كمال خلف الطويل *‏منذ تفتح وعيه وأنور السادات يسير على هدى منطقين: التمثيل والمغامرة. كانت رغبته باحتراف التمثيل كبيرة، وإن لم تساعده الظروف في حينها (أواخر الثلاثينيات)، فإنها ظهرت بحرفية فائقة بعد تولّيه الرئاسة 70 ــــ 81.
كان هواه بالمغامرة جلياً، وأخذ طريقه إلى الفعل مع بداية الأربعينيات حين انخرط مع المخابرات النازية الألمانية في ما عُرف بقضية العوّامة (الراقصة حكمت فهمي).
بعد اعتقاله حينها جراء هذا التورّط، ثمّ خروجه من الاعتقال، مشت معه المغامرة شوطاً آخر حين تعرّف إلى الطبيب يوسف رشاد، الياور البحري للملك فاروق وأحد أهم مستشاريه، ودخل على يديه إلى ما عُرف بـ«الحرس الحديدي» الذي أسّسه رشاد كتنظيم سرّي تحت تصرّف الملك المباشر، يستعمله لتصفية حساباته مع خصومه الداخليّين.
لم يغب دور السادات عن أعين عبد الناصر، مؤسّس تنظيم الضبّاط الأحرار. بالمقابل، وبقوّة شمه السياسية، أحسّ السادات أنّ أوراقه يجب أن لا تكون في سلّة واحدة غير مأمونة، ومن هنا، ومع معرفته بنشوء تنظيم الضباط الأحرار، مدّ حبال الاتصال معه.
العميل المزدوج
والثابت أن ممانعة قيادة التنظيم كانت شديدة بادئ الأمر، إلا أنّ عبد الناصر، وهو اللاعب البارع في مجال التكتيك، وجد في ذلك العرض ضالّته، إذ قدر أن السادات نافذة واسعة على الملك وحرسه الحديدي ودوائر قصره، وأن فائدة تجنيده تفوق ضرره، وخصوصاً إذا تمّ توريطه وإذا أحسنت رقابته.
والحاصل أنّ رهان عبد الناصر كان في محلّه، فمع أنه بدأ عميلاً مزدوجاً، إلا أنه بسرعة ملحوظة، أصبح بعين واحدة، ترى ما عندهم وتغضّ الطرف عمّا هو على جانب الضباط الأحرار.
والشاهد أنّ تخلّف أنور السادات عن النهوض بالتكليف المناط به ليلة الانقلاب، مرفقاً بعضويته في الحرس الحديدي، كانتا من أهم أسباب أوّل تمرد عسكري على الثورة ومن داخل صفوفها، عندما هبّ سلاح المدفعية محتجّاً على وجوده عضواً في مجلس الثورة، وخصوصاً أنه شاع حينها حديث متواتر عن علاقة غير شرعية بينه وبين ناهد رشاد.
حدث ذلك في كانون الثاني 1953، وقمع التمرّد في المهد، وبقي السادات عضواً في مجلس الثورة، ولكن بأدنى درجات الفاعلية.
المنصب الأوّل الذي كلّف به هو رئيس تحرير جريدة الجمهورية الناطقة الرسمية بلسان الثورة. المنصب الثاني كان سكرتير المؤتمر الإسلامي وهو ذو طبيعة خارجية.
منذ نجاح الثورة، أضاف السادات إلى حياته بعداً ثالثاً، بعد أن أنزل ــــ بوعي تحكّمي ملحوظ ــــ بُعدي التمثيل والمناورة درجات، ألا وهو الخمول والدّعة والتلهّف على الامتيازات. لذلك، لم يبقه عبد الناصر في الاتحاد القومي بل أُبعد عام 1959، عندما استبدله بالعنصر الحركي كمال الدين حسين الذي كان حينها رئيس الوزراء ــــ في الإقليم المصري للوحدة ــــ أيضاً.
ما بين أيلول 1959، و تموز 1960، عاش السادات تلك الفترة بدون أي منصب، وشاع حينها أنّ سبب ذلك هو غضب عبد الناصر عليه بسبب طلبه مبلغاً من المال لقاء أحاديث مع إذاعة صوت العرب.
عند تدشين مجلس الأمّة عهد الوحدة في صيف 1960، عاد السادات إلى الأضواء رئيساً له، ولكن لم يطل العهد بهذا المجلس إلا سنة ونيفاً حتى حلّ بفعل الانفصال.
عندها عين أحد أمينين (الثاني كمال الدين حسين) للجنة إعادة تنظيم العمل السياسي، ثمّ المؤتمر الوطني للقوى الشعبية، وانتهت مدّة التكليف في صيف 1962.
منذ أوائل الستينيات، عهدت إلى السادات مهمات الاتصال بشيوخ الخليج لسابق تعامله معهم ــــ وأسرهم ــــ خلال سنوات تولّيه سكرتارية المؤتمر الإسلامي. عبر تلك القناة أضحى السادات على جدول رواتب نائب أمير الكويت المنفي عبد الله المبارك وزوجته سعاد الصبّاح، صديقة جيهانه.
تسرّب الخبر بعد فترة قصيرة من انتظام المدفوعات، فنهره عبد الناصر ونهاه عن الاستمرار في علاقة كهذه.
خرج الممثّل من جحره، فادعى إصابته بنوبة قلبية وهو يحضر مؤتمراً برلمانياً في غرب أفريقيا، مستجدياً بذلك عطف عبد الناصر عليه، فاكتفى بالتقريع والنهي. ولعلّ واحدة من عقد السادات المستحكمة هي كرهه الفقر الذي تمكن منه خلال الأربعينيات، ورغبته المكتومة بالتعويض عنه: بالطول أو بالعرض.
من هنا ارتماؤه على عتبات عبد الحكيم عامر ولي النعم، وعبد الله المبارك المحسن الكبير، وأخيراً كمال أدهم، المجنّد والمؤهّل والراعي، الذي شقّ طريقه إليه ذات يوم من ربيع 1962 ــــ بعيد الانفصال السوري ــــ طلباً لمعاش ثابت مجزٍ مقابل صفة «العميل النائم».
أبدع السادات في الشور بأسوأ المشورة ــــ تطوعاً من بعيد لراعيه الجديد ــــ التي تحوّلت إلى كارثة مع اقترانها بعجز عبد الحكيم عامر الصارخ عن القيادة.
في أيلول 1962، ومع تأليف مجلس الرئاسة، عُيِّن عضواً فيه، وكان هو وحسن إبراهيم الوحيدين من أعضاء مجلس الثورة القديم اللذين لم يزاوجا بين العضوية ورتبة نائب رئيس الجمهورية، وكان السبب سمعتهما غير الحسنة لجهة السلوك الشخصي، إن لجهة المال أو النساء.
في آذار 1964، ومع استقالة عبد اللطيف البغدادي وكمال الدين حسين من منصبي نائبي رئيس الجمهورية، عين الاثنان (السادات وإبراهيم) مكانيهما في نيابة الرئاسة، لكن السادات لم يلبث أن غادرها بعد أيام ليصبح رئيس مجلس الأمة الجديد حتى نهاية 1968.
كانت سنوات تولّيه رئاسة مجلس الأمّة من آذار 1964 إلى تشرين الثاني 1968 (عملياً ربيع 68)، حافلة بشلل العمل البرلماني، حتى ضمن نطاقه المحدود نسبياً، فميله للخمول والسلبية فرض أحكامه على سير العمل.
في نهاية 1965، ومع تصاعد دور الاتحاد الاشتراكي بتولّي علي صبري أمانته العامّة، سعى أنور السادات إلى تكوين مركز قوة له ــــ تحت جناح عبد الحكيم عامر ــــ ليوازي به وينافس اختراق الاتحاد الاشتراكي بتنظيمه الجديد مجلس الأمة، وذلك بتأليفه مجموعات إقليمية للمجلس لتكون الهيكل الموازي للجان الاتحاد الاشتراكي في المحافظات.
وهكذا استعر الصراع الصامت بين الرجلين وبين التنظيمين، وبرزت أكثر فأكثر ظاهرة إقطاعات القوّة والشللية وتصادم مراكز، النفوذ ولكن ضمن احترام مرجعية النظام، أي عبد الناصر.
الرحلة الأميركيّة الطويلة
دُعي أنور السادات كرئيس لمجلس الأمّة إلى زيارة الولايات المتحدة في شباط 1966 في إطار محاولة ــــ كان لها أن تكون الأخيرة ــــ لتحقيق انفراج نسبي في العلاقات المصرية ــــ الأميركيّة التي عصفت بها الأزمات منذ ولوج جونسون البيت الأبيض.
كان مرافق السادات في تلك الزيارة رجل المخابرات المركزية مايكل ستيرنر (الذي لعب عام 1971 دوراً في التفاوض مع السادات على الحلّ السلمي بعد زيارة روجرز). باختصار باءت تلك الزيارة بالفشل، وتسارع تدهور العلاقات المصرية ــــ الأميركية طوال 1966 إلى 1967، حتى وصلت إلى نقطة اللاعودة مع نشوب الحرب.
أقنع السادات عبد الناصر بأن يسمح له بزيارة موسكو ــــ وكوريا الشمالية أيضاً ــــ على رأس وفد برلماني في أيار 1967، بغرض أن يوازن بها زيارته قبل عام ونيّف لواشنطن، وقطعاً لدابر كلام كثير عن علاقة له تنمو وتطّرد مع الأخيرة.
فعل هذا، أيضاً، بقصد التغطية على فلتات لسان خرجت منه وهو في رحلته الجوالة عبر الولايات المتحدة برفقة مدرّبه المنعش سترنر، وأمام بعض المبعوثين المصريين، ثم ليسمّك قناع التقية إخفاءً لمعالم العمالة، أخذ يرطن بعبارات يسارية لقّنه إياها سكرتير البرلمان الماركسي عبد السلام الزيات، وأحياناً أحمد حمروش الضابط الحر / الشيوعي، وقبلهما يوسف إدريس عجيبة الأدب المصري وفريد الشيوعيين المصريين.
والحال أن غطاء عامر كان هو حصن السادات الحصين لردّ غائلة المشكّكين، سواء بالقدرة أو حتى بالولاء.
بقيت أمامه عقبة كأداء مع ذلك، ألا وهي زكريا محي الدين الرجل الثالث في النظام، الذي اختاره عبد الناصر خليفة له عند تنحّيه مع الهزيمة.
السادات المروّج
عاد عبد الناصر عن الاستقالة بعد الهبّة الشعبية العارمة التي أصرّت على عودته واستمرار قيادته، وبالتالي زال شبح زكريا ــــ الرئيس، الذي كان يرجح دون جزم قاطع.
لكن زكريا محي الدين بقي شهوراً تسعة الرجل الثاني في النظام والسدّ المانع لطموحاته، وبالتالي ما كان عليه إلا الانتظار وهو المتمكّن من فضيلته.
سارع الحظّ بإسعافه في آذار 1968، عندما اعتزل زكريا محي الدين السياسة متخلياً عن أي طموح له لخلافة عبد الناصر عندما يحين الحين.
حينها أصبحت حلبة السباق خالية إلا من موازيه حسين الشافعي الذي احتفظ بمنصب نائب الرئيس في تغييرات ربيع 1968 التي رافقت خروج زكريا وفريقه من السلطة. في صيف 68 كان لافتاً للنظر أن عبد الناصر لم يصطحب معه من مساعديه الرئيسيين (السادات والشافعي وعلي صبري) إلا أنور السادات في رحلته الأولى إلى موسكو بعد الهزيمة، مع أنّ اختصاصي العلاقات السوفياتيّة ــــ المصرية كان علي صبري بلا منازع.
الأرجح أنّ اختياره توافق مع الحيّز الشخصي لتلك الزيارة، أي تلقّي عبد الناصر العلاج هناك من تصلّب شرايين الساقين، إذ لم يكن أحسن من السادات للترويح عن النفس والتسلية وخلق جوّ طري. تكفي الإشارة هنا إلى صورة معبّرة في الأهرام في نيسان 68 يظهر فيها عبد الناصر جالساً في مقطورة قطار ذاهب للمنصورة، ويجلس بجانبه حسين الشافعي وعلي صبري، بينما أنور السادات واقف يروي نكتة لهم وهو على وشك أن يقع من طوله ضاحكاً، بينما الجالسون يضحكون معه أو ربما عليه.
تولّى السادات منصب أمين الشؤون السياسية في الاتحاد الاشتراكي، بينما تولى علي صبري أمانة التنظيم، وأمضى سحابة 69 في هذا الإطار إلى أن أصيب عبد الناصر بنوبة الاحتشاء القلبي الأولى في 9/ 11/ 1969.
حينها شكّل عبد الناصر لجنة سداسية لإدارة أمور البلاد برئاسة أنور السادات وعضوية محمد حسنين هيكل وأمين هويدي وشعراوي جمعة ومحمود رياض وسامي شرف (محمد فوزي أحياناً). خلت اللجنة من علي صبري الذي كان حينها يعاني من آثار انحراف بعض أفراد مكتبه (مشتريات موسكو)، ممّا اضطرّه لترك أمانة التنظيم مع بقائه عضواً في اللجنة العليا... وخلت من الشافعي الذي كان دوره يزداد ثانوية في تلك الأيام. لماذا السادات رئيساً للجنة؟ لأنّه مطواع وليّن العريكة ويمشي في الخطّ العام الذي يديره بكفاءة المعاونين الآخرين... أو هكذا بدا.
ما يهمّ عند هذا المفصل تبيان أنّه في أبعد أحلام عبد الناصر لم يكن يخطر بباله أن السادات هو ما كان كامناً وما تجلّى بعد غيابه. زاد بروز السادات في خريف 1969 بإيفاده ممثلاً لعبد الناصر في مؤتمر القمة الإسلامي في الرباط في تلك الفترة.
كان البروز الآخر هو إيفاده ممثّلاً لعبد الناصر إلى موسكو للتباحث مع القادة السوفيات على رأس وفد يضم محمود رياض وزير الخارجية، ومحمد فوزي وزير الحربية في كانون الأول 1969.
أيضاً باءت الزيارة بالفشل النسبي، حيث فشل السادات في الحصول على صواريخ سام 3 مع طواقمها لإعادة التوازن إلى جبهة القتال. هنا يأتي المفصل الرئيسي: عاد السادات من رحلته إلى موسكو شبه خائب.
بعد ذلك بأيام وصل الملك فيصل في زيارة للقاهرة عشية انعقاد مؤتمر القمة العربية في الرباط، وفي محاولة لإصلاح ذات البين بين عبد الناصر والأسرة المالكة السعودية.
ثمّ في 20 / 12/ 1969، اتخذ عبد الناصر قراره المصيري بتعيين أنور السادات نائباً وحيداً لرئيس الجمهورية.
ما هي دوافع ذلك القرار ؟
الأرجح تخميناً أن عبد الناصر أراد بذلك التلويح بورقة السادات خليفة للاتحاد السوفياتي، لعلّه بذلك يخيفهم من احتمال تحوّل مصر أميركيّاً إن لم يرتفعوا بمستوى دعمهم العسكري لمصر درجات.
العلاقة مع موسكو
السوفيات بطبيعة الحال لم يكونوا مرتاحين للسادات، لماضيه النازي وعلاقته بالقصر ثم بعامر، أو للشافعي لميوله الدينية القاطعة، وبالتالي فالأفضل عندهم إن غاب عبد الناصر عن الساحة هو علي صبري، ليس لأنّه رجلهم، فهو رجل عبد الناصر والنظام أولاً وآخراً، بل لأنه الأقرب إلى خطّ عبد الناصر الأساسي.
غرض الابتزاز السياسي والتهديد الخفي هو الأقرب للمنطق، وخصوصاً أنّ الانطباع عنه ــــ أي السادات ــــ طوال سنوات مديدة، هو أنه البكباشي صح المطواع، الخافض الجناح، والمستعد للتماشي مع الفريق الحاكم.
لمَ أرجحية هذا الافتراض؟ سياق الأحداث يشي بذلك: إذ بعد شهر من ذلك التعيين قام عبد الناصر بزيارة سرية إلى موسكو ومعه هيكل وفوزي ورياض، وفيها هدّد صراحة القادة السوفيات، إن هم لم يستجيبوا لمطالبه القاطعة والجريئة، بأنه سيعود ليستقيل أمام الشعب المصري والأمة العربية، مفسحاً المجال لرئيس يستطيع التفاهم مع الأميركيّين وفض النزاع معهم.
كانت طلبات عبد الناصر غير مسبوقة، فهو يريد الصواريخ الحديثة مع طواقمها، إضافة إلى أسراب طيران سوفياتيّة وطائرات استطلاع وخلافه. خضع السوفيات للتهديد وانصاعوا لمطالب عبد الناصر، وأخذ الصراع العربي الإسرائيلي طابع استقطاب دولي أكثر حدّة.
في نهاية حزيران 1970، تقدّمت الولايات المتحدة بمبادرة روجرز لوقف إطلاق النار وبدء المفاوضات تحت إشراف المبعوث الدولي يارنج في إطار قرار 242. استلم عبد الناصر المبادرة وهو في زيارة لليبيا، عاد بعدها إلى القاهرة لأيام، قبل سفره في زيارة مطوّلة لموسكو صاحبه فيها علي صبري ومعه فوزي ورياض.
خلال توقفه في القاهرة استمزج آراء أعضاء اللجنة العليا عن المبادرة الأميركية، لكنه لم يبتّ برأي فيها بانتظار المزيد من المعلومات والتحليل. والحال أنّ مفاوضات عبد الناصر مع القادة السوفيات في تموز 1970 كانت عسيرة بعض الشيء، إذ كان يصرّ على تزويده بطائرات توبوليف 22 القاذفة البعيدة المدى، وعلى تجهيزه بصواريخ سكود وطائرات ميغ 23، وهو ما رآه السوفيات سابقاً لأوانه.
في ذلك السياق، قرر عبد الناصر، وهو في موسكو وعلى طاولة المفاوضات، قبول المبادرة الأميركية لتمنحه فرصة لالتقاط الأنفاس، وبناء حائط الصواريخ على جبهة القنال بعد أن استطاع تأمين العمق المصري مع قدوم الطواقم السوفياتية السالف ذكرها. وبينما عبد الناصر يفاوض في موسكو ويقبل المبادرة الأميركيّة، كان السادات يعلن للملأ من القاهرة رفض مصر لتلك المبادرة، ظاناً أنّه بذلك يرضي عبد الناصر ويحوز ثناءه. ترافق ذلك مع الشكوى المرة التي أرسلها ضابط متقاعد اسمه صلاح الموجي عبر ابنة الرئيس هدى وسكرتيره سامي شرف، من أن أنور السادات وزوجته جيهان فرضا الحراسة على فيلا يملكها عندما مانع في بيعها لهم، واستوليا عليها لتصبح بيتهما الجديد بعد أن غدا نائب الرئيس.
هذان العاملان كان لهما وقع شديد على عبد الناصر، بحيث أنه حالما التقى السادات بين مستقبليه في مطار القاهرة عند عودته من موسكو، أومأ إليه بأن يختفي عن أنظاره وأن يقبع في منزله مركوناً.
ويروي الدكتور مراد غالب، السفير في موسكو والمقرب من عبد الناصر، أنه طلب منه اصطحاب البغدادي النائب السابق والمبعد ــــ أو المبتعد ــــ عن السلطة منذ آذار 1964 إلى موسكو لتعريفه على القادة السوفيات ضمن عملية إعادة تأهيله، وتمهيداً لتعيينه نائباً لرئيس الجمهورية بديلاً من أنور السادات. خلفية هذا الخبر هو عملية المصالحة التي تمت بين عبد الناصر والبغدادي بعد قطيعة سنوات ست جافية في أيار 70 في حفلة زفاف بنت البغدادي. من الطريف هنا ذكر أن «الخبر» الذي كان عبد الناصر يتوقعه من إذاعة القاهرة قبل وفاته بساعة، هو تعيينه البغدادي نائباً، وأن فعل فاعل منع ذلك الخبر من الإعلان. في تقديري أنّ مسألة البغدادي كلها لا تتماشى مع المنطق، فهو كان بعيداً عن أي منصب منتخب في تنظيمات الاتحاد الاشتراكي، وهو شرط لازم لتبوّء مناصب قيادية عليا، ثم هو في توجهه العام لم يكن معروفاً بناصريته، إن في الداخل أو نحو الخارج، إلا إذا كان الغرض استبدال السادات المحروق بوجه حسن، ولكن في الإطار نفسه لإدامة عملية التهديد للسوفيات.
الرئاسة والانقلاب على الناصريّة
مضى شهر آب والسادات معتزل إجبارياً في قريته ميت أبو الكوم، إلى أن استُدعي في منتصف أيلول عندما بدأت أزمة الأردن، وليساعد في استقبال الرؤساء والملوك العرب الذين وفدوا إلى القاهرة حينها لحضور مؤتمر القمة العربي الطارئ الذي دعا إليه عبد الناصر لحل الأزمة المتصاعدة بين الهاشميين والمقاومة. واللافت أن عبد الناصر أوفد حسين الشافعي مرتين إلى عمان خلال عمليات الحرب الأهلية في الأردن، ولم يكن السادات ممثّله في تلك المهمّة. المضحك المبكي في أمر السادات أن مجموعة عبد الناصر (علي صبري ورفاقه) إضافة لهيكل والمساعدين المستقلّين أمثال محمود فوزي ومحمود رياض وعزيز صدقي، إضافة لحبايب السادات أمثال سيد مرعي، سارعوا جميعاً إلى الالتفاف حول السادات خليفة رغم المعارضة الشديدة لحسين الشافعي، من منطلق أنه سهل الانقياد ويمكن السيطرة عليه وتوجيهه لما عهدوه فيه من خصال طوال ثماني عشرة سنة من حكم عبد الناصر: هنا تتجلى نقطة التمثيل في شخصيته.
حال تولّيه الرئاسة، فتح السادات قناتين سريتين للاتصال مع الولايات المتحدة: الأولى هي راعيه وسيّد نعمته كمال أدهم، والثانية هي عبد المنعم أمين.
الاتفاق كان سريعاً على ضرورة توفير أنسب الظروف وأسرعها لتصفية الوجود السوفياتي في مصر، كخطوة أولى تليها التحوّل التدريجي في سياسات النظام الداخلية، وتتوّج بالطلاق البائن مع نهج عبد الناصر.
أقام السادات في منزله بالجيزة محطّة اتصالات سرية مع وكالة المخابرات المركزية ومجلس الأمن القومي، وفّرها له كمال أدهم، وتناغم ذلك مع الانفتاح المتسارع على الأسرة المالكة السعودية، متوّجاً ذلك بزيارة الملك فيصل للقاهرة في حزيران 1971.
ولكي يكسب وقتاً يحتاج إليه لإتمام التحوّلات الجذرية في نهج النظام، نفّذ السادات عملية خداع واسعة النطاق للقيادة السوفياتية، بإصراره على توقيع معاهدة صداقة وتعاون مع الاتحاد السوفياتي بعيد اقتلاعه مجموعة عبد الناصر من السلطة في أيار 1971.
ترافقت عملية خداع السوفيات باستيزاره وزيرين ماركسيين (إسماعيل صبري عبد الله وفؤاد مرسي) في الوزارتين اللتين تلتا ضربه مجموعة علي صبري. حال طرد السوفيات تخلّص السادات من هذه العناصر، وحتى من العناصر الناصرية المتبقّية والصديقة للسوفيات أمثال عزيز صدقي ومراد غالب.
مع دخول عام 1973، كان وضع السادات الداخلي في أسوأ حال، بعد تظاهرات الطلبة في شتاءي 1972 و1973 احتجاجاً على تخاذله أمام إسرائيل ورعبه من قتالها، وفاقم من عزلته مذكرة المثقّفين في ربيع 73 وقبلها مذكرة ساسة 23 يوليو المتقاعدين في ربيع 72.
غدا مع ربيع عام 73 في حاجة ماسة لعمل عسكري يحفظ به ماء وجه نظامه، ويسخن الوضع في المنطقة تمهيداً للصفقة الكبرى التي ينوي إبرامها مع الولايات المتحدة وإسرائيل.
كل ما يبغيه كان عبور القنال واحتلال شريط ضيق من الأرض شرق القنال بعمق 10 أميال، والتوقف عندها ليبدأ التفاوض مع الإسرائيليّين برعاية الأميركيين، وهو في موقف أفضل نسبياً يتيح له تقديم التنازلات الكبرى المطلوبة، إذ كان مستحيلاً عليه تنفيذ تعهداته المكتومة وشرف مصر العسكري، بل الجيوسياسي، في الحضيض.
داخل النظام كان هناك مركز القوّة الأساسي، الفريق أول محمد صادق وزير الحربية، وتتحلّق حوله مجموعة من كبار القادة، منهم قائد البحرية ومدير المخابرات العسكرية وقائد منطقة القاهرة ونائب وزير الحربية، وقبلهم قائد الطيران (حلّ محله حسني مبارك في نيسان 72) الذين عارضوا بشدة خيار حرب التحريك المحدودة، واعتبروها نوعاً من التهريج العسكري، مطالبين بالتحضير ــــ ولو طال ـــــ لحرب شاملة تكفل تحرير سيناء بكاملها. وقع الصدام بينه وبينهم في تشرين الأول 1972، ما أدّى إلى عزلهم واستبدالهم بطاقم يشاركه قناعته وينفّذ سياساته، وفي مقدّمتهم أحمد إسماعيل وزير الحربية الجديد والآتي من رئاسة المخابرات العامة.
كان التعيين ذكيّاً ــــ في منطق السادات ــــ في أنه سيجعله مديناً بالكامل له ومطيعاً لآخر الحدود.
ساعد السادات في عملية إقصائه صادق ومجموعته وجود الفريق سعد الشاذلي رئيساً لأركان الحرب، وهو الذي كان يعتنق نظرية الحرب المحدودة من وجهة نظر عسكرية صرفة، ولأنه على علاقة غير طيبة بصادق. احتاج السادات خلال تخطيطه لحربه إلى حليف يخوضها معه، ولم يكن هناك سوى سوريا، ومن هنا أنفق الشهور الأولى من 1973 في إقناع حافظ الأسد بمزايا المخاطرة المشتركة، وباعه وهم أن دوره في المعركة هو الوصول إلى مضائق سيناء، بينما هو في الحقيقة مكتفٍ بشريط 10 أميال، بكلّ ما يعنيه ذلك من أن عبء الحرب بعد إنجازه ذلك الهدف سيقع على سوريا.
وقع الأسد في ذلك الفخ، مع العلم أنه هو الآخر كان مضطرّاً إلى ذلك الخيار، حيث شرعية النظام برمّتها تتوقّف على ما هو فاعل تجاه احتلال حيز من أرض الوطن حصل خلال فترة تولّيه وزارة الدفاع. كان للولايات المتحدة حساباتها في تلك المسألة، فهي من جهة لم تكن تمانع في لجوء مصر إلى السلاح، لأنها واثقة بأنّ إسرائيل قادرة على امتصاص أي ضربة وإجهاضها، ثمّ التحرّك لتكسير مهاجميها وفق معيار تحدده الولايات المتحدة، فإذا شعرت بأن التكسير جاوز حدّاً معيناً وهدّد نظام السادات في صلبه، أوقفته قبل ذلك الحدّ، ممّا ييسّر له في كل الأحوال ادعاء أنه حاول وقاتل، وآن أوان قدومه إلى طاولة المفاوضات. لكن ما لم تحسب له الولايات المتحدة حساباً دقيقاً هو أنّ القوات المصرية والسورية مجتمعتين استطاعتا خلال الأيام الخمسة الأولى والمجيدة للحرب من أن تلحق بالقوات الإسرائيلية خسائر أفدح من أي حساب، ممّا أوصل قادة إسرائيل إلى حافة اليأس، بل التفكير في اللجوء إلى السلاح النووي.
حينها ألقت الولايات المتحدة بثقلها في إسناد إسرائيل بكل ما في ترسانتها من سلاح، وبهدف إعادة التوازن المختل، وتمكين إسرائيل من اختتام الحرب بعكس البداية، وبما يمكّن السادات ــــ برغم الإذلال الذي لحق بجيشه ــــ من ادعاء بعض نصر يتيح له القدوم إلى طاولة المفاوضات. كان يوم 7 تشرين الثاني 1973 يوماً حاسماً في التاريخ العربي المعاصر... جلس اثنان بمفردهما في قصر القاهرة: أنور السادات وهنري كيسنجر، وأبرما صفقة العصر: خروج مصر النهائي من عباءة عبد الناصر وانخراطها الكامل والشامل في فلك السياسة الأميركية
في الشرق الأوسط، العالم العربي، وأفريقيا!

* كاتب عربي