجينة، إلا أنها رفضت، النقل والخضوع، معاً.
2ــ 2ــ الزمن الإمبريالي...، وعقود ما بعد الاستقلال
وفي الزمن الإمبريالي في القرن العشرين، أي في العقود التي تلت الاستقلال، عمَّت بيروت وسائر المدن، عمارة «الطرز الدولي». وكانت ممارسةُ معظم المعماريين اللبنانيين، نقلاً بدائياً ملوِّثاً. أما ممارسة البعض منهم، فكانت اقتباسات متفاوتةَ النجاح، في إنتاج عِمارة ملائمة لواقعنا الجغرافي، والثقافي، والاجتماعي. وإذا غابت شخصيَّتُنا في العمارة، عن أعمال معظم المعماريين الذين نقلوا ببلادة عمارة «الطرز الدولي»، فإن نسبة حضورها في أعمال الآخرين، قد تفاوتت بتفاوت نسبة نجاحهم في الاقتباس.
لن أتناول أعمال النقل البدائية كما وصفتها. أما المعماريون الذين اقتبسوا، ونجحوا بتفاوت في إنتاج عمارة ملائمة، فقد تعددت مصادر اقتباسهم.
- ويأتي المعمار أنطون تابت في مقدَّمة الذين اقتبسوا بنجاح، وأنتجوا عمارةً أليفة أحببناها، وشعرنا بها وقد تكاملت مع المكان، فاحتضنت روحه. لقد تتلمذ أنطون تابت على المعمار الفرنسي الفذ (أوغست بيريه)، فأحسن استعمال الهيكل الإنشائي الخرساني الظاهر في الواجهات، والمتتابع بإيقاع ينظِّم المجال المبني. كما أحسن استعمال الحجر الخرساني، يوحي تكراره بين الأعمدة، بقياسات المبنى. كما أحسن أيضاً استعمال الأحجار الخرسانية المفرَّغة، (كلوسترا) في الشرفات، وفي الجدران، فأعطى بذلك إيحاءات لبنانية مشرقية عربية واضحة. اقتبس أنطون تابت في بعض أعماله بإحساس ظاهر، وبثقافة مشرقية واضحة. فأعطى، عبر الاقتباس من الحداثة الغربية، عمارةً توحي بشخصية محلية، هي جزء من ثقافته الوطنية العربية، المواجِهة. ومن الاقتباسات الناجحة، تلك التي استظلت (الباوهاوس) بتعاليمه عن الأحجام المتناغمة، والأشكال الهندسية الصارمة، واللاتماثل الضروري والمتوازن، الذي يحكم مجمل الكتابة المعماريَّة. إنها قراءةٌ للعِمارة من زاوية «التجريد الهندسي» في الرسم، كما ظهر في أعمال «موندريان». وثمة اقتباسات مُميَّزة في هذا الاتجاه، في العقدين الخامس والسادس من القرن العشرين.
- ومن أبرز الذين ساروا في هذا الطريق، المعماران شارل شاير وواثق أديب، والمعمار جورج ريس. عمل هؤلاء المعماريون تحت سقف الحداثة، بفهم عميق لمعاييرها، فأنتجوا عمارة، بدت فيها بخفر شديد، بعض ملامح الشخصية المحليَّة، عبر ملاءمتها المزدوجة:
ــــــ للظروف المناخية العامة، (الشرفات الناتئة المظلَّلة، وكاسرات الشمس، والأحجار الخرسانية المفرَّغة «مشربيّات»).
ــــــ وللتزاوج الناجح نسبياً، بين الحداثة المقتبسة، والأساليب التقليدية في التنفيذ.
- ومن أبرز الذين أحسنوا الاقتباس من عمارة الحداثة، مع مراعاة الظروف المناخية وطرق التنفيذ التقليدية، المهندس جوزيف فيليب كرم. ربما ساعده على ذلك، اقتباسه من العمارة المتأقلمة مع محيطها، والآتية من بعيد، مع أعمال أوسكار نيميير، وخوسي لويس سرت.
- وتبقى محاولات إبراز الشخصية المحليَّة في العمارة، في ظل الاقتباس من عمارة الحداثة، عبر محاولة جدية لاحتضان روح المكان، (بمناخه، وبنماذج بيوته، وبتقاليد ناسه)، تبقى هذه المحاولات أكثر وضوحاً، في بعض أعمال المعماريَّين عاصم سلام، وجاك ليجيه بلير، الأخيرة.
2ــ 3ــ قنوات التأثير، وسمات الاتجاهات الاقتباسية، وميزاتها
كانت قنوات التأثير في أعمال معماريينا، إذاً متعددة. إلّا أن الاتجاهات الاقتباسية جاءت، بمعظمها:
- انتقائية، ساعد على ذلك، التكوين الأكاديمي المتعدِّد للمعماريين اللبنانيين، الذي يلامس الفوضى*، وبيئتنا الثقافية المتنوعة، التي يريد لها البعض، أن تكون متعدِّدةً، لا تنصهر في ثقافة وطنيَّة عربية جامعة.
- وتجريبية، دون رابط نظري، ودون ممارسة مهنية، منهجية، واضحة.
- وفردية، انحصرت غالباً في عمل معمار فرد، ولم تخلق جماعة فكرية، تنتج تياراً نظرياً متماسكاً يَفعلُ، في العِمارة، وفي الثقافة. لقد أسهم هاجسُ المكان، عند بعض معماريينا البارزين، في صُنع العِمارة، وفي دفعها نحو نوع من التكامل الخجول، مع محيطها العمراني. إلا أن المكان، عند هؤلاء، بقي محصوراً في البيئة الجغرافية، وكأنها بيئة غير آهلة. فأهملوا البيئة الإنسانية، في طريقة عيشها، وفي علاقتها بالأرض، وبالآخر. أهملوها في مكوناتها الروحية والانتمائية. فجاءت معظم أعمالهم:
- هامشية، بقيت خارج الثقافة الجامعة، لم تلامس مشاعر الناس، ولم تصل إلى أعماق وجدانهم، فتسهم بالتالي في صنع تحولات هادئة في النسيج المُدني، تُكمل المشهد العمراني في الزمن، دون انقطاع فجّ عنيف. بل أسهمت رغم نجاحها النسبي، في اقتلاع المحيط العمراني الموروث بسرعة مذهلة، لتحلَّ مكانه، عمارةُ الطرزِ الدولي الملوِّثة.
- جاءت معظم أعمال معماريينا، في أغلب اتجاهاتها الاقتباسية، دون أيّ قيمة رمزية، غريبة، مغرِّبة.


3
العولمة في عالم متعدِّد الأقطاب


نعود إلى العولمة المعاصرة، بعد هذا التوقف عند مواجهتنا، في الثقافة، في العمران وفي العمارة، لعولمة الزمنين الاستعماريين، الزمن الكولونيالي، والزمن الإمبريالي. نعود إلى «الكوكبة»، كما عرَّف (إسماعيل صبري عبد الله) العولمة، لنرى فيها دلالة على بداية النهاية في الحرب الباردة، بانتصار الرأسمالية الما بعد الصناعية، وهزيمة الاتحاد السوفياتي والمنظومة الاشتراكية. وفي هذا يكمن الفرق الأساس، بين «العولمة الكوكبة»، وكل المنظومات الكونية التي سبقتها.
- ففي بداية الثمانينات من القرن الماضي، كانت الولايات المتحدة الأميركية مكتفية، بكونها متقدِّمةً على شركائها في نادي الدول السبع الأكثر قوة وثروة. فظهر العالم رأسمالياً، متعدِّد الأقطاب، الولايات المتحدة الأميركية، أوروبا، واليابان. وتمثلت أدوات العولمة الرئيسة، بالشركات المتعددة الجنسية، وبالاستثمارات المالية الكبرى، وبالثورة الرقمية والاقتصاد الإلكتروني، وبثورة الاتصالات والمعلوماتية وما أتاحته من سيطرة على الإنتاج، وخاصة الإنتاج عن بعد، وبالسيطرة على الإعلام المرئي والسيطرة على الإعلان، وبالسيطرة عن طريق كل ذلك، على أنماط الاستهلاك، وعلى الفكر والأذواق والسلوك، وعلى كل القيم. وبإنشاء سوق عالمية واحدة، والسيطرة عليها بأداتها الرئيسة، منظمة التجارة العالمية.
- وفي السوق الواحدة، والإعلام الواحد، والإعلان الواحد، والاتصالات الفورية في كل المجالات، وفي الإنتاج الإلكتروني، يَسقطُ التاريخُ كما يزعمون، وتسقط معه الجغرافيا أيضاً. فلا مكان منعزلاً في العالم، ولا وطن مستقلاً بالفعل، ولا حدود محميَّة، ولا ثقافة متميِّزة. «تتعولم» الأمكنة «تتكوكب»، وتزول الفروق بين الداخل والخارج، وتتكوّن أنواع من «الطوائف الجديدة» يزعمون مرَّة أخرى، أن هويَّتها السوق، ووطنها حيث تصل منتجاتها الأثيرية. فتتراجع الجغرافيا السياسية، من علاقات بين الدول، لمصلحة علاقات جديدة تقوم على استباحة الحدود الوطنية. فتتكوّن بفعلِ كل ذلك، هويات ثقافية مرنة، متعدِّدة الانتماءات، يزعمون مرة ثالثة. شأنها، هو شأن الشركات المتعدِّدة الجنسية، وشأن رأس المال المالي، اللذين لا وطن لهما.


4
نهاية العولمة وحلول «الأمركة» أو «الكولونيالية الأميركية» مكانهاولن نفهم ظاهرة غياب الشخصية الوطنية والقومية، في بعض أوجه الثقافة، في العمران وفي العمارة، في ظل الهيمنة الأميركية، إلا إذا رأينا في هذه الظاهرة، جزءاً من التأثير المدمِّر للهيمنة الأميركية، في مجمل حياتنا الاجتماعية والثقافية. فاللافت في هذه الهيمنة، هو تعميم نمط الحياة الأميركية بكل الوسائل.
ــــــ يبدأ هذا التعميم، بقلب كل القيم، وكل المفاهيم، وكل المقاييس. وبتعميمِ بدائل لها، آتية من الولايات المتحدة، عبر مختلف وسائل الاتصال. ومن هذه القيم الوافدة، موقع الجسد، في اهتمامات الناس وفي اهتمامات الشباب خاصة، وموقع اللياقة البدنية ومعايير الفتنة، والموقف من السيارة كوسيلة للظهور الاجتماعي، والتركيز على الكماليات، كالعطور، ومستحضرات التجميل، وجراحة «نحت» الجسد، ومساحيق التنحيف... إلخ.
ــــــ ينجم عن كل ذلك، تعميم أنماط استهلاكية، وافتعال حاجات وهمية، ودفع الناس إلى استهلاك نهم، لما تتطلَّبه الحاجات الوهمية هذه (الهاتف الخلوي، وصفات الريجيم المعقَّدة، أكسسوارات الزينة...).
ــــــ كما ينجم عنه أيضاً، إفراغ الإنتاج البشري والإنتاج الوطني، من أيّ قيمة، وتحويله إلى سلع، في المأكل، والملبس، والموسيقى، والسينما، والتلفزيون، في العمارة والمدينة...، في كل شيء.
ــــــ ويصبح الأغنياء، هدف كل اهتمام. إذ تتوافر لديهم القدرة على الشراء، ويُهمَل الآخرون. فيسود بين الناس قانون الاصطفاء، وكأن المجتمعات غابة وحوش، البقاء فيها للأقوى. والقوة هنا، هي القدرة على الشراء.
ــــــ فتزداد الفروق الاجتماعية، ويسود سوء توزيع الثروة الوطنية، وتبرز فروق فاقعة في مستوى الحياة، بما يساعد على استفحال الرشوة، وعلى فساد الدولة وإضعافها، وتحولها إلى مجرد دركي، لحماية المصالح الخاصة.
ــــــ ولتثبيت هذا الانحدار الاجتماعي، تمعن الثقافة الأميركية الرائجة، في التركيز على وهم «فردية» الفرد، بهدف إلغاء مفهوم الجماعة. كما تبالغ بـ«الخيار الشخصي»، باسم الديموقراطية والحرية وحقوق الإنسان، منعاً لأي اختيار جماعي، يعزز مفهوم التعاضد الاجتماعي. وتركّز على مفهوم «الإنسان الفرد المستقل»، غير المنتمي إلى أيّ قضية، خارج انتمائه إلى «الإنسانية»، بما يساعد على طمس كل الفروق العرقية والاجتماعية الموجودة والظالمة، ويسهم في حجب الصراعات التي يعجُّ بها المجتمع. إن إغراق مجتمعنا بكل هذه الآفات، يُعمّق الشعور الكامن بالهزيمة لدى الشباب خاصة، ويقتل فيهم روح الصمود والمقاومة، ويدفعهم إلى الاستسلام أمام الغطرسة الإسرائيلية، تحميها اليوم، الهيمنة الأميركية المطلقة.


5
شخصيتنا في الثقافة، في العمران وفي العمارة بمواجهة «الأمركة»


ثمة استنتاجات عدة، نستخلصها من البحث في مسألة شخصيتنا في الثقافة، في العمران وفي العمارة.
أولها: أعادت الولايات المتحدة الأميركية في العقد الماضي وفي العقد الحالي، الكرة الأرضية إلى الزمن الكولونيالي، لتسيطر عليها بمفردها.
ثانيها: يبدو جلياً من الاستنتاج الأول، أن «العولمة التعدّدية»، مفهوماً وأدوات، قد سقطت، لمصلحة «الأمركة» مفهوماً وأدوات، أيضاً. «فالعولمة» في المفهوم، هي الهيمنة الخادعة، اللطيفةُ المظهر، أدواتها ليِّنة، تكاد تكون غير مرئية، وإن اعتمدت ثقافةَ الصورة منطلقاً. أما «الأمركة»، فهي الانصياع الذي لا لبس فيه، والخضوع المطلق للزمن الكولونيالي الجديد، وأدواتها عسكرية دموية، دون لبس أو تعمية.
ثالثها: لا تكتفي «الأمركة»، بما كانت قد اقترحته العولمة، من هيمنة على الوطن، ومن اجتياز حدوده عنوة، ومن اختراق ثقافة الجماعة فيه، مع إيهامها بالمشاركة في ثقافة عالمية تختصر القيم الجديدة. بل تصر، على إزاحة كل أشكال الوجود الوطني السابق لسيطرتها، وعلى استبداله بوجودها في كل الميادين:
في الموقع العالمي، والاستقلال الوطني، والهوية الحضارية، والخصوصية التاريخية، وصيغ اجتماع الناس.
رابعها: «الأمركة» إذاً، هي «الكولونيالية» أكرر. إنها تجريدنا من استقلالنا الوطني وانتمائنا القومي. والمسألة الملحة اليوم عندنا، هي المسألة الوطنية والقومية. إذ كي يكون لإنساننا كل الحقوق التي تعطيه إيّاها إنسانيته، علينا أن نعيش في وطن حرّ، يكون لنا بدون شروط. فالوطن السيد، الحر، المستقل، الذي لا لبس في انتمائه القومي العربي، هو المجال الوحيد، المتاح، للعمل على تغيير ظروف حياتنا، بتغيير النظام السياسي الذي يحكمنا. والإمبراطور الأعظم، لن يُزيل من فوق صدورنا، دكتاتوراً، أو مستبداً، ليحرِّرنا. بل ليعيد تكبيلنا بطغيان أشد استبداداً. فالحرية لا تهدى، الحرية تُنتَزع.
ننتزع مجدَّداً استقلالنا الوطني، فنحمي شخصيتنا الوطنية والقومية، ومعها شخصيتنا الثقافية. وشخصيتنا في العمران وفي العمارة، هي جزءٌ مكوِّن، من شخصيتنا الثقافية هذه.
خامسها: سترتفع الأصوات ربما، معترضةً على مفهوم «حماية الخصوصية الوطنية والقومية»، في الثقافة، في العمران، وفي العمارة، متلطِّيةً بالتعددية، وبالانفتاح، وبالتفاعل المعرفي الحر. مهلاً أقول للمعترضين، لا رغبة لدي بتقنين التعددية، أو بتقييد التفاعل الثقافي الحر. فالخطر على التعددية، إنما يكمن في «الأمركة»، بما تفرضه من ثقافة سطحية تُبهر، فتُهيمن. والحفاظُ على الشخصية الوطنية والقومية في الثقافة، في العمران وفي العمارة، هو جوهر التعددية الحقيقية، المتفاعلة، من موقع الندِّية والمساواة، لا من موقع، الخضوع، والذيلية، والتبعية. وهل نكون تعدّديّين، أسأل المعترضين، إذا تكلمنا جميعاً الأميركية!؟ ألا ترون زحف اللغة الأميركية، وهي تزيح كل اللغات، وفي مقدمتها الفرنسية، والألمانية، وبالتأكيد، العربية أيضاً. أين يصبح الشعر...؟ أين يصبح الأدب...؟ أين تصبح كل فنون الكتابة...؟ إذا سيطرت الأميركية وحدها، عند كل الذين يكتبون!؟
ثم أسأل المعترضين، مرة أخرى؟ ما هي فائدة هذه الدزينة من الجامعات والمعاهد في لبنان، التي تُعنى كلها بتعليم العمران والعمارة، وفيها ما يزيد سنوياً عن ألف طالب وطالبة؟ ما فائدة كل هذه الجامعات والمعاهد، إذا سيطر فيها التعليم الواحد؟ والمعرفة الواحدة؟ والنقل البدائي الواحد؟ عن العمارة البليدة السائدة في عالم اليوم، تفرضها علينا، الأمركة الكولونيالية! وما هي مكونات التعددية في العالم، إذا لم تكن تعدد الثقافات الحرة فيه وتفاعُلها، فتتكون الثقافة المسماة عالمية، من هذا التفاعل، بعيداً عن الأُحادية والسيطرة.
سادسها: ثم يقول المعترضون ربما، إن الحرص على «الشخصية الوطنية والقومية»، في الثقافة، في العمران وفي العمارة، سوف يؤدي إلى الظلامية، إلى الانغلاق، وإلى التقوقع.
فمهلاً أقول مرة أخرى، متسائلاً هل نخاف فعلاً من الظلامية؟ هل نخاف فعلاً من الانغلاق؟ هل نخاف فعلاً من التقوقع؟ أم أن بعضنا من المبهورين بالأمركة، يتلطى بهذا الخوف المزعوم؟ كي يزيد من تغريبنا ومن انسلابنا، ويُمعن في تجريد المجتمع، من الحد الأدنى من عناصر التماسك والمقاومة فيه؟
من أي نافذة سيتسلل الانغلاق، أسأل بصدق. ومن أي باب سيدخل التقوقع؟
- من التعليم ما قبل الجامعي؟ وفي لبنان ما يناهز مليون تلميذ وتلميذة. وكل طائفة لها مدارسها، وكل مذهب له مدارسه، وكل الجمعيات لها مدارسها، وكل الدول الغربية الصديقة كما يسمونها وهي كثيرة، لها مدارسها، والدولة، ولله الحمد، لها مدارسها أيضاً.
- من التعليم الجامعي؟ وفي لبنان ما يزيد على مئة وثلاثين ألف طالب وطالبة، موزعين على ما يناهز ستين جامعة ومعهداً جامعياً، تتوزع بدورها على الطوائف، والمذاهب، والجمعيات، وعلى الدول الغربية الصديقة كما يسمونها مرة أخرى، وما أكثرها!؟ دون أن ننسى بالتأكيد، جامعتنا الوطنية.
- من الإعلام المرئي؟ وعندنا من المحطات الأرضية ومن المحطات الفضائية، ما يوازي عدد «الأرضيات» و«الفضائيات» الموجودة في بريطانيا وفرنسا، وربما في إيطاليا أيضاً، مجتمعة.
- أنظروا إلى «الفاشن»، والموضة، و«الدارج»، عندنا في لبنان، وربما في أرجاء أخرى من الوطن العربي. في المأكل، والملبس، والمظهر، وطرق العيش. أُنظروا، وقارنوا مع أكثر البلدان رقياً في العالم، وفق معايير الرقي السائدة اليوم. انظروا وقارنوا ما ترونه عندنا، بما ترونه في فرنسا، وبريطانيا، وإيطاليا مثلاً! هل نقِلُّ انفتاحاً عنهم؟.
أجزم، بعد تجربة، أننا نفوقهم انفتاحاً ورقياً، بالمقاييس المعروفة اليوم، أكرِّر. يكفي أن تنظروا إلى الصبايا عندنا، لتروا بطونهن عارية، ومؤخراتهن ناتئة من فلقتين مرسومتين بتأنٍّ، وظهورهن عارية، مزينة بالوشم في أسفلها... في الأماكن الرمزية الدالة...، الدالة على ثقافة عصرية يزعمون، تعمُّ المدن، والقرى، والدساكر النائية. اُنظروا إلى شفاههن المنفوخة، وإلى صدورهن المندلقة، وإلى ملابسهن خِرقاً، لا تستر إلا القليل من أجسادهن المنفلشة في كل الاتجاهات.
اُنظروا إلى الشبان، شبان اليوم، برؤوسهم الحليقة، أو بشعرهم الملون بألوان قوس القزح، أو الأشعث الغرائبي المصفف بكلفة عالية، وبنظاراتهم السوداء القاتمة، وبسراويلهم القصيرة المحشوة بالجيوب، وكأنهم في رحلة صيد واعدة ذاهبون.
اُنظروا إلى الهاتف الخلوي في كل الأيدي، وإلى السيارات الكبيرة (فور دبليو دي) تمتطيها الصبايا حصراً، بالجزمات العالية الداكنة أو الذهبية اللون، وبالأجساد لا ستر عليها.
اُنظروا، ودقِّقوا، وقولوا، من أي نافذة ستأتي الظلامية، سيأتي الانغلاق؟ ومن أي باب سيدخل التقوقع؟
نحن لسنا منفتحين فقط، بل نحن مفتوحون! والفتحة في ثقافتنا واسعة كالجحيم. إن التافه، والسطحي، والنمطي الممل، قد اخترقنا، قد ولجنا.


6
الخلاصة


شخصيتنا في الثقافة، في العمران وفي العمارة...
ليست قناعاً لمسرحية
إن ما نخاف منه في الخلاصة، هو أن نصبح عراة، أمام أيّ غزوة!
نخاف، من أن نفقد الحدَّ الأدنى من التجانس المجتمعي!
نخاف، من أن نُضِيعَ الحدَّ الأدنى من التماسك الوطني!
نخاف، من أن نُصبح أوراقاً تائهة دون وزن، تقذف بنا ريح التقليد والنقلِ في كل الاتجاهات، فتتلقفنا «الأمركة الكولونيالية»، وقد فقدنا كل عناصر المقاومة والمواجهة.
لا مستقبل بدون ماض، وعلينا عبر الحاضر، أن نصل الماضي بالمستقبل.
لا قوالب جاهزة، يمكنها أن تساعد على هذا الوصل، ولا صيغ جامدة، يمكنها أن تنتج ثقافة أصيلة، وعمارةً لا نقل بدائياً فيها، ولا حنين بكائياً.
علينا أن نتعلم باستمرار. علينا أن نَغرف من كل تقنية مفيدة، ومن كل تكنولوجيا ملائمة.
علينا أن نَغْرف من الثقافة الحقيقية، لا من الموضة، ومن النمطي السائد، «عولمةً» كانت الموضة، وكان النمط، أم «أمركة».
علينا أن لا تكون شخصيتنا في الثقافة، في العمران وفي العمارة... قناعاً لمسرحية، كما تعرِّف اللغة اللاتينية، كلمة «شخص».


7
وماذا في الخاتمة، عن المقاومة في إطار المواجهة؟ ماذا عن الحرب؟ والنصر...؟ وإعادة الإعمار؟


قد يكون السياق الفكري للنص، في كلامي عن الأمركة عندنا في لبنان، قد دفعني، في منحى سجالي صافٍ، إلى الإسهاب في مقارعة أيديولوجيا «القشرة الاجتماعية» التي تطفو على سطح الاجتماع اللبناني، تلك القشرة المبهورة بالأمركة، أو المتواطئة معها، لا فرق. فلا يغرَّننا انتشار هذه القشرة وضجيج تحرُّكها، واحتلالها مساحات مدفوعة الثمن في وسائل الإعلام المرئية خاصةً، وما أكثرها. فهي، مهما بدت سميكة، متمددة وضاجَّة، تظل قشرة، غير لصيقة بجسم الاجتماع اللبناني، هذا الجسم المتعاضد، تصنعه أكثريةٌ واضحة من اللبنانيين، المتمسكين بعروبتهم، والمتلاحمين مع مقاومتهم، وهي: «بضعة آلاف من المقاتلين، في تنظيم شبه عسكري، هزمت أقوى جيوش المنطقة»، مستعيراً صيغة القاضي الصهيوني
فينوغراد.
هُزِم الجيش الصهيوني، ولم يستطع إفراغ الأمكنة. لم يستطع إبقاءها فارغة كما خطّط، رغم دعم المتواطئين. عاد الناس في اليوم الثاني، في 14 آب 2006، مع إعلان توقف الأعمال الحربية، غير منتظرين إعلان وقف إطلاق النار، الذي لم يعلن إلى
الآن.
عاد النازحون... جميعهم. عادوا إلى قراهم المهدّمة، يستظلون خيمةً أو شجرة أو بقيةً من سقف. عادوا إلى الأرض التي عشقوها، وإلى التراب الذي سقوه بدمائهم.
وفي ضوء هذه الدلالات، يصبح الهدف الأول لإعادة الإعمار، تأمين عودة سريعة للنازحين، كي لا يطول انقطاعهم وتطول غربتهم، فتحدُث فجوات عميقة في ذاكرتهم الجماعية، يصعب ردمها. وكي يُحافَظَ على تعلُّقهم العاطفي بالأمكنة التي تملّكوها عقوداً: في عيتا الشعب، وعيناتا، وبنت جبيل، والخيام، والطيبة، والعديسة...، في الضاحية الجنوبية، وفي حارة حريك تحديداً.
وكلّ قراءة في حجم الدمار في الضاحية عامةً، وفي حارة حريك خاصةً، وفي تأثيره، رغم قساوته ووحشيته، في مجمل النسيج المبني، عليها أن تجري من منظار العودة السريعة المذكورة. فالدمار موضعي لا يتعدى الأربعين هكتاراً، أي أقل من نصف كيلومتر مربّع. وللمقارنة فإن مساحة سوليدير في وسط بيروت، هي ثلاثة أضعاف المساحة المستهدفة في حارة حريك، ومع ردم البحر قبالتها، تصبح بحدود الخمسة أضعاف، أي مليون وثماني مئة ألف متر مربّع.
● والتنظيم المُدني المطلوب في هذه الحالة، هو تنظيم مُدني موضعي، أقرب إلى الخياطة، أو حتى أقرب إلى «الرتي». منظم المدن هنا، هو خيّاط، إنه رتَّى، ربما.
● والتنظيم المُدُني المطلوب، بعيد كل البعد عن المفاهيم الجراحية في التنظيم، وعن مفاهيم الأرض المحروقة، والطاولة الفارغة، يرسم عليها مُنظِّم المدن ما يشاء، متلطياً بمفردات أقنعة، مثل التحديث، وجودة الحياة، والحفاظ على البيئة، وغيرها من وسائل التعمية، يخدم بها التجَّار، وأصحاب الرساميل، والطامعين بالملكيات العقارية الكبرى، من أي جهة
أتوا.
● والتنظيم المُدُني المطلوب، عليه أن يُنتج مباني قياساتها مماثلة للمباني التي هُدِّمت، لتتناغم بعد تشييدها مع المباني التي تجاورها مباشرة، أو تلك الموجودة في الامتدادات المتاخمة. إنه تنظيم مُدُني يحصُر الدمار، ويرمِّم كل ما يمكن ترميمه، خلافاً لما حصل في أماكن أخرى من بيروت، وفي سوليدير تحديداً، من تدمير متعمَّد، طال 85 في المئة من تاريخ المدينة. وهو تنظيمٌ مُدُني يحرص على الذاكرة الجماعية للناس، يحميها، ويحصّنها، لتسهم في وحدة النسيج الاجتماعي وتماسكه. والذاكرة الجماعية للناس يحتضنها الحيِّز العام في المدينة أو في جزء منها، أي الطرقات، والشوارع الرئيسة والفرعية، والدروب، والساحات، والفسحات، والحدائق. إنَّه الأرصفة خاصة.
● سيحافظ التنظيم المُدُني المطلوب إذاً، على مسارات الشوارع الموجودة، وعلى العقارات كما كانت عليه بحدودها ومساحتها، وعلى الملكيات العقارية، وعلى الحقوق المُثْبتة للسكان. لا شركات عقارية هنا، تنزع ملكيات الناس، وتَغتصب حقوقهم عبر التدمير وعبر لجان التخمين الظالمة، كما حصل في سوليدير، حيث جرى تفريغ وسط العاصمة التاريخي من سكانه، بتهجير ما يقارب 135000 من المالكين وأصحاب الحقوق فيه. لا ضمّ، ولا إفراز جديداً، يغير النسيج المُدُني، متلطياً بصعوبات التعامل مع الحقوق المتعددة كما فعلت سوليدير مكرراً للمرة الثالثة، ومؤدياً بالضرورة إلى تغيير الملكية، وتغيير النسيج الاجتماعي.
● والهدف الرئيس للتنظيم المُدُني الذي نتبناه، هو إنتاج نسيج مُدُني عصري، مرحِّب، أليف، يُعيد احتضانه للنسيج الاجتماعي، الذي سَكَنه خلال عقود. والنسيج الاجتماعي هذا، إنما عرفناه نسيجاً متعاضداً، متماسكاً، متعلقاً بالأمكنة التي سكنها، عاشقاً لأرضه. وسوف يعود هذا النسيج بعد إعادة الإعمار، إلى تعاضده، وتماسكه، في ضاحيته الجنوبية كما يرى البعض، وفي جنوب بيروت كما أرى أنا، رافضاً مقولة الضاحية، لأن المدينة قد امتدت إليها منذ زمن
بعيد.
هذه هي بعض الأسس التي قام عليها «مشروع وعد» لإعادة إعمار الضاحية الجنوبية لمدينة بيروت، ولإعادة إعمار قلب حارة حريك المدمَّر بصورة خاصة.


8

● إن إعادة إعمار قلب حارة حريك، في الظروف المحلية والإقليمية والدولية الراهنة، هي فعل مقاومة.
● وتنظيم المنطقة، وفق معايير مُدُنية واضحة، جوهرها جودة حياة الناس فيها، والخروج بهـا من «قوقعة الضاحية»، إلى رحاب المدينة العصرية، هما فعل مقاومة.
● والتفتيش عن الجمال في النسيج الذي سيُبنى وفي عمارته، يكون في إدراك الملائم لطرق عيش الناس، وهو بالتالي فعلُ مقاومة.
● وعودة النازحين السريعة إلى مساكنهم، وأشغالهم، وكامل حقوقهم، هي فعلُ مقاومة.
فلنعمَّرِ إذاً، ونقاوم.

* في بيروت المتعدِّدة ودمشـق، والقاهـرة، وبغداد، ولندن، وباريس، وروما، وبروكسيل، ومدريد، وموسكو، ووارسو، وبراغ، وصوفيا، وبوخارست، وبودابست...، وفي جامعات أميركية متعددة.