سلام الكواكبي *بعد أن عرفت أوروبا ثنائي طوني بلير وخوسي ماريا أزنار وخَبرته لمدّة لا بأس بها من خلال سنوات من «العشق» السياسي على المستوى الدولي والتناغم الاقتصادي على مستوى الاتحاد الأوروبي، يستنبط المعمل السياسي الأوروبي ثنائياً ليس أقلّ أهمية من سلفه، متمثلاً بنيكولا ساركوزي وسيلفيو برلوسكوني. شعبويّان يمينيّان تتجذّر في رؤاهما الليبرالية «المتوحّشة» كحلّ أوحد لتطوير اقتصاديات بلدانهم التي تعاني الكساد والتكلّس نتيجة تعاقب السياسات التجريبية، ونتيجة أيضاً لتقاطع بنيوي مع الظروف الاقتصادية الكونية، يحكمان الآن في إيطاليا وفي فرنسا.
سعيدان جداً بتعاونهما المرتقب، على الرغم من التناقضات المتوقعة في أساليب العمل على أرض الواقع. فخطاب القادة الفرنسيين يحاول أن يكون أكثر انفتاحاً، ولو شكلياً، على كل مكوّنات المجتمع وحتى على مهاجريه، بانتقاء بعض من رموزهم كمشاركين في اتخاذ القرار مثل وزيرة العدل رشيدة داتي، وكما فعل أيضاً مع أعضاء يساريين يبحثون عن البروز بأيّ ثمن كوزير الخارجية برنار كوشنير. أما «الحيوان السياسي» برلوسكوني، فهو يعلنها على الملأ ومن دون مواربة بروتوكوليّة: سيطلق جيشاً من الأخيار لمحاربة المهاجرين الذين لا يعملون، لأنهم في أصل كلّ مآسي ومشكلات البلاد. فبعد أن استخدم تكتيكاً ساركوزيّاً بامتياز أثناء حملته الانتخابية، وانتقد، بشدّة أحياناً، يمينه المتطرّف المتمثّل بكتلة الشمال، التفّ من خلال خطابه هذا على ناخبي هذا اليمين الفاشي وحصل على أصواتهم كما حصل ساركوزي على أصوات ناخبي الجبهة الوطنية، وافتخر في ما بعد بأنه أضعف حزب جان ماري لوبين. فالغزل كان قائماً إذاً وحصل «استهلاك الزواج» في الانتخابات ونتائجها التي حملت السبعيني المتصابي إلى سدة رئاسة الحكومة الإيطالية للمرة الثالثة.
ولكن، هل إذا عُرف هذا السبب بطل العجب من تخبطات اليسار الإيطالي ومن تناقضاته؟ فاليسار «المثالي» أوروبياً مع مراجعات مستمرة لشيوعيّيه أدّت إلى أن يكونوا من أوائل شيوعيّي أوروبا الذين خرجوا من تحت «المظلّة» السوفياتيّة، انقسم إلى يسارات وشبه يسارات وربع يسارات ويسارات سابقة. وبدأ زعماؤهم بانتهاج طرق متعدّدة للصعود نحو مقدّمة المشهد السياسي الإيطالي، من خلال غموض طروحاتهم وتقاطعها في أغلب الأحيان مع الفكر الليبرالي الأوروبي الحديث، فكان صعودهم هذا إلى الهاوية بنظر ناخبيهم التقليديّين، ليس إلاّ.
وقد شكّلوا التحالفات وقبلوا بالخلاف في ما بينهم بهدف انتخابي بحت، دون العمل على البرنامج وعلى مشروع اقتصادي وسياسي واجتماعي واضح. حتى الشيوعيّون منهم الذين أسّسوا لتشكيلين حزبيين على الطريقة السورية، لم يستطيعوا أن يحصلوا على أصوات من بقي من الشيوعيّين في هذا البلد المريض اقتصادياً منذ عام 2000. ولم ينتج اليسار الإيطالي بمختلف أطيافه خطاباً موحَّداً أو على الأقل متجانساً، يستطيع من خلاله بناء تراكمية فكرية تسمح له أن يواجه بصورة أو بأخرى الخطاب اليميني الشعبوي الذي يعتمد على خوف الناخب العادي من المستقبل ومن الآخر ومن ضعف شعوره بالأمن بالمعنى المباشر.
هذا الضعف المنهجي لدى اليسار، أتى ليضاف إلى نظام انتخابي معقّد، أدّى منذ سنوات عدة إلى أن يكون عدم الاستقرار السياسي عنواناً بارزاً لإيطاليا ما بعد الحرب العالمية الثانية. وكان لامبراطوريات برلوسكوني الإعلامية والرياضية دور مهم، وربما حاسم، في إعادة تلميع صورته التي طالما توقع المراقبون المتزمّتون أنّها لُطخت بالسواد، وأن حياته السياسة قد انتهت بعد سلسلة من الفضائح. فالمجتمع الإيطالي من أفتى المجتمعات الأوروبية، وتأثره بوسائل الاتصال الحديثة عالي الدرجة، وقد فهم برلوسكوني هذا كما فهمه واستطاع التلاعب به «شقيقه في النضال» في فرنسا المجاورة. وما ميّز بينهما هو أنّ الأول مالك لهذه الوسائل، إضافة إلى أنه المستفيد الأول من بروباغندتها. أما الأقل ثراءً في باريس، فهو استطاع نسج علاقات تحالفية مع أباطرة الإعلام ليصل إلى النتيجة نفسها، ربما بطريقة أكثر حذقاً.
وبالإضافة إلى تأثير الإعلام البرلوسكوني على الجيل الجديد من خلال الوعود البرّاقة، وعلى جيل قديم أصابته تجارب الآخرين بالخيبة، وأضحى شغله الشاغل أمانه الجسدي والمادي، وهما وتران لعبت عليهما وسائل الإعلام بحرفيّة عالية، فلقد لعبت أيضاً سطوته الرياضية دوراً مهماً في استقطاب جزء من شباب فقد البوصلة ويبحث عن وعاء ليس بالنخبوي، يفرّغ فيه شحناته غير المسيطر عليها.
فلا سقطاته الأخلاقية ولا نزاعاته القضائية ولا جمله الصادمة، بل المقززة أحياناً، لعبت دوراً في عدول الناخبين عنه. إنّ ضياع اليسار الإيطالي بين رغبة آنيّة في الفوز بالانتخابات، إضافة إلى موعدها المبكر الذي لم يسمح لهذا اليسار الجديد بأن يتكون بصورة منطقية، وبين فضائحه المالية هو الآخر عندما كان في الحكم، أعطيا فوزاً كبيراً ليمين شعبوي سيرافق موجة عودة اليمين في أوروبا، لا يزال المشهد الإسباني مقاوماً لها.
واتحاد ساركوزي من أجل البحر المتوسّط سيجد شريكاً مهماً في الجانب الإيطالي، إن تبين لهذا الأخير أن أحد الأهداف الرئيسية لهذا المشروع الذي لم يولَد بعد، هو الحدّ من الهجرة وتشجيع استثمارات الشمال في دول
الجنوب.
من ناحية العرب، فالسعادة كبيرة حتماً في أوساط «النخب» السياسية الحاكمة التي تجد في صورة برلوسكوني انعكاساً لنجاح المزج بين السلطة السياسية والسلطة المالية، وهم من أفضل العارفين بهذا المجال. ولن يغيّر من إعجابهم في شيء مواقف برلوسكوني المنحازة بشكل علني وحازم إلى سياسات إسرائيل، مهما بلغت من العنف ومن القمع تجاه الفلسطينيين... متى كان الفلسطينيّون يعنون لهم؟
* باحث سوري