تكثيـف للوثائـق على حساب منهجيّة البحثمعمر عطوي
لا يمكن «محاكمة» كتاب «حوار مع الذاكرة» في جزئه الثاني، من دون قراءة الجزء الأوّل، ذلك أنّ الكاتب غسان عز الدين، أراد توثيق مرحلتين مهمّتين بعد الاستقلال اللبناني. المرحلة الأولى هي التي تلي إعدام زعيم القوميّين الاجتماعيين السوريّين أنطون سعادة، والثانية هي المرحلة التي أعقبت المحاولة الانقلابية الفاشلة للحزب القومي ليل 30 ـ 31 كانون الأول 1961، ولغاية صدور العفو العام عن المحكومين بتاريخ 13 شباط 1969.
وبغضّ النظر عن محتوى الجزء الأول، وعمّا إذا كان الجزء الثاني الصادر عن المؤلّف نفسه، الذي تولّت مهمات توزيعه دار الفرات في بيروت، قد أتى في سياق يتمّم ما قبله، فإنّ ما وقع فيه الكاتب لجهة تقنية الكتابة ومنهجية البحث، لا يعفيه من «مشرحة» النقد.
ما يدفع إلى النقد في هذا الإطار، يبدأ من العنوان «حوار مع الذاكرة ـ لبنان منذ عهد الاستقلال ماذا تغيّر؟». عنوان لا ينطبق بتاتاً على مضمون الكتاب. سبب عدم الانطباق هذا يعود الى عدة أخطاء وقع فيها الكاتب الذي أراد تدوين دوره في الثورة القومية الاجتماعية الثانية، فوقع في اجترار عرض البيانات والخطابات والمقالات التي أخذت الحيز الأكبر من الكتاب، على حساب منهجية البحث المفترض أن يكون «حواراً مع الذاكرة» لا تجميعاً لوثائق
ومستندات.
أمّا الجزء الآخر من العنوان «... ما الذي تغيّر»، فلا أظنّ أنّ الكاتب قد دخل في دراسة مقارنة بين الأمس واليوم، لملامسة جوهر العنوان. إنّما عرض تفاصيل مرحلة من مراحل العمل السياسي خلال النصف الثاني من القرن الماضي، تاركاً للقارئ إعمال مخيّلته في استنتاج ما الذي تغيّر بين الأمس
واليوم.
طبعاً، لا يمكن التقليل من أهمية ما احتواه الكتاب من وثائق وبيانات ومقالات صحافية تدعم رواية القارئ عن تلك الأحداث المهمّة في تاريخ لبنان. لكن كان من الأجدى لو قام عز الدين بوضع هذه الوثائق في فصل خاص في نهاية عمله بدلاً من تضييع سياق الرواية الأساسية التي بدأ بسردها، والتي تناولت تلك المرحلة التاريخية المشحونة بالأحداث السياسية من منظور قومي اجتماعي بحت.
ربما كان سبب الخروج عن السياق الروائي هو رؤية الكاتب نفسه للتعامل مع الذاكرة، التي عبّر عنها بقوله في المقدمة «عندما يعتمد الواحد منّا على الذاكرة لرواية أحداث مرّت عليها سنوات طويلة، فليس بالمستغرب أن تجد بعض الاختلاف في رواية الحدث ذاته بين شخص وآخر، سواء في ذكر الأسماء والتواريخ، أو في حال اختصار الرواية والابتعاد عن الخوض في التفاصيل الدقيقة. الأمر الذي قد يؤدّي إلى غياب أو تغييب بعض الأسماء، وإبقاء رواية بعض الأحداث فيها في حال من الغموض».
ويعترف الكاتب هنا بصعوبة سرد الأحداث بدقّة «أنا أدرك جيداً أنه ليس بالأمر السهل على الواحد منا، أن يكون دقيقاً مئة في المئة عندما يتعلّق الأمر برواية بعض الأحداث التي مرّ عليها أكثر من 50 عاماً، حيث يختلط بعض الأحداث ببعضها الآخر».
يحتوي الكتاب على ثلاثة أبواب: الأوّل يتضمّن المرحلة التي تلت استشهاد «الزعيم»، وتناولت التحالفات والخصومات التي كانت بين الحزب القومي والشخصيات والتيارات السياسية في لبنان، متناولاً العلاقة مع كميل شمعون ورياض الصلح
وغيرهما.
في الباب الثاني وتحت عنوان أراد من خلاله الإضاءة على العلاقة الملتبسة بين لبنان وسوريا، التي تتشابه مع ما نعيشه اليوم. وربما كان العنوان «لبنان منذ عهد الاستقلال ماذا تغيّر»، قد عنى به الكاتب إجراء مقارنة تصبّ في هذا الإطار.