سعد الله مزرعاني *في أواخر عام 2006، أطلق قادة الولايات المتّحدة الأميركيّة، وفي مقدّمتهم الرئيس جورج بوش، سلسلة تحذيرات علنية صريحة ومباشرة وزاجرة لقادة دول «الاعتدال» العربي: «الهزيمة الأميركيّة في العراق وفي المنطقة تساوي انهيار أنظمتكم». قبل هذا التحذير، كان فشل العملية العسكرية الإسرائيلية في لبنان صيف عام 2006 قد أضاف المزيد من المصاعب للإدارة الأميركية التي عوّلت كثيراً على نجاح إسرائيل في إحداث انعطاف إنقاذي لمصلحة إعادة إطلاق مشروع «الشرق الأوسط الكبير» الأميركي.
كانت «المصالحة» الأميركيّة مع أنظمة «الاعتدال العربي» (السعودية ومصر خصوصاً) تقتضي جملة أمور متلازمة ومتبادلة. فقد كان على الإدارة الأميركية أن تلقي في سلّة المهملات ببعض شعاراتها عن الديموقراطيّة وحقوق الإنسان، وما يستدعيه ذلك من تغييرات في كلّ من مصر والسعودية... وكان على هاتين الدولتين (السعودية خصوصاً) أن تسارعا إلى الانخراط، بكامل الطاقة، في معركة الإدارة الأميركيّة ضدّ «الإرهاب» الإسلامي، أي في معركة الهيمنة (والتفرّد في الهيمنة) على مقدّرات الشرق الأوسط: ثروةً وموقعاً استراتيجيّاً وعلاقات.
من جهته، سارع بوش إلى إقرار «الاستراتيجية الأميركية الجديدة» التي أعلنها مطلع عام 2006، مقرونة بإضافة حوال ثلاثين ألف جندي إلى القوّات الأميركية العاملة في العراق. وفي العراق نفسه، عزّزت واشنطن من توجّهها لإدخال تعديلات على خطّتها وعلاقاتها مع الأطراف العراقيّة المتنازعة. فالخطّة نفسها التي اقتضت إعدام (اغتيال) صدام حسين، اقتضت بالمقابل مدّ اليد بأشكال مختلفة لـ«العرب السنّة»، ورفع شعارات من نوع المباشرة «بالمصالحة» الوطنية والتخلّي عن «قانون اجتثاث البعث».
أمّا بالنسبة إلى المملكة العربية السعودية (نموذجاً)، فقد باشرت بالفعل حملة نشيطة ضد «الفئة الضالة». لكنّ هذا النشاط ذا الطابع الأمني لم يكن الأهمّ. فالجديد كان في السياسة، وجوهره تخلّي الرياض عن دبلوماسية العمل في الكواليس، لمصلحة الانتقال للعمل المباشر والحادّ وحتى الصدامي، على النحو الذي انتهت إليه الأمور في النموذجين السوري واللبناني.
هذه التحوّلات وسواها تكرّست في إعلان تحالف هؤلاء «المعتدلين» مع الولايات المتحدة الأميركية علناً، ومع إسرائيل ضمناً.
وقد مثّل كلّ ذلك تعويضاً ما للتعثّر الأميركي في العراق. وهو قطع الطريق فعلياً على عدد من التفاعلات التي كانت قد بدأت تتراكم في غير مصلحة الولايات المتحدة (علاقات اقتصادية، صفقات أسلحة، تفاعلات سياسية وأمنية على مستوى السلطة).
في امتداد ما تقدّم، أعادت إدارة بوش صياغة خططها وسياساتها وشعاراتها في المنطقة. فإضافةً إلى شعار الحرب على «الإرهاب» (وقد كان مركّزاً أساساً على تنظيم «القاعدة») أضيفت شعارات من نوع التصدّي لمحور «الشر»، وللقوى «الداعمة» للإرهاب. وصنفت المقاومات في كل من العراق وفلسطين (الانتفاضة بمجملها) ولبنان، قوى إرهابية. وبشكل مطّرد ومتصاعد، جرى التركيز على المحور الإيراني ـــــ السوري. أثير موضوع الملف الإيراني، طرح موضوع «الهلال الشيعي».
البارز في كلّ التطوّرات، كان الإعلان الصاخب أحياناً لاندماج السياسات الأميركية وسياسات محور «الاعتدال» العربي، وإسرائيل ضمناً، في مخطّط واحد كما لم يحصل من قبل. وكان ذلك في محصّلته يشير إلى أن هذه القوى المؤتلفة، الأميركية والعربية (والإسرائيلية ضمناً) واللبنانية، قد باتت تواجه وضعاً مصيريّاً واحداً: فهي إمّا تربح معاً، وهذا ما تحاوله، أو تخسر جميعها أيضاً، وهذا ما تسعى إلى تفاديه.
وفي سياق هذه التحوّلات الكبيرة والخطيرة واللاهثة، اكتسب لبنان أهمية إضافية. اتجه أولاً التركيز الأميركي والعربي الحليف، إلى امتصاص نتائج إخفاق العملية العدوانية الإسرائيلية: جرى التدخل الفظّ لإصدار قرار غير متوازن عن مجلس الأمن (القرار 1701). جرى تقديم دعم غير مسبوق ومتعدّد الأوجه لحكومة فؤاد السنيورة. ضغطت واشنطن من أجل تعزيز وجودها الأمني في لبنان. منعت التوصّل إلى تسوية بشأن المشاركة في السلطة، ثمّ تقديم أشكال من الدعم الاقتصادي والمالي، بشكل مباشر أو غير مباشر (معظمه مؤجَّل ومشروط في «باريس 3»).
بدا بعض هذه الإجراءات ذا طابع هجومي. لكنه في الواقع، كان يستلهم مبدأ أنّ الهجوم هو أهمّ أشكال الدفاع. فقد تلاحقت الإشارات المتعدّدة، التي كانت تؤكّد أنّ موازين القوى الاستراتيجية تميل لبنانيّاً لغير مصلحة القوى الحليفة للإدارة الأميركيّة.
ولقد جاء إعلان إرسال المدمّرة «يو أس أس كول» الى مقربة من المياه الإقليمية اللبنانية في هذا السياق. حفّزته أيضاً مجموعة الاعتبارات التي توجّه السياسة الإسرائيلية الراهنة، في محاولة تدمير ما أمكن تدميره من المقوّمات الفلسطينيّة (السياسيّة والإدارية والاقتصادية والبشرية)، في الضفة الغربية المحتلة وفي قطاع غزة بشكل خاص. ولم يتأخّر طويلاً التمويه على هدف استقدام عدد من السفن الحربية الأميركية بمحاذاة مياهنا الإقليمية. وما أخفى بعضه السيد الأميركي، أظهر جلّه قائد ميليشيا «القوّات اللبنانية» السيد سمير جعجع، وكذلك رئيس «الحزب التقدمي الاشتراكي» النائب وليد جنبلاط.
إنّ وجود هذه القطع البحرية الحربية الأميركية هو في خدمة سياسة تثبيت الأوضاع القائمة في لبنان (بقاء حكومة السنيورة أو المجيء بحكومة شبيهة ورئيس جمهورية متعاون مع واشنطن وحلفائها في لبنان). هذا هو المقصود بالحفاظ «على الاستقرار». ولهذه القطع الحربية وظيفة أخرى أيضاً، هي تطمين كل أولئك الذين فقدوا الثقة بقدرة واشنطن على استمرار الإمساك بزمام المبادرة العسكرية.
وتحريك هذه القطع ليس للتغطية على ما يجري في غزّة من مجازر على يد الجيش الإسرائيلي. إنّه خطوة مكمّلة لذلك. وكلاهما جزء من محاولات متعدّدة، تجري على امتداد المنطقة والعالم، لتحسين مواقع الإدارة الأميركية ومواقع حلفائها.
إلا أن الرياح لا تجري تماماً كما تريد إدارة الرئيس بوش. حتى في غزة التي يمارس فيها أبشع أنواع القتل والمجازر، فالجيش الإسرائيلي يحاذر هناك الدخول إلى عمق القطاع. وقد اختصرت هجماته على أطراف التجمعات المستهدفة (مخيم جباليا وسواه). أما السبب، فالخشية من تكرار تجربة لبنان، أي تجربة مواجهة مقاومة غير محسوبة، من شأنها إلحاق خسائر كبيرة مادية بجيشه، فضلاً عن الخسائر المعنوية الناجمة عمّا يرتكبه الجيش الإسرائيلي من عمليات إبادة ضدّ المدنيّين الفلسطينيّين وفي المقدّمة منهم الأطفال الرضع!.
لم نشكّك يوماً في قدرة واشنطن (وتل أبيب أيضاً) على إلحاق الخسائر بهذا القطر العربي أو ذاك، وبهذه القوة المناوئة لها أو تلك. لكننا نجزم الآن، أن واشنطن باتت عاجزة عن الانتصار. وهذا العجز لا يشمل فقط الطموحات التي انطلقت مع مجيء «المحافظين الجدد» إلى السلطة في واشنطن قبل أكثر من سبع سنوات، بل يشمل أيضاً عجز واشنطن حتى عن الحفاظ على بعض مواقعها التقليدية.
للهزيمة البوشيّة ثمن لا بدّ من دفعه. وهو ثمن يتعدّى المنطقة إلى العالم بأسره. إنّه إلى حدّ كبير، نقيض ما كان يمكن أن يحصل فيما لو نجحت إدارة بوش في تحقيق الانتصار. فالمشروع الشرق أوسطي كان مشروعاً حقله منطقتنا، لكن مداه العالم بأسره.
وفي النطاق اللبناني، يمعن فريق الأكثرية النيابية في توريط لبنان في المخطّط الأميركي. حصل ذلك بدايةً تحت شعارات «الحرية والسيادة والاستقلال». لكنه اليوم يتّخذ شكلاً وقحاً، ليس فقط عبر الترحيب بالأساطيل الأميركية، إنّما في السعي إلى مجيئها، كما تشير كلّ الدلائل.
إنّ ثمن ذلك كبير جدّاً. ما حصل حتى الآن ليس الأخطر. وهذا الثمن سياسي واقتصادي وأمني. فلبنان المتورّط في الخطّة الأميركيّة هو لبنان المحكوم بالنزاعات وبالصراعات وبالتفتيت الطائفي والمذهبي. وهذه أمور من شأنها أن تهدّد ما بقي من عافيته، وقد تهدّد وجوده من الأساس!
من يتّعظ؟
* كاتب وسياسي لبناني