إسكندر منصور *ما إن قرر العماد عون العودة إلى لبنان، وما إن نطق وليد جنبلاط ‏بأن «تسونامي» قادم، حتى بدأت تنهمر المقالات السلبية بشكل ‏ضربات استباقية للحدِّ من وهج هذا العائد من فرنسا إلى لبنان. ‏
قيل إنه كان هناك محاولات لتأخير عودة «المسيحي القوي» المنفي ‏على يد نظام الوصاية السورية إلى وطنه ومنعه من خوض الانتخابات ‏النيابيّة، لكنها فشلت. فجاء الحلف الرباعي أول سدّ في وجه التيار ‏العوني وأوّل محاولة لدفن العونيّة في مهدها قبل أن تمتد شرارتها ‏لتطول التركيبة البرلمانية الصاعدة. فسقط السدُّ وجاءت ثقة الناخبين ‏لتعطي الظاهرة العونيّة شرعيّة غير مشكوك فيها وغير مسبوقة، لم ‏ينلها أي زعيم مسيحي من قبل، حتى كميل شمعون في مجده.
لم يفتح ‏له نجاحه في الانتخابات الطريق إلى الذي مجد لبنان أعطي له، فبقي ‏‏ «غريباً» حتى قبل أن يوقّع ورقة التفاهم. كثرت الأسئلة عن ‏دوافع الجنرال من توقيع وتوقيت ورقة التفاهم مع حزب الله، أو عن ‏جدوى المراهنة على حصان «خاسر» لا محالة، إن كان في علاقاته ‏الداخلية أو العربيّة أو الدولية. لذلك صحّ السؤال إذا كانت العونية ‏محكومة بالتدمير الذاتي والهروب من الانتصار الذي حققته انتخابياً. ‏
قيل، هذا ما حصل سنة 1990عندما أخرج عون نفسه من المعادلة ‏الداخلية بتكابره وتحدّيه للإرادة الدولية التي قررت إدخال لبنان في ‏ثلاجة الوصاية السورية، فجاء الرفض العوني كمن يصرخ وحيداً في ‏البرية ولا يسمع سوى صدى صراخه. وبناءً على ذلك يتنبأ الكثيرون ‏أن مصير عون سنة 1990 سيتكرر هذه المرة أيضاً ويخرج الجنرال ‏خاسراً ووحيداً. ربح الجنرال الرهان وخرج رابحاً منتصراُ في حرب ‏تموز؛ فهل يربح الجنرال الرهان الأخير كمفاوض ينقل وطنه إلى ‏شاطئ الأمان أم سيُغرِق نفسه والوطن معاً؟ لكن بالرغم من البداية ‏المثيرة والمفاجِئة والنهاية «المتوقعة»، تبقى الظاهرة العونيّة موضوعاً ‏شيقاً ومثيراً للنقاش والتحليل، في جوهرها يكمن السؤال عن دوافع ‏سلوك الفرد والجماعة. ‏
الثابت والمتحرِّك
تمترست كل من المعارضة والمولاة وراء خطوط دفاعيّة من ‏‏«الثوابت» اعتُبر التخلي أو التراجع عنها ضرباً من الخيانة في حق ‏لبنان الذي يريده كل منهما على قياسه وشكله. فبعدما وافقت كل من ‏المعارضة والموالاة على انتخاب قائد الجيش العماد سليمان رئيساً ‏للجمهوريّة، انتقل الخلاف إلى كيفيّة تشكيل الحكومة رئاسةً وعدداً ‏وشكلاً مما هدد الاتفاق على الرئيس التوافقي ــــــ العماد سليمان ـــــ ونقل ‏البلاد إلى مرحلة ثانية من التجاذب أصعب من سابقاتها، وربما كانت ‏الأصعب في تاريخ تشكيل الحكومات في لبنان، نظراً لتشابك وتداخل ‏كل من العوامل المحلية والإقليمية والدولية. ‏ميزة المرحلة الحاليّة هيمنة «الثابت» وغياب «المتحرِّك»، وكأنّ كلّاً ‏من الموالاة والمعارضة يعيش خارج التاريخ بعيداً عن السياسة كما ‏قدّمها إلينا فلاسفة الإغريق. يرى الأشياء والمواقف كما هي الآن، ‏لا كما من الممكن أن تكون لاحقاً. المستقبل بالنسبة إلى كلّ منهما بعيد ‏والحاضر الآنيّ يحدِّد سرَّ الموقف، وكأنّ عمر الوطن وحياته عمره ‏وحياته، وليس هناك من أجيال لاحقة تستحق العيش
والسلام.
لا وقت ‏عندهما لمناقشة سياسة وبرنامج كل منهما ليحمل الخلاف وجهة ورؤية ‏الوطن الآتي. غياب النقاش حول البرنامج سببه أولاً وأخيراً عدم ‏وجوده عند كل منهما؛ وإن كانت هناك ملامح برنامج سياسي معلن ‏عند كل منهما، فهو يحجب أكثر مما يكشف ويعلن عنه، وما يصرَّح به ‏يختلف عما يُعمل به ويمارَس على الأرض. لذا أصبح النقاش ‏والخلاف على أرقام ونِسَبة عدد الوزراء حيث انقسم اللبنانيون بين ‏مناهضي الثلث الضامن/المعطّل من جهة، ومؤيدين ومصرّين عليه من ‏جهة أخرى. وهكذا يذهب اللبنانيون إلى فراشهم كل مساء فيرون في ‏أحلامهم العماد «الممثل الشرعي والوحيد» للمعارضة ممسكاً بورقة ‏مستورة لكنها سهلة القراءة (رقم 11) في جيبه، ويرون أيضاً أرقاماً ‏مختلفة في جيب الـ«نحن لها» الذي هو أيضاً «الممثل الشرعي ‏والوحيد» للموالاة، مع حق الرئيس أمين الجميل في حضور الجلسات ‏من دون حق أخذ القرارات، ليتأكد من أنّ «السنَّّة» لا يفرّطون بحقوق ‏‏»الموارنة»، إن بقي هناك من «حقوق». ‏
كثرت الجولات التفاوضيّة، فكان الفشل مرافقها الوحيد إلى الطريق ‏المسدود والمقفل. يعود سبب الفشل والطريق المسدود إلى غياب ‏‏«المتحرِّك» وحضور بارز «للثابت». فـ«الثابت» يوحي ويؤكد أن رقم ‏‏11 الذي في جيب العماد والذي هو مطلب المعارضة ورمز وحدتها ‏ومساهمتها في مستقبل لبنان ثابت لا يتغيّر، إن كان قبل تشكيل الحكومة ‏أو من خلال الحكومة حتى يوم القيامة. هكذا ترى الموالاة أنّ ‏المعارضة ستصوّت دائماً ككتلة متضامنة ثابتة في وحدتها ورؤيتها ‏ومواقفها وتحليلاتها؛ هذا إن كان الموضوع هو المحكمة الدوليّة، ‏السياسة الدفاعيّة، إنهاء الدويلات لمصلحة الدولة العادلة والقويّة أو ‏قانون الانتخابات. وبالمنظار نفسه، ترى المعارضة أنَّ الموالاة، وإن ‏كانت أقرب بعضها إلى بعض من المعارضة، ستصِّوت ككتلة ثابتة في ‏وحدتها ورؤيتها ومواقفها من جميع القضايا؛ إن كان في الاستراتيجيّة ‏الدفاعيّة أو قانون الانتخابات أو حتى في العلاقات المستقبليّة مع سوريا، ‏وكأنّ المعارضة على سبيل المثال لا الحصر لا تتابع مواقف وليد ‏جنبلاط الثابت في تحركه وتقلّبه الدائمين. ‏
متعاطو السياسة والسياسيون يعشقون تغيير مواقفهم وتحالفاتهم ‏والانتقال من ضفة لأخرى وحسب الحاجة من حين إلى آخر، أو بلغة ‏أخرى الإكثار من «المتحرِّك» والإقلاع عن «الثابت»؛ أو قل أحياناً ‏عند البعض مرونة في الشكل وثبات في الجوهر. أما أهل الموالاة ‏والمعارضة في لبنان، فهم يقدّسون «الثابت» ويكفرون بـ«المتحرِّك». ‏ربما لأنّ «المتحرِّك» والتحرُّك والحركة خارجة عن إرادتهم. أو ‏بتعبير أوضح، المحرِّك بالنسبة إليهم غير
المحرَّك.‏
التمترس أو قل التخندق ورفض الانفتاح على الإمكانات والآفاق ‏الجديدة أو الانتماء إلى عالم التحوّل ميزة المرحلة عند الموالاة ‏والمعارضة حيث إنّ الخطوة الأولى بمنظار المعارضة تبدأ ‏بالاعتراف بأنّ الرقم 11 هو الابن الشرعي لأي حوار مثمر وما عداه ‏من الأرقام ابن حرام. كذلك ترى الموالاة أنّ أي رقم أقل من رقم 11 ‏تكمن فيه كلمة السر ومفتاح الحلّ. ماذا لو أصبح رقم 11 مثلاً عشرة ‏أو تسعة أو ربما اثنا عشر أو ثلاثة عشر. بكلمة أخرى ماذا لو غيّر ‏بعض الوزراء، إن كان في الموالاة أو المعارضة، مواقفهم أو ‏تحالفاتهم؟ ماذا لو غيّر المحرِّك (الخارجي) موقفه والتاريخ يشهد ‏بحصول ذلك مرات ومرات؟ هذا ما حدث ويحدث في عالم السياسة ‏في لبنان وفي كل مكان. ‏
رفضت الموالاة والمعارضة المراهنة على المستقبل والآتي والجديد ‏والمتغيِّر، فبقيتا سجينتَي «الثابت» القديم والحاضر. فالجديد «المتحرِّك» ‏مجهول والقديم الحاضر ثابت ومعلوم. وفي الجديد المجهول خوف ‏وتردُّد وفي القديم «الثابت» طمأنينة وارتياح. ‏
من الدويلات إلى الدولة
الحكومة تولِّدُ واقعاً حركياً جديداً. فيها يجتمع الوزراء وجهاً لوجه. هذا ‏هو دور المؤسّسات. كسر الجليد بين المتخاصمين الذين تجمعهم ‏المؤسّسة وتقرّبهم وتضعهم وجهاً لوجه فيصبح وجودها ضرورة لا ‏يوازيه وجود آخر. فقط الحكومة/ المؤسّسة/ الدولة تلغي الدويلات ‏تدريجياً. يرى كل من أعضائها وجوده من وجودها وقوته من قوتها ‏ومكانته من مكانتها. تصبح الدويلة هي الثانوي بينما الدولة هي ‏الأساس.
الخطابات لا تنفع وخاصة الخطاب الجنبلاطي المتوتِّر الذي ‏يظهر وكأنّ دويلة تطلب من دويلة أخرى أن تلغي نفسها. فمتى كانت ‏الدويلة تلغي نفسها لحساب دويلة أخرى؟ فقط الدولة الجامعة العادلة ‏والقوية قادرة معنويا وأخلاقياً على الإقناع بالإقلاع عن فكرة الدويلة ‏لأي كان. الدويلات كثيرة في لبنان وليست واحدة، كما يزعمون. ربما ‏هذه الواحدة هي الأقوى ولكن بالتأكيد ليست الوحيدة. كل من يسهم في ‏إعلاء شأن الولاء للطائفة على حساب الوطن إن كان من خلال ‏الشعارات والممارسة (مثلاً «بيروت خط أحمر» أو غيره) التي ‏تستنهض (والأصح تعبّئ) ليس فقط على أساس طائفي بل أيضاً على ‏أساس جغرافي/مناطقي، يؤسِّس لدويلة. ‏
غاب النقد للخطاب الجنبلاطي الأخير من جانب مثقفي وكتّاب 14 ‏آذار. ربما كان النقد خافتاً في الخفاء لئلا يُنشر الغسيل خارج الغرف ‏المغلقة وتصل الأصوات إلى آذان الـ8 آذاريين فيبتسمون وربما ‏يقهقهون. مهمة المثقف هي النقد للقريبين منه والبعيدين على السواء، ‏لا أكثر و لا أقل، وإلّا فقد دوره. لاذ أكثر كتّاب ومثقفي 14 آذار ‏‏(باستثناء أصوات معدودة) بالصمت في موضوع الدعوات ‏الجنبلاطيّة إلى الحرب الأهليّة والطلاق، إضافة إلى ظاهرة إطلاق ‏النار للترحيب بإطلالة الـ«فنحن لها»، وكأن مثقفي الموالاة لم يقرأوا ‏ولم يسمعوا ماذا يحصل وبماذا يُصرَّح إلّا فقط ما صُرِّح به عن ‏‏»الحرب المفتوحة» ــــــ الموضوع الذي يستحق من دون شك التأمُّل ‏والمساءلة والنقد؛ وبالرغم من أنّ إسرائيل هي صاحبة «الحرب ‏المفتوحة» شعاراً وممارسة منذ أن وجدت على أرض فلسطين ‏العربيّة، فإن هذا لا يعفي المقاومة من تجنُّب الخطوات الناقصة التي يراد ‏أن تُستدْرَج إليها. المثقف المبرِّر يقول إن وليد له لغته وأسلوبه وإنّ ‏دعوته المفتوحة إلى الحرب الأهليّة هي صرخة في وجه من يسدّ ‏أبواب الحلول. لا. لقد تخطّى الوليد كل الخطوط والأعراف ونطق ‏الكلمات الممنوعة في القاموس اللبناني الجديد (مثل الحرب والطلاق) ‏ليلحقها بعد أيام باتهام مباشر لحزب الله بأنه شريك في الاغتيالات، ‏وذلك في أوج الاحتقان الطائفي والمذهبي، وكأننا نسينا الحرب ‏الأهليّة. فجورج ناصيف المثقف الـ14 آذاري كان على حق حين كتب ‏‏«لقد ذهب جنبلاط إلى لغة مكروهة (رغم التراجع عنهاْ [التعبير ‏لجورج ناصيف]) بغيضة، تثير عليه أصدقاءه ومشايعيه قبل أعدائه ‏ومناهضيه. فالحرب لعنة وقباحة ودم وكوابيس وقبور لا يشتهيها ‏عاقل.
الحرب إطاحة للبنان وتوغل في القسمة واستدعاء للعدو ‏الإسرائيلي إلى داخل الدار» («النهار»، 14 شباط
2008). ‏
حان الوقت لانتخاب الرئيس وتشكيل حكومة يكون الإجماع والتوافق ‏ضرورة في القرارات المصيريّة وهي كثيرة وملحَّة، إن كان في رسم
الاستراتيجيّة الدفاعيّة أو في ما يتعلق بطبيعة علاقات لبنان العربيّة ‏والإقليميّة والدوليّة والموقف مما يحضَّر له من عدوان على الطريق ‏وعلى مسمع العالم كله. حان وقت مغادرة «الثوابت» الماضية ‏والمتاريس والتضّاد المفكِّك والمفتِّت للوطن والانخراط في ورشة ‏الحفاظ على هذا الوطن، وطننا جميعاً. ‏
‏ ‏‏* كاتب لبناني مقيم في الولايات المتحدة الأميركيّة ‏