غياث نعيسة *«وأن نتذكر أيضاً ذلك الذي نسي إلى أين يوصل الدرب» (هراقليطس، مقتطفات)
أثار انعقاد المجلس الوطني لإعلان دمشق في بداية ك1/ ديسمبر 2007 من جديد سجالاً ساخناً وصراعات تجلّت في البيانات والتصريحات والكتابات، وبالكاد خفّفت من هذه الحمّى السجالية الحملة الأمنية القمعية من الاعتقالات والاستدعاءات التي تعرّض لها أعضاء إعلان دمشق، والقمع الأمني الشديد المتواصل لهم.
والحق أنّ مجرّد انعقاد مؤتمر بحضور أكثر من مئة وستّين ناشطاً في سوريا هو بحد ذاته حدث هام. لكنه بالتأكيد لا يعني تحويل العمل السياسي إلى مجرد نشاط محموم من أجل عقد اجتماعات حصراً.
أزمة تكتّل إعلان دمشق
وفي حين نرى بشكل موضوعي أنّ البيان الختامي الذي صدر عنه، كان أفضل بكثير من الوثيقة التأسيسيّة نفسها لإعلان دمشق الصادرة في 16/10/ 2005. فقد كان مثيراً للانتباه أنّ من جمّد نفسه من موقّعي الإعلان إنّما فعل ذلك بعدما لم يجد نفسه منتخباً في هيئات الإعلان القيادية وعلى أساس بيان ختامي أفضل من البيان التأسيسي الذي قام عليه إعلان دمشق نفسه، والذي وقّع عليه المجمّدون أنفسهم أو المنسحبون. لماذافالحجة التي طرحها بعض من المنسحبين أو المجمّدين أنفسهم ـ نخص بالذكر حزبي الاتحاد الاشتراكي والعمل الشيوعي ـ بأنّ الاجتماع الأخير لإعلان دمشق قد توّج انتصار التيار الليبرالي داخله على حساب التيارين القومي واليساري، هي برأينا حجة لا تصمد بتاتاً أمام الوقائع. فالوثائق الصادرة عن الاجتماع الأخير ليست أكثر ليبرالية من الوثائق السابقة، وخاصة مقارنة بالوثيقة التأسيسية التي كانت فاقعة الليبرالية، ومن النوع الصريح وعلى أساس من الديموقراطية «التوافقية» الشبيهة بالقائمة في لبنان والعراق. فأين هي زيادة الجرعة الليبرالية إذاً؟ ومن هو اليسار ومن هو اليمين؟
في المقابل، فإنّ البعض قال، همساً أو علناً، إنّ الاجتماع الأخير عزّز من موقف وسيطرة تيّار الليبراليّين الجدد على إعلان دمشق وخاصة أنه أفصح عن رهانهم على التدخل الخارجي في عملية التغيير الديموقراطي، واستند البعض منهم على مقطع من تصريح رياض الترك تجاه موقف الرئيس الأميركي من الاعتقالات ووصفه له «بموقف نبيل» كدليل برأيهم على هذا الانحراف «الخطير» عن الموقف الوطني المطلوب. والأصح هو أنّ مواقف إعلان دمشق بعد اجتماعه الأخير ووثائقه قد شهدت تراجعاً نسبيّاً عن وهم التدخّل الخارجي الوشيك الذي سيزيح النظام لمصلحة «تغيير ديموقراطي»، وقد ساعدت الظروف الإقليمية والدولية في إزالة هذا الوهم نسبياً، بينما أن الإعلان التأسيسي في 2005 وظروف تشكيل تكتل إعلان دمشق والذي وقّعت عليه الأطراف التي جمّدت نفسها إنما قام على تحليل عام ساد أوساط النخب السورية بمختلف تلويناتها بأن النظام السوري آيل إلى السقوط الوشيك نتيجة الضغوط الخارجية، وأنه «مضعضع وقد يتهاوى» (ياسين الحاج صالح: إعلان دمشق إلى أين؟). إذا تهاوت هذه الحجة أيضاً للمنسحبين فكيف نفسّر إذاً ما حصل من نزاعات داخل أطراف إعلان دمشق؟ هذا دون أن نقع في فخّ الاستسهال والنوم على وسادة البلادة الفكرية من خلال القول إنّ السلطة وحدها هي التي تقف وراء ما حصل.
الحقيقة أنّ ما جرى من نزاع وتفكّك داخل أطراف إعلان دمشق وفي لحظة حرجة من تطوره: عقد اجتماعه وانتخاب هيئاته وإطلاق السلطة حملة اعتقالات ضده، كان مدمّراً على صعيد القدرة على مواجهة الحملة الأمنية ومدمّراً على صعيد ترسيخ آليات التضامن المشترك ومدمّراً على قدرة تكتل إعلان دمشق على النشاط الفعلي. وكان ما حصل في الوقت نفسه كاشفاً جديداً لمدى هشاشة بنية وقدرة الأطراف المعارضة السورية عموماً، ومدى عمق «الأزمة السياسية والفكرية» التي تعاني منها جميع أطرافها (ي. الحاج صالح، المصدر السابق). وقد أقرّ إعلان دمشق بخطورة التفكّك الذي يعانيه في افتتاحية موقع النداء بتاريخ 23 شباط/ فبراير 2008 عندما أعلن أنّ ما حصل لإعلان دمشق ليس فقط «تراجعاً إلى الوراء» بل ما هو أخطر، إنه «تدمير ـ بأيدينا ـ لأفضل ما حققه السوريون»، ما يجعل مستقبل استمرار وجوده كتحالف سياسي نشط موضع تساؤل جدي.
وفي حين يمكن القول إن تذبذبات الأطراف السياسية المعارضة المذكورة ومساراتها المتعرجة ترتبط «بأزمة وتقلبات وضع أجنحة من الطبقة الوسطى السورية»، وهو برأينا صحيح، ولكن إلى أي درجة يصبح حينئذ صحيحاً تصنيفها على أساس سياسي أيديولوجي: يمين، يسار، قومي... ليبرالي. الخ؟ بغياب ممارسة بعينها وخطاب سياسي متماسك وواضح. وفي جو من سيادة اللغو الديموقراطي العام المشترك لدى نفس النخبة بخلاف جملة أكثر أو أقل هنا أو هناك عن موضوعين: الأول هو «الوضع المعيشي للطبقات الشعبية»، ليصبح كل من يقول بها يساراً (وتعريف كهذا يشمل طيفاً من أحزاب الجبهة الحاكمة وصولاً إلى تلك المعارضة). والثاني هو الموقف من الإمبريالية الأميركية وحلفائها ومشاريعها في المنطقة، ليصبح من يتشدّد بالقول في مواجهتها يساراً أيضاً، وهو معيار يشمل طيفاً من القوى السياسية الحاكمة وليست حكراً ـ كخطاب ـ على القوى المعارضة.
نحو اليمين در
والحال، نجد أن مراجعة سريعة لحال النخبة المعارضة السورية تؤكد على عدد من سماتها الأولية ولكن الجوهرية، أولها أنها فعلاً من صلب الشرائح الوسطى السورية التي تعاني كطبقة من حالة اضمحلال متواصلة بسبب التغييرات الاقتصادية ـ الاجتماعية الناتجة من السياسات الحكومية النيوليبرالية لمصلحة إغناء الأغنياء وإفقار الفقراء، وثانيها أنها ـ أي النخب ـ في غالبيتها من المعتقلين السابقين للأحزاب اليسارية «السابقة». وثالثها هو تحولها إلى ملكوت الديموقراطية والليبرالية، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي ودول أوروبا الشرقية وتأثيره المحبط على الأحزاب الشيوعية واليسارية في دول العالم، إضافة إلى انهيار مرجعياتها الأيديولوجية والبرنامجية (وبعضها الليبرالي الصرف أبرز عداءً واضحاً لقضيتي الطبقات الشعبية ومناهضة الإمبريالية، ممّا يعكس رغبته بقطيعة كاملة مع ما قد يبدو أنّه مشترك مع الخطاب الذي ما يزال يرتكز عليه النظام)، ورابعها افتقادها أو تقلّص قاعدتها الاجتماعية مع غياب نضالات اجتماعية واسعة أو انعزالها عنها، ممّا أدّى بها إلى انزياح عام، بمختلف تلويناتها السياسية، نحو اليمين.
فالمعارضة السورية في مواجهة تفاقم الأزمة الاقتصادية ـ الاجتماعية التي تعانيها الجماهير الواسعة المفقرة إنما هي «أبعد ما تكون عن هموم الناس ومعاناتهم» (بشار العيسى: المعارضة السورية لملمة جراح العزلة...).
يكفي النظر، كمثال على ما نقول، إلى الانزياح اليميني شبه الليبرالي أو «الديموقراطي» على الصعيدين الفكري والسياسي لدى أهم الأحزاب اليسارية بل والماركسية سابقاً في المعارضة مثل الحزب الشيوعي السوري ـ المكتب السياسي، الذي غيّر اسمه إلى حزب الشعب الديموقراطي ويدعو إلى إقامة «دولة المواطنة والديموقراطية» والالتحاق باقتصاد السوق حيث إنه ينتقد السلطة «لأن حزمة التشريعات والقوانين... تحت مسمى تحرير السوق، لم تجد طريقها إلى التنفيذ... وهكذا بقي الحديث عن اقتصاد السوق والإصلاح الاقتصادي حبراً على ورق» (التقرير السياسي الصادر عن المجلس الوطني لحزب الشعب الديموقراطي المنشور بتاريخ 6/1/2008 ) في حين أن واقع الحال يشير إلى الحماسة الحكومية المنقطعة النظير إلى تسارع لبرلة الاقتصاد السوري وفقاً لوصفات صندوق النقد الدولي ونتائجها المفجعة في رفع الأسعار وإفقار شرائح واسعة من الجماهير الشعبية السورية لإدراك مدى الانزياح الليبرالي ـ الشعبوي لهذا الحزب. وفي السياق نفسه نجد أيضاً حزب العمال العربي الثوري، الذي أصبح في مواقفه وأطروحاته شبيهاً إلى حد المماثلة لحزب الشعب الديموقراطي، وأخيراً حزب العمل الشيوعي الذي بالرغم من دعوته إلى «بناء حزب يساري من طراز جديد» لم يعد يملك سوى خطاب سياسي ضبابي «ديموقراطي» عام يدعو إلى «إنهاء احتكار السلطة» بقطيعة مع تجربته السابقة وتاريخه وخطابه اليساري الواضح. وهذا الانزياح العام «لليسار» نحو اليمين يتجلى أيضاً بوضوح في التحالفات السياسية التي يشارك فيها، تحت أي مسمى كانت.
في آليّات التحالفات
لقد شكل إعلان دمشق إحدى أهم محطات سياسة التحالفات التي طرحتها المعارضة السورية، ومما لا شك فيه أن وثيقته التأسيسية عبرت من خلال فقراتها المتعددة عن رغبة بإرضاء كل الأطراف المبادرة به: نزوع ديني وطوائفي لإرضاء الأطراف الإسلامية، وليبرالية لإرضاء الأطراف الليبرالية الناشطة كمستقلين أو في أحد شقي لجان إحياء المجتمع المدني وفي حزبي الشعب والعمل العربي... الخ. لكن الزخم الإعلامي الذي رافق تشكيله وشعور المؤسسين بأن الإعلان أصبح هو الممثل الوحيد للمعارضة أدى بهم إلى سلوك عصبوي وإقصائي واضحين. وزاد من الطين بلة كثرة الأشخاص والهيئات التي سارعت إلى الانضمام إلى إعلان دمشق، بغض النظر عن حقيقة وأهمية وجودها. وجعل هيمنة هذا الشعور بأنه لا عمل معارضاً خارج الإعلان إلى الدفع بانشطارات وارتباكات متوترة عاشتها أغلب الهيئات الحقوقية والسياسية وغيرها.
والحقيقة، أن هذا التجميع الكمي العشوائي، لم يكن في النتيجة مفيداً كما توضّح لاحقاً بعد حملة الاعتقالات التي تعرضت لها قيادة الإعلان، فأين هي اليوم هذه المئات من الهيئات والجمعيات والأحزاب والشخصيات؟
كما أن الزخم الذي حظي به الإعلان حين تأسيسه لم يخف الخلاف ـ بل ولنقلها بصراحة الكره وغيره من المشاعر الشخصية الشائعة التي تبعد العقلانية عن العمل السياسي المعارض ـ الذي يهيمن على العلاقة بين بعض الأطراف الفاعلة في الإعلان وعلى وجه الخصوص بين حزب الشعب وحلفائه، من جهة، وبين الاتحاد الاشتراكي بشكل خاص ـ وإلى حد ما حزب العمل الشيوعي، من جهة أخرى. وقد عبر عن ذلك، كمثال بين أمثلة عديدة، مقالة نشرت مباشرة بعد انتهاء أعمال مجلس إعلان دمشق على صفحات موقع حزب الشعب بتاريخ 6/12/2007 بقلم أحمد مولود الطيار يتشفّى فيها بهزيمة قيادات حزب الاتحاد الاشتراكي، موضحاً أن نتائج الانتخابات أفرزت «هزيمة قاسية لاثنين» منهم، داعياً حزب الاتحاد الاشتراكي إلى دراسة «أسباب الإخفاق» ومتسائلاً إن كانت «قواعد وكوادر الحزب ستتململ وتسائل قيادتها، لماذا منينا بهذه النتيجة المخيبة». ودعا الكاتب الأمين العام لحزب الاتحاد الاشتراكي إلى الاستقالة، ناصحاً حزب الاتحاد الاشتراكي بأن لا يقع «وعلى جري العادة أيضاً عند كل عقل مستقيل» في نظرية المؤامرة... الخ. هذا النموذج من الكتابات غير الودية بين الحلفاء والردود التي تمّت عليها، والتي لم يخفف من كثرتها سوى حملة الاعتقالات التي أصابت قيادات إعلان دمشق، إنما هي بمجملها مؤشر على ركاكة الأسس التي تقوم عليها التحالفات القائمة.
ولا يمكن لأحد أن ينكر أن آليات انتخابات المجلس الوطني لإعلان دمشق كانت مرتّبة بشكل يسمح، طبعاً من خلال الانتخابات، بالتخلص من قيادات حزبي الاتحاد الاشتراكي والعمل الشيوعي. وكانت الانتخابات أيضاً مدروسة بشكل دقيق دون إخفاء أن التركيبة الطائفية للمنتخبين كانت واضحة، مع إحراج الحزبين الأخيرين بانتخاب شخصيتين، لكل منهما القدرة على القول إنها انتخبت بصفتها إما مستقلة أو بصفتها الحزبية، الأولى من حزب العمل والثانية من الاتحاد الاشتراكي. وقد أكد ذلك رياض سيف في التحقيقات معه بعد اعتقاله بقوله «لدينا العلوي والماركسي، ولدينا الدرزي... الخ».
لكن حزب الاتحاد الاشتراكي، وهو حزب قومي، وبغض النظر عن رأينا فيه، هو من أهم القوى السياسية المنضوية في إعلان دمشق، خارج الأحزاب الكردية، وله نفوذه وجماهيره، وإن بقيت محدودة. وخروجه من إعلان دمشق شكل ضربة قاسية للإعلان لأنه من أهم أحزابه، ولأنه كان يشكل في عيون السلطة التزاماً بموقف «قومي» معروف بمعاداته لأي تدخل خارجي. فكان تجميد نشاطه ضمن إعلان دمشق بمثابة رفع الغطاء «القومي» عن الأخير.
إن أزمة إعلان دمشق التي تهدد مستقبله اليوم لها ضرر كبير على النضال من أجل الحريات الديموقراطية لأنه، ورغم خلافنا معه منذ تأسيسه، شكل إلى حد ما قوة دفع للمطلب الديموقراطي، وبالتالي فإن تفككه بالشكل الذي يتم فيه اليوم سيفاقم من صعوبات النضال الديموقراطي ومن حالة الإحباط واليأس، وهذا ما يدفعنا إلى القول إن الأزمة العميقة التي يعيشها الإعلان تتطلب من قياداته إعادة قراءة ممارساتها وسياساتها. لعلها تتجنب لاحقاً الطابع المتعالي والإقصائي الذي دمغ تأسيسه، ونسمح لأنفسنا أيضاً، بدعوتها إلى إعادة صياغة أسس تحالفاتها بعيداً عن النزوع العملي المضر للتجميع الكمي بدون أسس مبدئية واضحة، وعلى قاعدة الثقة المتبادلة، وإلغاء الانفصام بين ما هو معلن قولاً وبين ما هو حاصل في الواقع. وتشكّل قضية الموقف من الإخوان المسلمين وجبهة الخلاص نموذجين لمثل هكذا انفصام بين القول والفعل، علاوة على إشكالية قراءتها المتكررة للواقع المحلي والإقليمي والدولي بشكل قريب جداً لما يطرحه ما يسمى «محور الاعتدال العربي» وقد تجلت في البداية بشكل واضح في مواقف هذه القيادات من حرب تموز/ يوليو 2006 في لبنان والتي كانت نسخة مطابقة للموقف السعودي الرسمي. وأخيراً، نقول بضرورة إعادة النظر بتنظيرات فوقية وخاطئة، معزولة عن الواقع الفعلي وموازين القوى الاجتماعية، لبعض قيادات الإعلان التي تدعو بخفة «لاختبار موازين القوة مع السلطة» في أوقات حرجة من الضعف الذاتي، وبانفصال واضح عن النضالات الاجتماعية، رغم ضعف الأخيرة الراهن ولكن المدعوة إلى النمو السريع.
وفي تقويم أولي لتجميد الاتحاد الاشتراكي لنشاطه ضمن إعلان دمشق قدم أحد قياديي الاتحاد رجاء الناصر تحليلاً يشير إلى ضرورة المراجعة في «اختيار حلفائنا وتحالفاتنا وفي عدم استيعاب التغييرات لدى أولئك الحلفاء...» (رجاء الناصر، ماذا بعد؟ المراجعة المطلوبة) ومؤكداً على أن أزمات العمل الوطني «تنبع أصلاً من تلك القراءات المختلفة للواقع حيث أدت بهم قراءتهم إلى رهانات عقيمة بإمكانية الاستفادة من الهجمة الأميركية على المنطقة لتحقيق التغيير الديموقراطي».
ولم تمر أيام على هذه المقالة حتى طرح حزب الاتحاد الاشتراكي «مشروع إعلان مبادئ للحوار الوطني الديموقراطي في سوريا» كخطوة أولى على طريق بناء تحالف جديد لقوى من داخل وخارج إعلان دمشق. ويبدو أن حزب الاتحاد الاشتراكي بدأ بخطوات عملية على هذا الطريق، أوّلها حوارات لإعادة توحيد القوى القومية ولا سيما الناصرية منها، ومن ثم تعزيز الحوار مع حزب العمل الشيوعي وتجمع اليسار الماركسي ـ وهذا الأخير لا يتميز برنامجه عن الآخرين بشيء سوى دعوته إلى إعادة قراءة أكاديمية عميقة للماركسية ـ لتشكيل تحالف سياسي جديد غير إعلان دمشق.
وإن كان مشروع إعلان مبادئ للحوار المطروح لا يختلف جوهرياً عما طرح في إعلان دمشق وما تكرره مختلف قوى المعارضة النخبوية بشكل عام ـ باستثناء تركيزه على انتماء سوريا العربي وقضية العولمة وقضية المقاومة ـ إذ يكرر المشروع أن «الهدف من التغيير الوطني الديموقراطي هو بناء الدولة المدنية الحديثة». وأنه يدعو أيضاً إلى «التحالف الأوسع للقوى والأحزاب السياسية و...». وبما يبدو وكأنه التمايز الأهم عن إعلان دمشق في ما يتعلق بالإجراءات التحالفية، فإن هذا المشروع يشير إلى ضرورة «التوافق حول مبادئ أولى لتعاقد مدني ديموقراطي تنبثق منه المشتركات العامة التي يتم التوصل إليها عبر الحوار الديموقراطي الحر والمفتوح والمتكافئ بين كل الأطراف». ولكنه، كإعلان دمشق، فإن ما يطرحه مرة أخرى ليس سوى إعلان مبادئ لتأسيس تحالف سياسي آخر ـ غير إعلان دمشق ـ يفتقر أيضاً، ومن جديد، إلى برنامج العمل المحدد ولتحديد ساحات النضال المشتركة.
من جهته، برر حزب العمل تجميده لنشاطه في إعلان دمشق بسبب «النهج الإقصائي والكواليسي والتشكيك والتهويل الذي انتهجته أطراف وقوى داخل إعلان دمشق» (بلاغ عن اجتماع الهيئة المركزية لحزب العمل الشيوعي، أوائل ك2 2008) وتوصل إلى استنتاج مفاده أن «هذا النهج المنفرد والاستعلائي قاد في النهاية إلى تغييب التمثيل السياسي والتنظيمي لتيارين: الشيوعي الديموقراطي (حزب العمل) والقومي الديموقراطي (الاتحاد الاشتراكي) في قيادة الإعلان وتوجهاته الأساسية».
نرى بوضوح أن الخلافات بين أطراف قوى إعلان دمشق، ليست برنامجية أو استراتيجية وهي ليست حتى على أرضية اختلافات في تقدير النضالات العملية أو افتراق في التكتيكات لأنها تفتقر لها، بقدر ما أن هذه القوى المتنوعة والنخبوية المعزولة مهما كانت أسماؤها إنما، وعلى خلاف ما يبدو ظاهرياً، تتشارك إلى هذا الحد أو ذاك في نفس المقولات والمطالب، بدون أي حامل اجتماعي لها.
وفي حين تغيب عن تصورات واهتمامات هذه القوى النخبوية كل الشرائح الاجتماعية المضطهدة والمستغلة ومعاناتها ونضالاتها، فإنّ الدرس الأساسي الذي تعلّمنا إياه التجربة هو أن نضال المأجورين والمفقرين لا يتوجه فقط ضد الإمبريالية والصهيونية، بل يتوجه في الوقت نفسه ضد حكومة الرأسماليين أيضاً، وهذا يتطلب من القوى اليسارية الحقيقية عدم الفصل بين هذه المهمات، وهو ما يطرحه بالتحديد اليسار الاشتراكي الأممي.
بناء اليسار الاشتراكي
وفي كل الأحوال، وكائناً ما سيكون عليه مصير إعلان دمشق ـ الذي يجب النضال المستمر للعمل على الإفراج عن معتقلي الإعلان والمعتقلين السياسيين كافة، ومن أجل إطلاق الحريات العامة ـ أو غيره من التحالفات، فإنّ حواراً جدياً حول قضية التحالفات في المعارضة السورية أضحى ضرورياً. ومن وجهة نظرنا، فإن اليسار الاشتراكي النضالي يجد في النضالات الديموقراطية العملية الساحة التي يمكن أن يلتقي فيها كل المناضلين من أجل الحريات الديموقراطية. وليس، كما يحصل بشكل مكرر، في هدر الطاقات في المعارك المؤلمة لتشكيل التحالفات الفوقية الهشة ومن ثم تفكيكها، مما يطرح بإلحاح ضرورة بناء حاضنة دعاوية لهذا اليسار الاشتراكي الأممي تسمح بإعادة تأسيسه في خضم النضالات الجماهيرية وبالتوجه إلى جيل الشباب خصوصاً، هذا اليسار الاشتراكي الذي يستند ويشترط وجوده على مفهوم جوهري وأساسي وهو ضرورة الارتباط العضوي بالنضالات الجماهيرية، وأن التغيير المطلوب والاشتراكية التي يدعو إليها إنما هو التغيير من الأسفل والاشتراكية من الأسفل بفعل الجماهير التي هي ذات التغيير «لأن تحرر الطبقة العاملة هو من فعل الطبقة العاملة نفسها»، وليس الارتهان بأوهام النخب أو طموحاتها أو خيباتها الخاصة، مهما كانت شجاعة ونبالة بعض أفرادها.
* كاتب سوري